التقنية والإنسان الجديد “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود”

لا يخفى على أحدٍ اليوم أن العالم يعيش على إيقاع ثورةٍ تكنولوجية يمكن وصفها بثورةٍ كوبرنيكيَّة، جعلت من التقنية كينونة الإنسان المعاصر، الشيء الذي أعطى للحياة الإنسانيَّة هويَّةً جديدة؛ إذ سادت السبرنطيقاالرقميَّةفي كلِّ مناحي الحياة وتحوَّل الهاتف الذكيُّ (سمارت فون) إلى عضوٍ بيولوجيٍّ جديدٍ تستحيل الحياةُ بدونه.

وبالنظر الى نمط عيش الإنسان الجديد، يمكننا القول: إنَّ التكنولوجيا أحدثت انقلابًا جذريًّا في الحياة المعاصرة…وكنتيجةٍ لهذا التطوُّر عرف العالم تحوُّلاتٍ جذريَّةٍ انعكست على مختلف مناحي الحياة الإنسانية، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، خاصة مع ظهور الهواتف الذكيَّة ووسائل التواصل الاجتماعيّ، هذه الأخيرة غدت ملاذًا للعيش والتواصل بفضل نتائج التقنية والتأثير السيبرانيِّ وما وفَّرته من وسائل تخدم الإنسان في علاقته بذاته وبالعالم.

هذه الوسائل التي أفرزتها التكنولوجيا تحوَّلت إلى ضروراتٍ طبيعيَّةٍ تنثر سحرها الأخَّاذ على الوجود الإنسانيّ، بفضل التكنولوجيا المعلوماتيَّة -الرقميَّة المتطوِّرة- والشبكات العنكبوتيَّة التي جعلت العالم يتحدَّث لغةً واحدة، خاصَّةً مع استحداث المنصَّات الإلكترونيَّة التي أصبحت فضاءً للتداول والتفاعل بين أفراد المجتمع الافتراضيّ، بوصفه مجتمع الثورة الرقميَّة التي أدمجت نظم الدلالات الثلاثة المعروفة: المكتوب/ الصوت/ الصورة، وذلك في نظامٍ يمكِّن من نقل الصوت والصورة والكتابة بسرعة الضوء، ممَّا جعل الإنسان المعاصر يستمدُّ هويَّته من هذا النظام السبرنطيقي المعولَم والعجيب، فانعكس ذلك على نمط عيش الإنسان ونظرته للحياة، وغدت هذه الأخيرة ضرورةً من ضروريَّات الحياة، وملجأً يهفو إليه الجميع، لما تنتجه هذه الوسائل من هامش التواصل بكلِّ حريَّة؛ الشيء الذي ساهم في بناء رؤيةٍ مُغايرةٍ للإنسان والعالم.

إنَّ هذا التطوُّر التكنولوجيَّ خلف جيلًا جديدًا له كينونةٌ ورؤيةٌ خاصَّةٌ للحياة وقضايا المعيش اليوميّ، حيث أصبح ما هو إنسانيٌّ امتدادًا لما هو تقنيٌّ-رقميّ، ممَّا جعل الفيلسوف ميشل سير ينعته بجيل الأصبع الصغير (poussiette petite) بقوله: “ومن دون أن نلاحظ نحن أيَّ شيءٍ قد وُلِدَ الإنسان الجديد” وميلاد إنسانٍ جديدٍ تعني ميلاد جيلٍ لا يفارق هاتفه النقَّال الذي تحوَّل إلى رفيقٍ مفضَّلٍ ومعشوقٍ جديدٍ لا يُستطاع استنشاق الأكسجين بدونه؛ فنجد طفلًا تجاوز فترة الرضاعة بأيامٍ قليلةٍ قادرًا على استخدام إصبعه الصغير والسباحة في عالم الإنترنت ومشاهدة مقاطع مصوَّرةٍ واختيار لعبةٍ الكترونية.. بل أكثر من ذلك تجده قادرًا على نقر أبواب العوالم الافتراضيَّة عبر كلِّ التطبيقات المتاحة، إنَّه الإنسان الجديد على حدِّ تعبير الفيلسوف؛ والإصبع الصغير كما سبق الذكر؛ يشير إلى الجيل الجديد الذي أفرزته الحياة المعاصرة خلال العقود الماضية عبر ما وفَّرته التقنية من إمكانيَّاتٍ تواصليَّة-رقميَّة جعلت من المستحيل مُمكِنًا؛ فوُلِدَ “إنسانٌ مُنعزِلٌ أمام شاشته وبعيدٌ عن جماليَّات الطبيعة ومُغترِبًا عنها”.

وهكذا فالإنسان المعاصر الذي اغترب عن الطبيعة وجماليَّاتها، لم يعد يهمُّه البحث عن مكامِن الجمال بالتجربة المباشرة، بل يبحث عن الجمال من وراء شاشاتٍ تصوِّر، وتدقِّق، وتضفي على ما تصوِّره لمسةً يدويَّةً خاصَّةً -ونحن نتحدَّث هنا- عن فترة هيمنة الصورة.

إعلان

هذا التحوُّل ليس وليد الصدفة، بل مرجعيَّةُ انطلاقه هي سلطة الصورة التي ترسَّخت بفضل وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، اذ نجد هذه الأخيرة قد كرَّست ثقافةَ العين على حساب ثقافة الفكر؛ الافتراضيَّ على حساب الواقعيّ، فلم يعد للكوجيطو الديكارتي “أنا أفكِّر إذَن أنا موجود”في زمن “المباشر” السطحيِّ (اللايف) وثقافة الصورة- ذلك التأثير والزخم، رغم ما أحدثه من ثورةٍ فكريَّةٍ وعلميَّةٍ في العصر الحديث. فإذا كان الوعي أساس إثبات الأنا، مع ديكارت، فقد أصبحت الأنا في عصر التكنولوجيا عبارةً عن ظاهرٍ منمَّق، ولم يعد للذات المفكِّرة وزنًا في تجلياتها، بل صارت الذات رهينة حياةٍ افتراضيةٍ وصلت بها حدَّ الإدمان، والنتيجة هي الانتقال من براديغم الأنا المفكِّرة-الواقعيَّة إلى براديغم الأنا الرقميَّة-الافتراضيَّة، أو على حدِّ تعبير المفكِّر وعالم النفس الاجتماعيِّ المغربيِّ مصطفى شكدالي: قد تشكَّلت هويَّة وسيكولوجيَّة الإنسان المُرَقْمَن الذي يعيش في عالمٍ افتراضيٍّ موازي… وهذا التحوُّل الخطير هو ما حاولت إلزا غودار تحليله وتعميق النقاش فيه من خلال كتابها “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود .. تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضيّأملًا في إيجاد حلولٍ لمَخاطِره على الذات والإنسان عمومًا.

نجد المحللة النفسانيَّة والفيلسوفة الفرنسيَّة إلزا غودار تؤسِّس لكوجيطو جديدٍ وهو: “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود” مستحضرةً بذلك ما يعيشه الإنسان اليوم في ظلِّ الثورة التكنولوجيَّة من خلال كتابها أنا أوسيلفي إذن أنا موجود تحولات الأنا في العصر الافتراضي؛ فموضوع الكتاب هو السيلفي الحاضن لكلِّ أشكال الوهم والتيه والزيف الذي يكتنف الحياة المعاصرة.. فاختيار المؤلِّفة إلزا غودار “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود” عنوانًا لكتابها، بديلاً لعبارةٍ أساسيَّةٍ في تاريخ الفلسفة فيما يصطلح عليه بِـ “الكوجيطو الديكارتي” : أنا أفكِّر إذن أنا موجود -لفيلسوف عصر النهضة الفرنسيِّ رينيه ديكارت- تشير إلى أنَّ السيلفي وصلت إلى مرحلة ٍبالغة الأهميَّة، وهي شهادة إثباتٍ على رسوخ قدم “الذات الرقميَّة الافتراضيَّة” في الحياة الاجتماعيَّة، وبلوغها مرحلةً بالغة الحساسية؛ إنَّها بتعبيرٍ أدقَّ رؤيةٌ جديدةٌ بشكلٍ أو بآخر، أو لنقُل هي بمثابة عادةٍ مستحكَمةٍ في حياة الإنسان المعاصر، بحيث يتعذَّز الاستغناء عنها أو تجاهلها في المستقبل البتَّة. وهي مؤشرٌ حقيقيٌّ على ميلاد ذاتٍ رقميَّةٍ أو أنا جديدةٍ ينبغي ويُفترَض إعادة خلقها باستمرارٍ كشرطٍ مُهمٍّ لثورةٍ أكثر جديَّةٍ وتحرُّرًا من ذي قبل.

إنَّ هذا التحوير الذي قامت به غودار على غرار الكوجيتو الديكارتي لم يقتصر على مستوى العبارة فحسب، بل تجاوَزه وتعدَّه -باعتباره محاولةً جادَّةً وعمليَّة- أريد بها وضع الإنسان أمام حقيقةٍ أنطولوجيَّةٍ فيما يعيشه هذا الكائن من قطائع تنقله من براديغمٍ لآخر، ما يُنتِج عنه تحوُّلاتٍ مجتمعيَّةً جذريَّةً تعصف بمسلَّمات وقناعات العصر السابق؛ وتكشف حجم الانقلابات التي مسَّت الحياة الإنسانيَّة في الصميم بفعل التطوُّر التكنولوجيّ، فقد حاولت الكاتبة الإحاطة بالتغيُّرات البنيويَّة التي مسَّت الوجود الإنسانيّ؛ إذ نعيش في عصرٍ تهيمن فيه التقنية وتسلب فيه المواقع الافتراضيَّة وجودنا الخاصَّ والاجتماعيّ. فما نسمِّيه عالَمًا افتراضيًّا حسب بيير ليفي أصبح يستوعب، تقريبًا، كلَّ شيء: أجسادنا وذكاءنا ورسائلنا ونصوصنا وما نمتلك ونتبادل، كلُّ هذا مسَّته -اليومَ- حركةُ التحويل إلى الإفتراضيّ. هذه الحركة السريعة والمعولَمة مسَّت حتَّى طرقنا في أن نكون معًا، إذ أصبح بالإمكان أن نكون “مجموعةً افتراضيَّة” أو “أصدقاء افتراضيين” أو “مؤسسةً افتراضيَّة” أو “ديمقراطيَّةً افتراضية”

وانطلاقًا من مسألةٍ تبدو لنا سهلةً وعاديَّة؛ انتبهت إلزا غودار بحسٍّ فلسفيٍّ رصينٍ أن انتشار ومشاركة الصور الخاصَّة عبر منصَّات التواصل الاجتماعيّ؛ ولَّد هيمنةً خفيَّةً تجلَّت في سلطة الصورة وتأثيرها في الواقع الاجتماعيّ، بحيث يعمد الكلُّ إلى التهافُت في التقاط الصور بشكلٍ غريب لم يسبق له مثيلٌ بغيَّة تسريع وتيرة نشرها في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي.. فظهرت موجة الصورة الذاتيَّة أو ما يصطلح عليه ب”السيلفي” التي أصبحت نمطًا لوجود الكائن المعاصر، وتعبيرًا واقعيًّا عمَّا نعيشه اليوم من استلابٍ واغترابٍ في ظلِّ هيمنة التقنية؛ ما أدَّى إلى ترسيخ قناعةٍ نظريَّةٍ مفادها أننا نعيش في عالمٍ جديد؛ عالم الهواتف الذكيَّة والتكنولوجيا الساحرة التي استحوذت على حياتنا ووقتنا؛ وصارت ثقافةً تسكنُنا على نحوٍ غريب، ولم نعد قادرين على فراقها؛ اذ انتشرت واخترقت كلَّ الأمكنة الخاصَّة والعامَّة.

وبعودتنا إلى الرَجَّة الكبيرةِ التي أحدثها الهاتف الذكيُّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ، يمكن القول: إنَّنا نشهد اليوم بروز جيلٍ جديدٍ يعيش في عالمٍ مختلفٍ بشكلٍ جذريٍّ عن العوالم الواقعيَّة التي عاش فيها أسلافنا، ما شكَّل انقلابًا في بنية التفكير وطريقة النظر للواقع، وفي تشكُّل النسيج المجتمعيّ، وبطبيعة الحال ظهر “براديغم” جديدٌ قَلَبَ أساليب العيش ونمط الحياة اليوميَّة وساهم في بناء كينونة الإنسان الجديد الذي يمتلك هويَّةً تستمدُّ أُسُسها من قواعدَ وبياناتٍ رقميَّةٍ مشفَّرة؛ إنسانٌ يرى أنَّ الغاية الكبرى من الوجود هي امتلاك هاتفٍ ذكي متطوِرٍ لالتقاط الصور وتحميل التطبيقات والألعاب الإلكترونيَّة. كلُّ هذا نابعٌ من سلطة التقنية التي اقتلعت الإنسان من وجوده الأصيل وجذوره الطبيعيَّة الخالصة، وأدخلته عالم الوهم والزيف، ليصبح نمط الوجود مع الأغيار تافهًا بروتينٍ يوميٍّ قاتل، فانتصرت بذلك “الدوكسا” على حساب الحقيقة.. وكاستجابةٍ موضوعيَّةٍ لتحوُّلات العصر والهيمنة التي فرضها الهاتف الذكيُّ تُبَيّنُ إلزا غودار ما خلفته ثقافة “السيلفي”، أو لنقل ثقافة “أنا أوسيلفي إذن انا موجود” التي تجسِّد “كوجيطو” العصر الجديد.

فماذا نقصد بالسيلفي؟

بدايةً يمكن القول أنَّ السيلفي إفرازٌ تقنيٌّ لعصر “الفيسبوك” و”الوتساب والتكتوك، ونتيجةً طبيعيَّةً لما وصل إليه الإنسان من إنجازاتٍ تكنولوجيَّةٍ خارقةٍ تخصُّ عالم الهواتف الذكية، و“السيلفي” يعدُّ مصطلحًا انتشر في الأعوام القليلة الماضية كالنار في الهشيم، ويدلُّ على الصورة الذاتيَّة التي يلتقطها الشخص لنفسه بشيءٍ من العفوية، باستعمال إحدى الهواتف الذكيَّة، ولغاية نشرها في منتديات التواصل الاجتماعيّ، ومن ثمَّ الاستمتاع بما يشبه الشهرة لبعض الوقت؛ تجربةٌ تذكرِّنا بما قاله المفكِّر الأميركيُّ ألفن توفلر في كتابٍ أصدره قبل نحو ثلاثة عقود “حضارة الموجة الثالثة” حين قال:“إنَّ الثورة التكنولوجيَّة الجارية ستمنح لكلِّ شخصٍ فرصة أن يصبح مشهورًا لمدة ثلاث دقائق على الأقلّ”. لذلك فالثورة الالكترونيَّة تُعَدُّ انقلابًا جذريًّا على المألوف أو لنقُل تعبيرًا عن رؤيةٍ جديدةٍ لا يمكن تجاهل تبعاتها في الحاضر والمستقبل. إنَّها تؤشِّر أيضًا على ميلاد ذاتٍ رقميَّة، يُعاد خلقها باستمرارٍ كشرطٍ لثوراتٍ جديدة.

ويمكن أن نتأمَّل اليوم علاقتنا بهاتفنا الذكيِّ لكي نفهم ما يجري في عالمنا المعاصر؛ فعندما نقوم بزيارة أقاربنا، عوضًا عن تبادل أطراف الحديث وتثمين وشائج القرابة وتقوية الأواصر، أوَّل ما يبدأ به الحوار يكون سؤالًا عن الرمز السري “للوايفاي”، ثم تبادل مقاطع “فيديو” عبر تطبيق “التيكتوك”، فكيف يمكن إقناع جيلٍ اليوم بترك هواتفهم الذكية وحمل كتابٍ عن الفكر والفلسفة أو قراءة قصيدةٍ لمحمود درويش، أو روايةٍ لنجيب محفوظ؟ وكيف سنقنع جيل “السيلفي” بأهمية الشعر والفلسفة؟..

إنَّ جيل اليوم يسكن عالمًا زجاجيًّا معزولًا عن الواقع فاقدًا بذلك قدرته على الفعل والاختيار، حتَّى ظهر إنسانٌ جديدٌ مكبَّلٌ بخيوط التكنولوجيا، بل أصبح مُنقادًا نحو عبوديَّة التقنية، ويؤكِّد سعيد بنكراد على أنَّ الإنسان في علاقته بهاتفه الذكيِّ وصل إلى حدِّ الإدمان، فلو اختفت شبكات التواصل الاجتماعيّ، لأصيب نصف العالم بالجنون والاكتئاب، ويضيف في هذا الصدد واصفًا ما يحدث في مواقع التواصل بالاستعراء الكامل، حيث تساءل عن الفرق بين كيم كاردشيان، وهي نجمةٌ مزيَّفةٌ لا تملك من المواهب سوى “فيضٍ من اللحم” تنشره في الفضاء الافتراضيِّ على مدار الساعة، وبين مجموعةٍ من المتعلِّمين الذين يقضون اليوم بأكمله يتحدَّثون عن تفاصيل حياتهم اليوميَّة، التي كانت إلى الأمس القريب تُعَدُّ جزءًا من “حميميَّةٍ” يحرص الناس على حمايتها من أشكال التلصُّص والمراقبة.

يظهر-إذًا- أنَّ أكبر لصٍّ في هذا العصر هو الهاتف المحمول؛ لصٌّ محترفٌ جدًا؛ سرق العقول والأوقات والعلاقات؛ سرق حتَّى خصوصيَّاتنا وربَّما كان سببًا في خراب بيوتنا، والعجيب أنَّنا من أدخلناه بيوتنا وحياتنا، فنجد الكلَّ منعزلًا في عالمه الخاصِّ به، بل كلُّ واحدٍ اختار زاويته المفضَّلة بعيدًا عن أعين الآخرين، والكلُّ ينقر على هاتفه الذكيِّ ويسبح لوحده في عالمٍ دون مبالاة بالآخرين؛ فالهاتف الذكيُّ إذًا أحدث ثورةً جذريَّةً في علاقتنا بذواتنا ومع الاَخرين، وقد استغرقَنا -رغمًا عنَّا- كما لو أنَّنا أصبحنا “لعبة” دون إرادة منَّا على حدِّ تعبير مترجم الكتاب سعيد بنكراد.

لقد اجتاحت التكنولوجيا بكلِّ صورها وصراعاتها حياتنا، ولعلَّ صورَ السيلفي نموذجٌ لهيمنة التقنية على الإنسان؛ حيث سلبت منه وجوده الأصيل وجعلته يعيش في عالمٍ افتراضيّ؛ أي عالم الصور المزيَّفة؛ إذ يبدو الإنسان في هذا العصر بدون سلطةٍ على مصير الوجود، وبالتالي لا يجب عليه -حسب هيدجر- أن يشرع في أيِّ نشاطٍ أو تمرُّد، وإلَّا سقط في فخِّ الفكر الأداتيّ الذي يحوِّله إلى مجرَّد آلة؛ فلا يوجد فعلٌ إنسانيٌّ يمكنه أن يغيِّر جوهر التقنية، إذ وصل الكائن البشري إلى حدِّ العبوديَّة إن صحَّ التعبير، فالواقع التكنولوجيُّ الراهن هو واقع استعبادٍ للإنسان لا واقع تحرُّره، حيث أنَّ الآلة حلَّت محلَّ الإنسان وجعلته خادما لها وبِلُغة إلزا غودار: “فقد خضع وعينا في كليَّته لخلخة، لقد بدأنا نبتعد شيئًا فشيئًا عن أنفسنا”، وعن إنسانيَّتنا، لأنَّنا صرنا مقيَّدين وما زلنا نظنُّ أنَّنا نعيش في حريَّةٍ وإنسانيَّة، والأمر ليس كذلك.. ومنه يمكن القول أنَّنا نعيش في عصرٍ تاريخي يتحدَّثٌ لغة الصورة، ولنقل صورًا بلا حياة، بل صورًا على حساب الحياة. إنَّه سطوٌ غير مسلَّح، بل سطوٌ ناعمٌ جعلنا نعيش في سجنٍ زجاجيٍّ اخترناه بكلِّ وعيٍ وحريَّةٍ غير آبهين بمصيرنا، فأغمض الإنسان عينيه، وسُلبت منه إنسانيَّته وانحطَّت قيمته الوجوديَّة تحت ضغط عجلة الرأسمال واللبيراليَّة التي وضعته في منزلة الأشياء.

لائحة المقالات والمصادر المعتمدة:

1- إلزا غودار “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحولات اللأنا في العصر الإفتراضي” ترجمة – وتقديم: سعيد بنكراد المركز الثقافي للكتاب الطبعة الأولى: ٢٠١٩.

2- ميشال سير.الإصبع الصغيرة، ترجمة وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر،٢٠١٢ بالنسبة للنسخة الفرنسية، و٢٠١٤ بالنسبة للنسخة العربية.

3- كمال بومنبر، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر الى إكسيل هونيث ، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت ٢٠١٠ ص٥٨ و٥٩…

4- بيير ليفي: عالمنا الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟، ترجمة رياض الكحال؛ هيئة البحرين للثقافة والترجمة؛ مقدمة الكتاب.

5- سعيد ناشيد، ثقافة السيلفي، مقال منشور في مجلة العرب الخميس ٢٠/٨/٢٠١٥

6- مصطفى شكدالي، سيكولوجية الانسان المرقمن؛ محاولة لبناء براديغات جديدة، محاضرة بكلية الاداب والعلوم الانسانية، جامعة القاضي عياض؛ مختبر العلوم الاجتماعية والتحولات المجتمعية؛ ٢٠٢٢/٣/١١.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كمال السكيس

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا