التوافق بين التصميم والتطور

يعتقد الكثير من الناس أن هناك تناقض بين القول بتطور الكائنات الحية من بعضها البعض عبر الزمن والقول أنها مُصممة بواسطة مُصمم ذكي في نفس الوقت، فإما أن تقبل التطور وترفض التصميم الذكي وإما العكس، لكن في الواقع لا يوجد أي تناقض بين القول بالتطور {تغير الحياة عبر الزمن} والقول في نفس الوقت أن الحياة مُصممة بواسطة مُصمم ذكي.

الأغلبية الساحقة من علماء وفلاسفة كوكب الأرض مؤمنين ولا-دينيين (بمن فيهم مُنظري التصميم الذكي مثل مايكل بيهي وويليام ديمبسكي وأشهر الملاحدة مثل ريتشارد دوكينز ومايكل روز) يتفقون على أن الحياة تغيرت عبر الزمن وعلى أن هناك ”تصميم“ داخل أجسام الكائنات الحية“، فهذه حقائق لا يمكن إنكارها، لكنهم يختلفون فقط في الطريقة التي يفسرون بها ”كيف حدث هذا التطور، وكيف ظهر ذلك التصميم؟؟“.

التناقض هو في الحقيقة ليس بين عملية التطور البيولوجي والتصميم الذكي بل بين نظرية التطور الداروينية وبعض النسخ المُعدلة منها والتصميم الذكي.

نظرية التطور الداروينية (neo-Darwinism)

نظرية التطور الداروينية هي أحد محاولات العلماء للإجابة على سؤال ”كيف حدث هذا التطور، وكيف ظهر ذلك التصميم الذي نراه عندما ننظر لأي كائن حي؟” – تفترض هذه النظرية أن ذلك حدث بدون ”تدخل من كينونة واعية“ بل من خلال الآليات الطبيعية اللاواعية وحدها، والآلية الأساسية المُقترحة لتفسير ظهور الكائنات الحية من خلال هذه النظرية هي آلية الانتخاب الطبيعي للطفرات النقطية العشوائية، حيث تتراكم التغيرات الجينية الصغيرة في أجسام الكائنات الحية على مدار ملايين السنين ثم تقوم الطبيعة باصطفاء التغيرات الجينية التي تمنح الكائنات الحية صلاحية تطورية تمكنهم من البقاء والتكاثر وهكذا تتكرر هذه العملية عبر الزمن فتظهر أنواع جديدة بشكل تدريجي.

فهذه النظرية تقول باختصار أن الطبيعة قادرة من تلقاء نفسها على إنتاج كافة أعضاء الغلاف الحيوي ولم يكن هناك مُصمم مُستقل وراء ظهور هذه الكائنات، وهذا بالتأكيد يناقض التصميم الذكي.

إعلان

بعض العلماء مثل جيري كوين (بروفيسور علوم التطور والبيئة في جامعة شيكاغو) ودوغلاس جاي فوتويما (بروفيسور علوم التطور والبيئة في جامعة ستوني بروك) وغيرهما، يعتقدون أن هذه الآلية المذكورة بالأعلى كافية لشرح ظهور الكائنات الحية، وهناك آخرين يعتقدون أن ذلك غير-صحيح وأنه يجب تعديل هذه النظرية حتى تتمكن من تفسير وجود ”التصميم“ الذى نراه في الكائنات الحية.

النسخ المُعدلة من نظرية التطور الداروينية

هناك عدد كبير من العلماء الذين يرفضون التصميم الذكي لكنهم في نفس الوقت يؤكدون أن آلية الانتخاب الطبيعي التدريجي للطفرات النقطية (الصغيرة) العشوائية غير قادرة على تفسير التصميم الذي نراه في العالم الحيوي، من ضمن هؤلاء العلماء: لين مارغوليس (عالمة أحياء وأستاذة في جامعة ماساتشوستس)، دينيس نوبل (عالم أحياء وأستاذ في جامعة أوكسفورد)، جيمس شابيرو (عالم أحياء وأستاذ في جامعة شيكاغو)، كيفن لالاند (عالم أحياء وأستاذ في جامعة سانت أندروز)، ستيورات كوفمان (عالم أحياء في جامعة بنسلفانيا) وغيرهم.

يُضيف هؤلاء العلماء مع آلية ”الانتخاب الطبيعي للطفرات النقطية العشوائية“ آليات طبيعية متعددة أخرى لتفسير ظهور الكائنات الحية مثل: ليونة النمط الظاهري (Phenotypic plasticity)، التهجين (Hybridization)، التطفير الكبير والسريع من خلال العناصر الجينية المتحركة (Mobile genetic elements)، الإيڨو-ديڨو (Evo-devo)، الوراثة فوق الجينية (Epigenetic inheritance)، بناء الموطن (Niche construction)، التعايش التكافلي الداخلي (Endosymbiosis).

فظهرت الكثير من البدائل لنظرية التطور الداروينية مثل: التطور بفعل الهندسة الوراثية الطبيعية (Evolution by natural genetic engineering)، اللاماركية الجديدة (Neo-lamarkian evolution)، التطور المدفوع بالطفرة (Mutation-driven evolution)، التطور التكافلي (Symbiotic evolution)، التطور بفعل التنظيم-الذاتي (Evolution by self-organization).

لكن كل هؤلاء العلماء مازالوا يتفقون مع منظري الداروينية الجديدة على أن وجود مُصمم مُستقل عن الكائنات الحية غير ضروري لتفسير وجودهم وأن الطبيعة من تلقاء نفسها قادرة على إنتاج كافة الكائنات الحية وبالتالي فهذه النسخ المُعدلة تناقض هي أيضاً فكرة التصميم الذكي (تدخل واعي من مُصمم).

هل نجحت الآليات الطبيعية اللاواعية وحدها في تفسير وجود الغلاف الحيوي؟

يُجادل منظري التصميم الذكي وهم عدد قليل من العلماء في الوقت الحالي أن أفضل تفسير لوجود ”التصميم“ الذي نراه في الحياة هو وجود مُصمم مُستقل يُطور الكائنات الحية من بعضها البعض وأن الطبيعة غير-قادرة من تلقاء نفسها على إنتاج أغلب ما نراه في العالم الحيوي مثل الآلات الجزيئية المُعقدة التي تملأ أجسام الكائنات الحية كالسوط البكتيري بل يجب أن تحدث ”عمليات تدخل من كينونة واعية“ حتى تظهر هذه الأشياء. وبالفعل لم ينجح أي أحد من العلماء المذكورين بالأعلى أو غيرهم حتى يومنا هذا في تفسير وجود العالم الحيوي من خلال الآليات الطبيعية المذكورة بالأعلى وحدها (انتخاب طبيعي، طفرات نقطية، الطفرات الكبيرة {Macromutations} من خلال العناصر الجينية المتحركة أو التعايش التكافلي الداخلي، التهجين، الوراثة فوق الجينية، الإيڨو-ديڨو …. إلخ).

فمثلاً في عام 2021 أعلنت واحدة من أكبر الجامعات البريطانية وواحدة من أرقى جامعات العالم (Imperial College London) عن منح تمويل قدره 1.4 مليون دولار لفريق من العلماء (علماء من فرنسا ونيوزيلندا وألمانيا وبريطانيا) على مدي 3 سنوات ليبحثوا في أصل السوط البكتيري وكيف تطور.

منذ أن نشر عالم الكيمياء الحيوية ومُنظر التصميم الذكي الشهير مايكل بيهي كتابه البارز (صندوق داروين الأسود) وعرض فيه حجة التعقيد غير القابل للاختزال ضد الداروينية وعلى ضرورة وجود مُصمم ذكي لتفسير وجود الكائنات الحية عام 1996 وحتى الآن، فعلماء كوكب الأرض عاجزين كما ذكرت عن معرفة كيف تطورت بالآليات الطبيعية وحدها آلة جزيئية واحدة فقط من الآلات التي تملأ أجسام الكائنات الحية وهي السوط البكتيري وما زالوا يبحثون عن ذلك التفسير الطبيعي، بتعبير موقع أخبار الجامعة نفسه: ”بالنسبة لعلماء البيولوجيا التطورية، فإن السوط البكتيري هو لغز دائم“.

حتى الحواسيب تفشل في إثبات قدرة الآليات الطبيعية وحدها على إيجاد الكائنات الحية وتؤكد على ضرورة وجود المُصمم الذكي لتفسير وجودهم،

عندما يقوم علماء الحوسبة التطورية (Evolutionary Computation) بمحاكاة عملية التطور على أجهزة الكمبيوتر عن طريق خوارزميات تطورية (Evolutionary Algorithms) أي خوارزميات تستعمل آليات التطور من طفرات عشوائية وانتخاب طبيعي … للوصول لهدف معين، فإن هذه الخوارزميات لا تنجح عموماً بمفردها بشكل تلقائي في الوصول إلى ذلك الهدف، بل تتطلب دوماً عمليات تدخل واعية من عالم الكمبيوتر ليضبط بدقة العديد من العوامل مثل معدل التطفر والظروف البيئية وحجم السكان.

بكلمات عالم الكمبيوتر من جامعة أوكسفورد بيتر جيفونز: ”الحقيقة المحزنة هي أن الأساليب التطورية …. لا تحقق عمومًا نتائج مرضية إلا بعد قدر كبير من التعديل والضبط والتطوير“.

فالتطور لا يعمل من تلقاء نفسه كما تفترض النظريات المادية المذكورة بالأعلى بل يعمل فقط بتدخلات من كينونة واعية وهذا متوافق مع التصميم الذكي.

هل هذا احتكام للجهل؟

حجة التصميم الذكي ليست قائمة على فجوات العلم كما يدعي علماء التطور، هي ليست نحن لا نملك التفسير الطبيعي الآن إذاً المُصمم الذكي موجود، بل لن يجد علماء التطور أصلاً هذا التفسير الطبيعي أبداً مهما حاولوا لأن أدلة الواقع نفسه – كسنوات طويلة من البحث في مجال الحوسبة التطورية مثلاً كما يذكر بيتر جيفونز أو التعقيد غير القابل للاختزال – تؤكد أنه لابد من حدوث تدخلات من كينونة واعية لتظهر الكائنات الحية. فهناك حجج إيجابية تدعم التصميم الذكي وليس مجرد العجز عن الإتيان بتفسير طبيعي هو نفسه الدليل على التصميم الذكي. العجز عن الإتيان بتفسير طبيعي حتى الآن يُقوي فقط حجة التصميم الذكي. لأن منظري التصميم الذكي قد تنبؤا منذ سنوات عديدة بأن الآليات الطبيعية اللاواعية ستعجز عن تفسير وجود الكائنات الحية ولم يتم تخطئة كلامهم حتى الآن كما ذكرت.

وإلا فمنظري التصميم الذكي يستطيعون عكس نفس اللعبة على علماء التطور، فبعض علماء التطور مثلاً يجادلون هكذا:

  • 1) أغلب الحمض النووي في أجسام الكائنات الحية مجرد خردة لا فائدة منها وهناك بالفعل حجج إيجابية تدعم وجود الحمض النووي الخردة
  • 2) من المستحيل أن تكون هذه أفعال مصمم ذكي.
  • 3) إذاً التطور حدث بلا مصمم.

فكما يرد التطوري على حجج منظري التصميم الذكي بأنه في المستقبل قد نكتشف آليات طبيعية جديدة تفسر وجود كافة الكائنات الحية على سطح الأرض بدون تدخل من كينونة واعية وإن كنا عاجزين عن ذلك الآن.

يستطيع منظر التصميم الذكي أن يقول في المستقبل العلم سيكتشف وظائف ما يُسميه علماء التطور ”خردة“ الآن وبالتالي سقطت حجة عالم التطور وهذا احتكام للجهل. وطبعاً وجود بعض العيوب في الكائنات الحية مثل التشوهات الخلقية أو وجود أعضاء أو جينات بلا وظيفة لا ينفى بالتأكيد التصميم الذكي، التصميم الذكي لا يَشترط أن يبلغ المُصمم الكمال المطلق {Optimal design} في صنعته، هذا إلزام فاسد من علماء التطور، فمثلاً الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والسيارات الحديثة تدل ضرورة على أنها نتاج عقول ذكية لكنها كلها معيبة بقابلية الكسر وفساد برامج التشغيل وتعطل آلية الشحن فهي وإن كانت معيبة من وجه إلا أنها تكشف عن ذكاء صانعها من الأوجه الأخرى – هذا مثال فقط لإيصال ما أريد إيصاله-.

أو يقول في المستقبل سيؤكد العلم أكثر وأكثر أنه لا توجد أي آليات طبيعية قادرة على تفسير وجود الكائنات الحية ولابد من حدوث عمليات تدخل من كينونة واعية.

فبهذه الطريقة يستطيع أي شخص أن يجادل ضد أي شيء وكل شخص يتخيل المستقبل كما يهواه.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسام جمال

اترك تعليقا