“تخيلاتي الشريرة” لنينا بوراوي: انفعال الذوات والعالم.

هذا زمن الغناء، لأنَّ بعض الناس يصادرون الكتابة.

-نينا بوراوي

ما سوف نقرأه هو عمل أدبيّ كان صنيعةَ عاطفةٌ عجائبيَّةٌ عاشت مع صاحبتها، سنقرأ فيه عن الحب وحكايات الطفولة وأشياء من الخوف والموت التي يستحيل أن تفارق الانسان، ويكتسح العنف صفحاته ليجعله ساحة قتالٍ وحلبة صراعاتٍ حدثت بالفعل وهناك أخرى متخيَّلة.

في “تخيلاتي الشريرة” للروائية الفرنسية الجزائرية نينا بوراوي (1967) سنكتشف شيئًا من حياتها التي تنقسم إلى عدِّة حيوات، مع غرابةٍ شديدةٍ تحاصر حياتها والعالم، وآثارٌٍ لأيامٍٍ مضت لن ترجع مجددًا، غير أنَّها ستشكِّل ذاتها طيلة أيامها القادمة في وطن جديد غير الأول.

اللغة الشعرية والكتابة

لا تقدِّم نينا بوراوي تخيُّلاتها الشرِّيرة في روايةٍ عادية يحكمها المنطق وتسلسل السرد، فهي تقتربُ من سيرة ذاتيَّة تغرق في التشتُّت؛ وقطعٍ فنيَّة تؤرِّخ لحياتها متناثرة في كل مكان، تكتبُ فيها بالوثب بطريقةٍ تذكِّرنا شيئًا ما عن أسلوب حكايات ألف ليلة وليلة، قافزةً من مكان لآخر، مع تكثيفٍٍ للوصف وتعقيدٍ يستدعي التركيز من القارئ.

إنَّ لغتها ليست جامدة، فلا تحتوي على وصفٍٍ روتينيّ وحكاياتٍ مباشرة، وإنَّما إنَّ مادتي الشعر والبوح يتسلَّلان إلى العمل، حتى يجد القارئ نفسه متذوِّقاً لا لمجرَّد كلمات ولكن لمشاعر الكاتبة وأعماقها التي تأتينا ملغمَّة، هذا لأنَّ كتابتها مثلما تزعم ترتبط بالحب وبالغضب وبالأشخاص والحياة، باستثناء الجنس الذي لا تستطيع الكتابة عنه ورغم ذلك فالكتابة في موقع آخر هي (فعل جنسي) كما تصف.

وتحمل كلماتها تناقضات وانزياح شعرية لا تلتقي مع الواقع فتكتب عن (الضوء الأسود والشمس الباردة) وتتذكَّر ما يستحيل تذكَّره مثل (الموت ونشأة الكون)، فكل شيء يُقبِل إليها وليست هي من تفعل فـ(البحر يأتيها ناهيك أنها (هي من تصنع الجزائر لا الجزائر.) ويتحوَّل سقف غرفتها الى سماء (تتعلق النجوم به). في أوصاف شعرية داخل أعماقِ عملٍ يلقي بعقل الرواية خارجًا. وهي لا تهتم بأقاربها الذين يجدون في كتابتها نصوصًا بذيئة تفضح كل شيء. فالكتابة هي جزء من ذاتها وأضف إلى أنَّها مثل السحر تنجذب إليها من دون اِجهاد.

إعلان

وتحمل الكلمات وجهين كما تزعم وجه الحقيقة ووجه للكذب، ورغم كل ذلك فالحقيقة هي (حقيقتها وحدها). إنَّ الكتابة إذن تلتصق برأسها وقلبها وتكون حاضرةً حتى قبل أن تكتبها، كما أنَّها سجنٌ بتعبيرها، (ووسيلتها النهائية وسلاحها).

ومثل الحب هي بمثابة تطهير للأشياء التي تؤرقنا ونكتب عنها، فالكتابة عن الشرّ محاولة للتخلّص منه. ما يجعل ذلك عبئًا ينزاح عن عاتقنا حين نمسك القلم لنعبِّر عنه ونخوض فيه.

ولا تنفصلُ الكتابة عن القراءة لأنَّ هذه الأخيرة حسبها تبعدنا عن الواقع عكس الأولى، وتهدم العالم لتبني عوالم جديدة، حيث نلتقي في الكتاب ببعض الكلام عن الكتب التي كانت تقرأها هي ووالدتها.

كنت أنظر إلى السجادات البيضاء وإلى المكتبة، وكل الكتب التي كنت أتمنى أن أختفي فيها، لعلِّي أنسى من كنت ومن أنا.

سنجد رجلاً أيضًا هو هيرفيه غيبير يتسلَّل إلى الكثير من مواقع الصفحات، هذا الكاتب الذي أعجِبت وتأثَّرت به بشكلٍ بالغ. ويمكن لكتابه الذي يحمل عنوان أهليأن يكون هو ما ألهمها في إصدار هذا العمل الذي تُكدِّسُ فيه حياتها مع عائلتها وفتياتها اللواتي عشقتهن.

الموت والخوف والعنف

يحاصر الموت الإنسان لأنه مخلوق فانٍ ليس في نهاية حياته وجزء من أوقاته فحسب بل هو يبدأ منذ ولادته إلى موته، يتجوَّل معه أينما كان وفي كل وقت. نستطيع ملاحظة ذلك من خلال هذه الرواية التي تحمل فكرًا هايدغريا حول الموت بكل عفويّة.

إنَّ الموت يبقى ويعيش معها ليمثل لها قلقًا وجوديًا من الصعب محيه يجعلها تخاف كل شيء؛ الآخرين ونفسها والمرض وبعض الأماكن والموت نفسه. ورغم فظاعة الموت فإنَّ فيه متعة ليست بعيدة عن النشوة، فهو موجود حتى في الشهوات كما تدّعي وله شيء من الجمال الميتافيزيقيّ وهو كما تعترف يفتنها، مثلما تكتب:

لستُ تلك الطفلة المأخوذة بهاجس الانتحار، ولكن الموت يسحرني… فهناك جمال في السحب وأنا في الطائرة، وجمال غابة الكينا، وجمال أمي وهي تختنق.

و مع أنَّ الموت يقطن في الجزائر غير أنَّه يقبع كما تقول في جزئها الفرنسي؛ بعد أن عرفت فقدان أحبائها من أسرة أمها فقط. والموت هنا ليس بشكله المادي فحسب بل الروحي فكم من أحياء قلوبهم وأجسادهم كأنَّها تحت القبور.

وعلاوة على ذلك، فإنَّ غياب الكتابة عندها يعني الموت وفقدان الشعور بالحياة. غير أنَّ الحب والكتابة ومعهما الجمال حسبها هم الذين بإمكانهم أن يميتوا الموت الجميل.

والخوف هو ذاتها حسب ما تدعيه لشدّة ما عاش فيها منذ الطفولة وداخل الذاكرة، إنَّه نفسها التي تخاف منها والآخرين. إلَّا أنها لا تمتلك مخاوفها الخاصة بها فقط وإنَّما تتألَّف من حلقة من مخاوف غيرها. مخاوف والدتها، ومخاوف جدتها، ومخاوف صديقتها المغنيَّة، مجهولة الهوية وعلاقتهما الغراميَّة المليئة بالغموض والغرابة. فهي (تخاف حتى من خوفها) وتدعي أحيانًا عدم الخوف.

ويطغى العنف على حياتها وذلك جلِّي بما أنَّها ولدت في الجزائر، البلد الذي لا زال طفلاً صغيرًا وأرضًا مدمرة خرجت منذ سنوات فقط من تاريخها الاستعماري على حدِّ قولها في إحدى مقابلاتها.

تلك الطبيعة العنيفة التي ولدت نينا بوراوي فيها وبها، والتي جعلتها تنظر إلى العالم بنظارة العنف، العالم الذي لا يقل عنفًا عنها وعن الجزائر؛ سنكتشف عبرها تخيلاتها الشريرة التي تراودها حين نقرأ: “في أعماقي ما ينهشها، ويغذِّي فيها تخيلاتي الشريرة، إذ أرى أسناني منغرزةً في سخانة وجه، لانتزاع سحنته، بغير أن أعلم وجه من كان ذلك”.

إنَّ كل شيء فيها يصرّح بالعنف حتى وجهها كما اعتقدت طبيبتها النفسية. أما هي فتتساءل: “لا أدري إذا كان كل العنف هو عنفي، أم أنه هناك العالم الذي يعميني ويمسخني”. أضف إلى ذلك ترى العنف في كل شيء فهو علامة من علامات الحياة كما تقول والدتها، وحتى الجنس الذي يعدّ بالنسبة لها شكل من أشكال العنف، والطفولة والأطفال كذلك.

إنَّ الغضب أيضًا مرتبطٌ بالعنف لأنّها فتاة غاضبة دومًا، يثير حنقها أي شيء حتى الأشياء التي لا تُغضب. فيكاد يكون غضبها وعنفها شيئاً واحد، ويمتزجان بخجلها الشديد الذي يقبع ورائه كلّ شر. يمكن القول إنَّ كتاب “تخيلاتي الشريرة” هو نتيجة لهذا لثالوث؛ الموت والخوف والعنف الذي يعصف بالكاتبة ومن تعرفهم والعالم أيضًا.

الطفولة والآخرون

ترتبط رواية تخيلاتي الشريرة بالكثير من صوَّر الطفولة والقصص التي تسردها لنا في قالب شعري، فهناك في طفولتها البذور الأولى التي أنبتت عبرها شخصيتها الحالية. إنَّها تلعب ربّما دور المحلِّل النفسانيّ لتفكّ فيها خيوط شخصيتها من خلال العودة إلى الوراء. فعقلها وشعورها لم يستطع في أي حال من الأحوال التخلَّص من طفولته. وإلى جانب ما سبق فإنَّ طفولتها مقسَّمة بين فرنسا والجزائر، وكل طفولة تحتفظ بطابعها الخاص حسب طباع الأشخاص الذين عاشت معهم والبيئة التي حملتها.

وتحتل والدتها مكانةً عامةً في هذه الفترة فهي شخصية أساسية في الرواية بشكلٍ غير مباشر. فالابنة تتعلَّق بها لدرجة انبثاق علاقة عميقة باعثة على الحب والرومانسيات التي يبدوان فيها مثل زوجين. ناهيك عن حضور الأب أيضًا في قصتها. ويمتد الأمر إلى الحفر في تاريخ أجدادها للبحث عن أساس يمكن فيه أن تبني بها نفسها وتبني هوية راسخة بها.

ويسكن الأشخاص في أعماقها سواء كانوا من أفراد عائلتها أم أصدقائها، فتلبس أجسادهم وعقولهم، وتتركهم يعيشون داخلها يحرِّكونها عابثين بحياتها وشخصيتها، فكلّ شخص يؤثِّر فيها حتى الغرباء. فتسرد قصة رجلٍ أقام عندهم لفترة من الزمن حينما كان مصاباً بمرض من أمراض الخوف. هذا الشيء الذي جعلها تعتقد أن له يدٌ في علاقتها مع الخوف.

وهي رغم ذلك تخاف من أجساد الآخرين وذواتهم، لشدة قدرتهم على اقتحام لا حياتها فحسب بل نفسها. ففي أحد القصص التي تتحدَّث فيها عن رجل آخر كان يلاحقها هي ووالدتها في الشاطئ وبعد مرور سنوات كثيرة تكتب: “أصعدُ الأدراج بسرعة … ثم التفت لأتأكَّد أنَّ رجلاً لا يلحق بي. إنَّه دائما رجل الشاطئ، في رأسي”.

تركِّز نينا بوراوي في خطابها الروائيّ على الجسد، أجساد الآخرين التي تولِّد المزيد من العنف والموت والحب والرغبة مع الجمال. وهي الأجساد التي لا تستطيع أن تنفصل عنها في العالم سواء من خلال الفكر أو الإحساس الروحي أو العاطفي. والجسد بوصفه مادة غرائزيَّة من دون أي يكون حاملاً للعقل مثلما يظن البعض، هو يبدو في روايتها عقلاً آخر كما كان يراه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ويقدِّره. ويحتَّل مكانة هامة في حياتها بوصفها جسدًا مع الآخر أيضًا. وحيث أنَّ ذاكرتها ليست ذاكرة جسدها فحسب بل أجساد الجميع.

المنفى والطبيعة

بعد أن أقامت نينا بوراوي في الجزائر سنوات كثيرة، ها هي تذهب إلى فرنسا بحثًا عن حياة جديدة لتعيشها، وتصنع فيها وبمساعدتها مستقبلها ككاتبة وشابة تحب اللهو والمتع. ورغم ما يوجد في هذا البلد من جمال ورفاهية وفرص كثيرة، إلا أنَّها تبدو مثل منفى أجبرت على الذهاب إليه بعد أن تركت بلدها الأول بما فيه من أماكن وأصدقاء.

إنَّ الموت كما كتبنا لا يفارقها، فتتحدَّث عن مدينة رين الفرنسية التي ولدت فيها قائلة:

“قرَّرت أن رين مدينة ملعونة، وأنَّني إذ ولدت فيها، فقد ولدت لا من الحياة بل الموت”.

ومع أنها تعترف باختلاف الأسرتين اللتين تنحدر منهما، هما عائلتها الجزائرية مع الفرنسية، لكنها لا تنحاز لواحدة ضد أخرى. كما لا توجد ثنائيات متضادة واضحة أو خطٌ فاصلٌ بين الجزائر وفرنسا. فلا فرنسا تمثِّل الجانب المشرق، ولا الجزائر تمثل المظلم، وإنَّما إنَّ كليهما يجمعان كل شيء، ولهما رغم اختلافهما تأثيرات عليها حادة.

تمتلك رواية تخيلاتي الشريرة نزعة رومانسيَّة ورمزيَّة تختص بالطبيعة، طبيعة البلدين معاً التي تحتفي نينا بوراوي بهما. فطبيعة الجزائر هي وجه جميل من طفولتها. أما طبيعة فرنسا فهي تقابل شبابها. إنَّ الاولى تجسِّد الحياة العائليَّة، المرتبطة بوالدتها على الأخص. أما الثانية فهي تعبِّر عن عزلتها ووحدتها أو مغامراتها مع نسائها.

وهناك طبيعة أخرى تتعلَّق بأراضٍ أخرى زارتها لوحدها أو مع صديقاتها. ومع ذلك فكل هذه المظاهر تشتبك معاً فيها جغرافيًا ونفسيًا واجتماعيًا، وكل واحدة تشبه الثانية وتشترك معها في قواسم عديدة. وهي تصف لنا المشهد المديني لا سيما حين يرتبط بفرنسا بكل ما فيها من أناقة في شوارعها مدنها فتصف ذكرياتها ومشاعرها فيما يلي:

تعود ذكريات نيس وصيفها، وإجازات شاطئ كاستيل، وأمسياتي على ضفافه، ولياليّ في فندق سويسرا، وأحسب أن كل شي يبدأ هناك، في التباس الأمكنة، أي في اكتشاف جنوب فرنسا، والعودة إلى الجزائر.

فكلّ ما كتبته واختبرته كان مثل لوحات صغيرة رسمتها للقارئ على أكثر من صفحة، لتنقل له الجمال الذي شعرت به في عوالمها الواسعة والمتنوّعة التي تغوص في الحميميَّة. وحيث تحملها ذاتها مع الذوات الأخرى وتشارك في خلقها.

خاتمة

لا تحمل رواية تخيلاتي الشريرة نهايةً واضحةً فهي تماثل مقدمةٍ أخرى ستبدأ بعدها أحداثًا جديدة تنطلق منها. وبهذا فهي لن تُرضي جميع القراء. وهي ليست عملًا سهلًا لمن يحب الدقة أو النسق. فهو يعيد تشكيل نفسه بما يتناسب مع لغة الكاتبة التي تتبع هواماتها وانفعالاتها.

إنَّه كتابٌ يحمل فكره وأسلوبه الخاص، ورغم الغموض الذي يكتنفه في محطات عديدة، غير أنَّ متعة تذوُّق لغته الشعرية لامحدودة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا