مفهوم الإنسان في فكر نيتشه ودوستويفسكي

إن تكرار اسمي دوستويفسكي ونيتشه معًا لا يزال موضعًا جوهريًا ودسمًا بالنسبة للكثيرين المهتمين بالنتاج الأدبي والفلسفي لاثنين من أعلام الفكر الغربي. السبب أن كلاهما يُعدّان من أخطر علماء التشريح للأزمات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية التي كانت بارزة في منتصف القرن التاسع عشر ولغاية مطلع القرن العشرين. لقد كانت فترة ازدهار على مستوى العلوم الإنسانية والفنون لكن في الوقت نفسه كانت بداية الانهيار المأساوي الذي تمخض عنه حربين عالميتين وكوارث غير مسبوقة لا تزال عواقبها قائمة إلى الآن: منها تراجع الفنون الكلاسيكية التقليدية المحافظة وظهور حركات أدبية وفنية Avant-Garde أعلنت عن قطيعة كاملة مع التراث الاوروبي.

هذا الأمر مهد لظهور أسئلة جوهرية: كمشكلة الإنسان؟ جوهره؟ ومعنى وجوده؟ وعلاقته مع المجتمع والدين؟

كتابات كل من دوستويفسكي ونيتشه تتمحور حول مواضيع مشابهة بشكل لافت للنظر والتي تطرح أسئلة أساسية حول الوجود البشري، وخصوصًا علاقة الفرد بالإله (المتعالي – كما يصفه هايدغر). كلاهما يحيطان القارئ بالأسئلة الوجودية والشكية ثم يتركانه (خصوصًا دوستويفسكي) في حيرة من أمره ودون إجابة عن التساؤلات التي يطرحانها -والأمر يختلف قليلا مع نيتشه فهو أكثر وضوحًا من دوستويفسكي.

كلاهما يمثلان عقول العالم السلفي لأناس غير قادرين على التصالح مع المجتمع أو الظروف التي رأوها تحيط بهم. كلاهما يريدان بشدة خلق الحقيقة غير الحقيقة التي تم غرسها في عقولنا. ربما لم يعلن دوستويفسكي عن مشروعه بشكل واضح إلا إن نيتشه يقول بصراحة إن زرادشت عاد لقلب القيم.

في كتابه “غسق الأوثان” يشير نيتشه إلى دوستويفسكي، إذ يعتبره الطبيب النفسي الوحيد الذي تعلم منه الكثير بسبب طريقة دوستويفسكي الرائعة في سبر أغوار النفس الإنسانية ويخصص فقرة رائعة بحقه رغم اختلافه مع دوستويفسكي في الكثير من المفاصل.

إعلان

في القرن التاسع عشر، انتشرت العدمية في روسيا والدعوة إلى عدم الإيمان بالدين والله. في هذا الوقت كتب وأعلن نيتشه في كتابيه “هكذا تكلم زرادشت” و “العلم المرح” مشروع “موت الإله”. لا يعتقد البعض أن الإعلان كان بيان احتفالي كما يتصور الكثير من القراء السطحيين لفكر نيتشه. لكنه إعلان تراجيدي يوحي بأن أوروبا مقبلة على كارثة تودي بنهاية الحضارة الغربية. رغم ذلك يعتقد نيتشه أن المجتمع يمكنه الاستغناء عن الدين والمضي قدمًا في إنشاء قيم جديدة، والارتقاء بالإنسان إلى الإنسان الأعلى الذي يحل مكان المتعالي.

يشرح نيتشه هذا المشروع في كتابه “هكذا تكلم زرادشت.” إذ ينحدر زرداشت، المفيض بالحكمة، تاركًا خلوته في الجبل، بحثا عن أتباع. “احب الإنسان” يقول زرادشت لرجل عجوز حكيم يقابله في طريقه في الغابة. الناسك العجوز نقيضًا لزرداشت ترك مجالسة البشر متوجها إلى خلوته “بحثا عن الله”. يقول الشيخ العجوز: “لكنني الآن أحب الله: أما البشر فلا أحبهم. فالإنسان شيء فادح النقص في نظري. وحب البشر سيكون فيه هلاكي.”ثم يذهب لينصح زرداشت أن البشر لا يتسحقون الخير الذي يجلبه زرداشت لهم”.

عندما غادر الشيخ عجوز، قال زرادشت في نفسه “ألم يسمع هذا العجوز بموت الإله؟”

يريد زرداشت نشر حكمته التي استلهما في عزلته في الجبل لعشر سنوات ويبشر الناس بمشروع الإنسان الأعلى وإن الإنسان ماهو إلا جسر يصل بين القرد والإنسان الأعلى. الفكرة الأساسية لنيتشه أن يكون الانسان مخلصًا للأرض مجنبًا نفسه التيار الملوث من القيم الميتافزيقية التي تبشر بالإنسان الأخير. لكن كرازة نيتشه لا تجد آذان صاغية بين الناس فهو ليس الفم المناسب لتلك الآذان، يجد نفسه محاطًا بجموع من القطيع لا تفقه شيئًا. فالإنسان الأعلى يحتقر القطيع ولا يستنشق هوائهم العطن. فالإنسان الأعلى يدعو إلى تجاوز الإنسان العادي وأن يسمو فوق المعيار البشري وفوق كل المصاعب التي تحيط به وأن يحتضن كل ما ترميه به الحياة من متاعب وآلام ومشاق.

يرى دوستويفسكي أن الحركة اللادينية الجديدة التي ظهرت في روسيا خطيرة بشكل لا يصدق. لقد وضعت بذور شخصية راسكولنيكوف -بطل رواية الجريمة و العقاب- مع نظيره راسكولنيكوف الإنسان الأعلى. في رواية “الجريمة والعقاب” الرواية الأكثر شهرة على نطاق واسع والتي تعد من أعظم الأعمال في الأدب العالمي، يسلط دوستويفسكي الضوء على المعضلات الأخلاقية والمعاناة النفسية والكرب الذهني لراسكولنيكوف، طالب حقوق ينحدر من عائلة فقيرة في سان بطرسبرغ غلى قادر على دفع أجوره الدراسية ولا على حمل تكاليف عائلته. يمكن اعتبار بوصلته الفكرية بأنه عقلاني مادي. وهذا الأمر يعد غريبًا في ذلك الوقت لشخص مأخوذ بفكرة موت الإله.

دوستويفكسي أراد خلق شخصية لديها كل الأسباب الفلسفية والعملية والأخلاقية لارتكاب جريمة قتل. يبدأ الامر مبكرًا مع راسكولنيكوف بالتخطيط لقتل عجوز شريرة ومرابية بعد الاستماع لمحادثة ادّعى فيها أحد الطلاب أن العالم سيكون أفضل لو أن العجوز تموت وتوزع ثروتها على الناس الفقراء. الكتاب لا يركز على جريمة القتل بقدر الغوص في أعماق عقل راسكولنيكوف وسبر أغوار روحه المعذبة وما يمكن أن تكون عليه جريمة القتل. تركز الرواية على أخلاقيات راسكولنيكوف ومعضلة الخير والشر كذلك يميز بين الناس العاديين وغير العاديين مثل نابليون بونابارت الذي أعجب به نيتشه كثيرًا واعتبره الإنسان الذي يجب أن يتطلع إليه الآخرين. فنابليون مثال لصورة الإنسان الأعلى عند نيتشه.

فخر راسكولنيكوف بنفسه يعزله عن المجتمع. فهو يرى نفسه كنوع من الإنسان الأعلى. في الواقع، يرى نفسه شخص غير عادي فوق كل القواعد الأخلاقية التي تحكم بقية البشرية. وبالتالي لا يمكنه أن يتعامل مع الناس العاديين أو يرتبط معهم. الناس الذين يعيشون وفق حدود الطاعة وعدم تجاوز القانون. “بشكل عام يولد عدد قليل من الناس وتولد مهم أفكار جديدة وقادرين على القول بأشياء جديدة… يكونون عباقرة وعظماء تتوج بهم البشرية” يعتبر راسكولنيكوف نفسه واحدًا من أولئك العظماء.

وفي ضوء الظروف الدنيوية وتقدّم الجنس البشري بطريقة ما، يتخطى راسكولنيكوف عقبات القتل والسرقة. مع ذلك لم تسر الأمور كما هو مخطط لها. بعد الجريمة المخطط لها بعناية، وجد راسكولنيكوف نفسه مرتبك، مشتت بين جنون العظمة والاشمئزاز مما اقترفه. يسرح في فترات هذيان وصراع داخلي مرير يكافح فيه مشاعر الذنب والرعب. يتخلل رقاده أحلام مزعجة ومخيفه. بطريقة ما، إلى جانب جريمة القتل التي ارتكبها، قتل راسكولنيكف جزءًا منه أيضًا. لم يستطع العيش وفق معتقدات الإنسان الأعلى. لم يستطع أن يتجاوز إنسانيته كما يدعو نيتشه. لم يستطع أن يكون أكثر من مجرد إنسان عادي يعيش وسط أناس عاديين.

بالنسبة إلى دوستويفسكي، فإن الله في النهاية أعلى من الإنسان ولا يمكن للإنسان أن يحل محل الله. إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح والعيش بدون أمل هو التوقف عن الحياة. أو كما يقول فولتير “إذا كان الله غير موجود وجب علينا خلقه”.

يدرك كل من نيتشه ودوستويفسكي ماهية الوجود المرعبة والمشكوك فيها. مع ذلك، لا يريد نيتشه العيش مع الوهم، ولا يريد أن يسيء فهم ماهية الوجود المخيفة. دوستويفسكي -على الجانب الآخر- وبنفس الرؤية المأساوية للحياة، لا يريد العيش بناءً على حقائق أرضية فقط. الوقت الذي قضاه في سجن المعسكر في سيبيريا وسط ظروف قاسية جدًا وبجسد مريض وروح مكتئبة، جعل إيمانه الديني أقوى. جعل الحياة على الأرض ذات مغزى بالنسبة له. يؤمن بضرورة الوهم وضرورة الإيمان بشيء يتجاوز الإنسان ويفوقه. وهو الشيء الذي يسعى إليه الإنسان بلا توقف من أجله وحتى عبادته لكن لا يمكن تحقيقه على الأرض. كان إيمانه قويًا لدرجة أنه حتى لو كانت الحقيقة عند غير اليسوع، فهو يفضل البقاء في صف اليسوع على أن يقف مع الحقيقة. ظل هذا الموضوع محوريًا بالنسبة لدوستويفسكي وبالإمكان تتبعه في رواية الشهيرة الأخرى (الإخوة كارامازوف)- في الحوار الرائع بين إيفان وأخيه الصغير إليوشا.

نيتشه ودوستويفسكي يقفان على مفترق طرق فيما يخص الإيمان. لكن كلاهما فهم الواقع بنفس الطريقة. كلاهما واجه الواقع بشجاعة اليأس. النجاة بالنسبة لدوستويفسكي يعني التمسك بالإيمان. بالنسبة لنيتشه نبذ الإيمان. يحثنا نيتشه أن نظل مخلصين إلى الارض، لندع محبتنا تخدم المعنى الأرض ولا تطير بعيدًا إلى اشياء ما ورائية. لأن الكثير من فضائل الإنسان قد طارت بالفعل بعيدًا عن الأرض. فبالأحرى وجب على الإنسان أن يعود بها إلى الأرض، إلى الجسد، إلى الحياة، حتى تعطي الأرض معنى، أن تعطي للإنسان معنى.

دوستويفسكي ونيتشه يعدان فنانين ينظران للوجود نظرة مأساوية. كانا غير قادرين على التصالح مع العالم. فالإنسان- في نظر دوستويفسكي- يسعى جاهدًا نحو هدف متعالٍ لا يمكن بلوغه. ربما أكثر واقعية من نيتشه في هذا الجانب. حب نيتشه للأرض يجعل فيه شيئا هائلاً ونشاطا وحيوية وشجاعة لا مثيل لها، وإندفاع ملحمي للطاقة والإيمان بأن الإنسان قادر ان يعتمد على ذاته دون الحاجة إلى قوى ماورائية. الشيء الذي لا نجده عند دوستويفسكي أو أي مفكر آخر تقريبا. نيتشه يعترف بضرورة الوهم لمواجهته وتوفير أسس فلسفية لحياة خالية من الأوهام ولقهر هذا الواقع المرعب. مقترحًا فكرة Amor Fati  (أن يحب الإنسان قدره) وكل ما يحدث. رغم إزدراه للقطيع، بدا أن نيتشه ظل مخلصًا للإنسان كفرد. يدعوهم لخلق واقعهم الخاص، في مواجهة وجود غير مبالٍ ليصنعوا من أنفسهم وحياتهم شكل حي للفن.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كرار عيسى عبد الحسين

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا