تقلبات الضمير عند دوستويفسكي

ظلت ظاهرة الضمير حاضرة على امتداد عصور وإمبراطوريات ومعتقدات وعقائد، فعرفها الرومان وأطلقوا عليها ((كونشينتيا))، ثم استأثر بها المسيحيون الأوائل، وتحدث الإسلام عن الضمير واعتبره حاسة فطرية يرى بها الإنسان صواب الأمر من خطئه كما ترى العين الألوان، ثم اجتاز الحد الفاصل بين التدين والعلمانية مبدلًا موضع الاهتمام من الكمال الديني إلى التحسن الأخلاقي والاجتماعي. واليوم يؤمن به من لديهم إيمان ديني ويؤمن به من لا يملكون ذلك الإيمان أو بالأحرى لا يؤمنون بإله.

يرفض الضمير أي محتوى ثابت أو متغير فيمكنه أن يبرر التضحية بالذات، ويمكنه أيضًا في نفس الوقت أن يبرر حب الذات الذي ينطوي على أنانية، بوسعه أن يحض على عمل الخير، وبوسعه الحض على عمل إرهابي.

قد تكون إملاءات الضمير إسلامية أو مسيحية أو يهودية وقد تكون وثنية، من الممكن أن تستند إلى الدين ومن الممكن أن تستند إلى العلمانية، من الممكن أن تكون قومية أنانية أو دولية سخية، ويظل جنس الضمير مجهولًا، قد يكون مذكرًا أو مؤنثًا، قد يكون صوتًا روحانيًا بلا جسد أو صوتًا أبويًا، قد يتحدث بصوت جمعي كالرأي العام، أو صوتًا أحادي مثلي ومثلك تمامًا.

والضمير بطبيعته مزعج؛ فعادةً ما يشعر المرؤ الذي يحضره الضمير بأنه كان أفضل حالًا بدونه، وأينما أو وقتما قابلنا الضمير نجد أن من عاداته المميزة هي النخز والوخز والتملق والاستنكار والمضايقة بدلًا من التهدئة أو الطمأنة، ورغم شيوعه فإنه يظل أقل الظواهر المعروفة بعثًا للسرور في النفس.

تبرير الجريمة:

في رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، يؤكد راسكولنيكوف بطل الرواية (والذي لا يحمل الصفات المتوقعة للبطولة) موقفه من الضمير في مقال جدلي مع صديقه رازوميخين والذي يزعم فيه أن الإنسان المتميز له الحق -وهو ليس حقًا رسميًا بل حقه الخاص- في السماح لضميره بتخطي عقبات معينة، وفي مقال جدلي آخر يبرر البطل لصونيا قتله العجوز فيقول:

إعلان

“إليكِ الأمر. لقد ألقيتُ على نفسي ذات يوم هذا السؤال: ما الذي كان يحدث لو أن نابليون -مثلًا- قد وُجد في مكاني ولم يكن أمامه في بداية حياة المجد الذي حققه لا تولون ولا مصر ولا ممر مونبلان، وإنما كان أمامه -بدلًا من جميع هذه الأشياء العظيمة الفخمة الضخمة- عجوزٌ حقيرة شريرة تافهة مرابية يجب أن يقتلها ليستولي على المال الذي تخبؤه في صندوقها ليحقق رسالته، هل تفهمين؟ نعم. أكان يفعل ذلك إذا لم يعرض له أي مخرج آخر؟ أم كان سيشعر بشيء من الحياء والخجل لأن هذا الفعل خالٍ حقًا من الفخامة والضخامة، ناهيك عن الخطيئة؟

أؤكد لكِ أن هذا السؤال قد أقضَّ مضجعي مدة طويلة، إلى أن أدركتُ فجأةً وأخيرًا أن نابليون ما كان له أن يحس بأيسر خجل من هذا الفعل بل ما كان ليخطر بباله في أي لحظة من اللحظات أن هذا الفعل قد تعوزه العظمة والرفعة، وما كان له أن يرى هذا العار الذي يشتمل عليه هذا الفعل، ولا شك في أنه -إذا لم يعرض له أي حل آخر- كان سيقتل العجوز دون تردد أو تفكير، هكذا خرجتُ من تردد بين الإقدام والإحجام، فقتلتُ -مقتديًا بذلك الرجل (نابليون) الذي هو “حُجة”- -نعم- على ذلك النحو، أيبدو لكِ هذا سخيفًا مضحكًا؟ نعم يا صونيا، لعل أسخف ما في القضية أن الأمور قد جرت علي هذا النحو”.

وفي رواية الأخوة كارمازوف يتحالف إيفان (الشخص المهزوز) مع الشيطان أكثر مما يتحالف مع رئيس محكمة التفتيش، وتوضح حوارات إيفان مع الشيطان كل الشكوك والاحتمالات التي تنشأ داخل عقله، وفيما يتعلق بالضمير فيمكن فهم هذا البديل الشيطاني باللغة الفرويدية على أنه يقدم أكثر البدائل إغراءً وإرباكًا، متذرعًا بصيغة النفي التي يصوغ بها هذه البدائل، أي أن إيفان يسمح لنفسه بأن يقول ما يفكر فيه ويخشاه بالفعل مدعيًا أنه يمثل إغواءً شيطانيًا، وفيما يتعلق بالضمير يستأنف الشيطان العمل من حيث توقف راسكولنيكوف مقتنعًا بأن مهمة الإنسان المتميز تتمثل في تحرير نفسه من قيود الضمير، ويصيح إيفان في أليوشا قائلًا:

” لقد سخر مني، وذلك ببراعة، ببراعة شديدة قائلًا:  الضمير! ما الضمير؟ إنني اختلقتُه بنفسي، فلمَ أعاني إذًا؟ بحكم العادة! بحكم العادة الإنسانية البشرية على مدار سبعة آلاف عام. دعنا إذًا نتخلص من العادة، وسوف نصبح آلهة!  لقد قال ذلك، لقد قال ذلك!”.

اقرأ أيضًا: دوستويفسكي مفكرًا

الهجوم على الضمير:

يقدم رازوميخين صديق راسكولنيكوف اعتراضًا أخلاقيًا شديدًا قائلًا: “إنك في نهاية المطاف تسمح بإراقة الدماء دون أن تشعر بالذنب، ومن وجهة نظري فإن السماح بإراقة الدماء دون الشعور بالذنب أو وجع الضمير أكثر فظاعةً مما إذا كانت إراقة الدماء مسموحًا بها رسميًا وقانونيًا”.

لكن النقد الأكثر حدة يظهر على لسان بورفيري (قاضي التحقيق مع راسكولنيكوف) والذي يناقشه في ادعاءاته الساذجة بالتميز، ثم يخلص إلى ملاحظة نافذة البصيرة بأن بعض هؤلاء الذي يتسمون ظاهريًا بالتميز قد يحققون أهدافهم، لكنهم على لسان راسكولنيكوف يبدأون في إنزال العقاب بأنفسهم”.

قسوة الضمير ومحاولة الهرب:

بعدما يتم الهجوم على الضمير (سواء تم الهجوم من صاحب الضمير أو شخص آخر) نجد الضمير يتحول لشيء آخر، يتحول ليحمل صفةً أخرى ويكون قاسيًا، وحينها يبدأ النخز والتأنيب ونبدأ نحن في الهروب.
نجح راسكولنيكوف في الهروب من ضميره لفترة مؤقتة وعجز عن الهروب النهائي من قسوة ضميره ومن خلال ذلك يقدم لنا دوستويفسكي في الأخوة كارمازوفشخصية سفيدريجيلوف (غير الأخلاقية والذي يتناوب بشكل عشوائي على القيام بأعمال شائنة من الناحية الأخلاقية وأعمال أخرى تتسم بالكرم المطلق) ويصف ضميره بأنه في حالة خمول مطلق، لكن إيفان على غرار راسكولينكوف يغوي نفسه ويعذبها بأفكار لا يستطيع في نهاية الأمر تحملها، وفي أكثر أفكاره جرأة فهو يدعي للقاتل الحقيقي أنه: لولا الله لكان كل شيء مباحًا مهما جرى في العالم، ومن الآن فصاعدًا يجب ألا يصبح هناك أي شيء ممنوع، ورغم حديثه ذلك إلا أنه لا يستطيع أن يتحمل مواصلة التظاهر بالشجاعة، فهو على الرغم من كل شيء على شفا اعتراف مدفوع بالذنب لاشتراكه في قتل والده وتمتدحه الشخصيات الأخرى لما يطلق عليه أليوشا.

تمني الجريمة والاشتراك فيها:

عند اكتشاف ترجمة فرنسية لرواية “رسائل من أعماق الأرض” كتب نيتشه إلى صديقه أوفربيك قائلًا:

“إن غريزة القرابة قد أعلنت عن نفسها بوضوح في الحال”، ويعتبر القول الذي وجهه إيفان سميردياكوف (كل شيء مباح) أحد التعبيرات النموذجية لنيتشه، وتشير حقيقة أن نتيشه قد كرر تلك الكلمات في كتابه “أصل الأخلاق” إلى الخلفية المشتركة التي يحملها المفكران، ويمثل أبطال دوستويفسكي (الذين يتهمون ذواتهم ويعاقبونها) أفضل كوكبة يمكن تخيلها من الأبطال على طراز نيتشه الذين يتهمون ذواتهم أيضًا.

اقترح كل من دوستويفسكي ونيتشه أن الإنسان منقسم على ذاته، وأنه في مواجهة مع صوت معادٍ أو عقابي قد اخترق كل المجالات الدفاعية واستقر به المقام في العقل، ويُعتبر إيفان كارمازوف حالة فرويدية قبل ظهور فرويد؛ فرغم أنه لم يقتل والده فإنه يعترف بالاشتراك في الجريمة لأنه تمنى موت أبيه، حيث تساءل أثناء محاكمته: “ومن منا لا يتمنى وفاة والده؟”.

نرى إيفان وهو يقوده شعوره بالذنب لدرجة أنه تخيل نفسه شريكًا في جريمة لم يرتكبها، وقد اهتم فرويد بالأخوة كارمازوف لأن دوستويفسكي قدم نموذجًا مُرضيًا لمن يحمل صوت والده الناهي في الأنا الخاصة به، لكنه لا يتحمل قيود هذا الصوت ومن ثم يصبح مشهورًا بقتل والده، ويقول فرويد عن تلك الحالة: “لا يهم من ارتكب الجريمة حقًا؛ فعلم النفس لا يهتم سوى بمعرفة من رغب شعوريًا في وقوعها ومن رحب بوقوعها عندما تمت”. ومن المفاهيم الفرويدية الأساسية أن الشعور بالذنب أكثر حرية في الحركة مما نتخيل، وأن علاقتها بالفعل الإجرامي تختلف عما يفترضه الناس غالبًا، فبدلًا من كونه نتيجة للفعل الإجرامي يمكن فهمه ووصفه كحافز للفعل الإجرامي.

ويبقى الضمير رغم كل ما قيل في حاجة إلى مزيد من البحث والقراءات؛ فهناك إشكالات جمة، مثلًا: الأسباب التي تدفع الضمير إلى التحول من جانب إلى آخر ومن صفة إلى أخرى، ما قيمة المجتمع وتأثيره على الضمير؟ هل الخوف كافٍ ليُخضع الضمير ويجبره على الاعتراف؟ هل تحمل الضمائر نفس الصفة لدى الجميع في بداية حياتهم؟
تظل تلك التساؤلات في حاجة إلى مقال آخر.

نرشح لك: الأخوة كارامازوف.. دوستويفسكي والنفاذ لأسارير النفس البشرية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نور الدين مجدي

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

تدقيق علمي: دينا سعد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا