الأبعاد الدينية لفن الدراج

نحن نعيش عصر الجنون بعد أن ودَّعنا ما مضى، وانفصلنا عن زمنٍ قديمٍ حين كان الإنسان ليس ذئبًا لأخيه الإنسان. ذلك الزمان الطوباويّ الذي صار يُرَادِف المُقدَّس، الحبلى عصوره بالمنظومات الأخلاقيَّة والحسّ السليم والشَّرائع الإلَهيَّة.

هذا ما يزعمه الكثيرون عن الماضي، فهل كان أفضل العوالم أم أسوأها، أو أنَّه أساسًا لا يختلف عن حاضرنا؟ هل فصله عن الحاضر وإحداث قطيعة معه وتأطيره ببداياتٍ ونهايات ممكنٌ أم غير واردٍ أساسًا؟

فإذا اعتبرنا القرن الحادي والعشرين وقتًا يَغرق في الفوضى، والعلموية، والفردانيَّة ذات الطابع الشوفينيّ كما يُعتقد، فماذا نقول عن القرن العشرين الذي لطخَّته الدماء والديكتاتوريَّات، ورسمته شخصيَّات مُصَابة بالبارانويا قهرت شعوبها؟ بل كيف سنصف القرون التي سبقته عندما كان الإنسان أداة، لكن بطريقةٍ أخرى رمزيَّة وتقليديَّة أكثر؟ صحيح أنَّ البشر مع خصوصيَّاتهم هم نفسهم في كل زمانٍ ومكان، لكن إذا كانت هناك اختلافات بين الماضي والحاضر فلا شَكّ أنَّها ستكون أربعة:

  • تقدُّم العِلْم وطُرُق بحثه، والتعرُّف على العَالَم والطبيعة البشريَّة، وما يحيط بالجنس البشريّ من أشكالٍ حيَّة على نحوٍ متزايد وبطُرُقٍ أنسب.
  • اكتساب وعي بوجود قيمتين، هما الحُرِّيَّة والكرامة، مع ضرورة العمل على الحفاظ على حقوق الإنسان وجعلها واقعًا.
  • تأسيس الدَّوْلة المدنيَّة وتنظيم عَلاقة الفرد بالدَّوْلة وبباقي أفراد المجتمع.
  • تَغلغُل التكنولوجيا في المجتمعات وتأثيراتها في كلّ مجالات الحياة، حتى في جسد الانسان الحديث ومداركه.

أما ما نشاهده من صوَّرٍ تَخُصّ نفسيَّة الفرد وسلوكاته وميولاته وعاداته اليوميَّة، التي يصفها البعض بالمنحرفة، ويراها حديثة العهد، فهي مختبئة في باطن التَّاريخ، إلَّا أنَّها تطُلّ علينا بمقدِّمة رأسها حتى نكتشفها. فهل العابرون جنسيًّا، عديمو الجنس، الجنس الثالث، وأخيرًا الدراج كوينز هم حقًا أشخاص جُدُد؟ هنا لا يسع الواحد منا غير بذل الجهد في اكتشاف ذلك بهدوء.

مخاوف وغضب:

حاليًا يشهد الدراج كوينز في الغَرْب انتقادات تتزايد كلّ فترة، لا سيَّما في الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة، بِوَصْف ما يقدّمونه مجرَّد موضة مَرَضيَّة جاءت نتيجة للإنحلال الأخلاقيّ الذي يحدث في العقود الأخيرة كما يزعم البعض ومنهم محافظون أو غير ذلك. وكذا الانتشار الكبير لهؤلاء مع مشاركةٍ أكبر في المشهد السياسيّ وثقافة الحياة اليوميَّة والفَنِّيَّة الأمريكيَّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ التي لديها قدرة التأثير في المراهقين والأطفال.

إعلان

يتفق العديد من الأشخاص بمختلف توجُّهاتهم، أنَّ الاتجاه السياسي للبلد هو ما سمح بحصول مثل هذا التمدُّد بحجة ضمان حقوق الإنسان، وحماية الأقليَّات، والدفاع عن الحُرِّيَّة التي يجب أن تكون مكفولة للجميع. الحُرِّيَّة التي حلَّت محل الله والمُثُل العليا التقليديَّة. ناهيك عن ما يُدْعَى الآن بـ “الصوابيَّة السياسيَّة”، وقد صارت سياسة لاعقلانية تُهَاجم الفرد إذا ما انتقد أي عرقٍ أو أقليَّة دينيَّة وجنسيَّة: مثل المسلمين، واليهود، والمثليِّين، والسُّود، والعابرين. وتأمره بإلجام عقله النقديّ حتى لا يُوصَف بالعنصريَّة.

واليوم تُثَار نفس الإدِّعاءات بالنسبة للدراج كوينز المحميّين بشكلٍ نسبيٍّ عبر هذه السياسات المتحيِّزة ومواثيق حقوق الإنسان، غير أنَّ كل طرفٍ يزعجه وجودهم: يجعل من آيديولوجيَّته الدِّينيَّة أو الاجتماعيَّة مُنْطَلقًا للتركيز على ما يراه فيهم من سلبيَّاتٍ تتناقض مع أفكاره ومعتقداته. لكن هل حقًا مثل هؤلاء الذين صاروا مثار جدلٍ هم أمراض ما بعد الحداثة ودُمى تُسيِّرها حكومة البُلدان المتقدِّمة، أم أنَّ حقيقتهم عكس ذلك؟

فن الدراج:

يتمثَّل الجوهر الحقيقيّ للدراج في كونه أسلوبًا يعتمده بعض الأشخاص، معظمهم من الرجال، للتعبير عن الجوانب المتنوِّعة من ذواتهم، عن طريق المُبالغة في تقمُّص المظهر الأُنثويّ ولُغة الجسد، لخلق شخصيَّةٍ بديلة(1). فيَرتدون، على سبيل المثال، أثداء أُنثويَّة وباروكات شعرٍ، غير أنَّهم يقومون بالإكثار من ارتداء الثياب لا التقليل منها أو الانخراط في فن التعريّ(2).

إنَّ تلك الشَّخصيَّة النمطيَّة، أو التي تتوافق وتتماهى مع المظهر العام الذي أقرَّه المجتمع ومنظومته الجندريَّة، قد تَمَّ تحريفه أو التخلِّي عنه لصالح جسدٍ جديدٍ يُمثَّل قِيَم جماليَّة أخرى، وشَخصيَّة مُغَايرة للأولى جريئة أكثر. ورغم أنَّ فَنّ الدراج هو أسلوب تشترك فيه جماعة محدَّدة من الرجال، إلا أنه يُجسِّد فردًا مستقلًا عن الآخرين، مُنغَمِسٌ ببهجةٍ في فرديَّته الاجتماعيَّة.

ومع أنَّ فَنّ الدراج له طبيعته الفَنيَّة، أي المسرحيَّة والتمثيليَّة، فهو يُمثِّل طابعًا بصريًّا وسلوكيًّا مفرطًا ينتهجه صاحبه، غير أنه ليس بالمُحَاكاة السَّطحيَّة والظاهرة المُزيَّفة، بل وجه آخر من شَخصيَّة هذا الأخير. كما لا يعود بالضرورة إلى ما يَطلق عليه البعض الخُنُوثة -ثُنَائيَّة الجنس- أو أمراض عقليَّة ونفسيَّة، فالدراسات عنهم شبه غائبة، كما أنَّ كل شخصٍ منهم تختلف طبيعته النَّفسيَّة والجسديَّة وثقافته وأفكاره عن غيره.

أصول فن الدراج:

ينسب البعض إطلاق كلمة دراج (Drag) -أي الجَرّ أو السَّحب- على هذا الفَنّ إلى المسرح، عندما كانت فساتين الممثِّلين الذكور الذين يقومون بالأدوار النسائيَّة تُجَرّ على طول الأرضيَّة، وهناك تخمين يفيد أنَّ الكلمة جاءت من اللغة اليديشية عبر كلمة (Trogn) التي تعني “يرتدي” من (Tragen) اللغة الألمانيَّة(3).

يشترك معظم الباحثين الذين تتبعوا أصول الدراج في الاتِّفاق على سلسلة تأريخيَّة تُعتَبر قصيرة بالنسبة لظهورهم. ما يُنَاقِض تاريخ الدراج الذي نُرْجِعه ربما إلى فترةٍ أطول.
هناك من يُنْسِب الدراج إلى المسرح الشكسبيريّ، فالنساء في ذلك الوقت وإلى فترةٍ ليست ببعيدة كُنّ محروماتٍ من المشاركة في بناء الصورة الفَنيَّة للمسرح والتَّمثيل فيه أيضًا، وبالتالي كان الرجال يؤدّون أدوار المرأة.

ولا يمكن أن يتِمّ ذلك إلا عبر ارتداء ملابسها ووضع زينتها. كما نجد مثل هذا الغياب عند الإغريق واليابان، فقد كان الرجال يؤدّون أدوار المرأة أيضًا. مع شُعُوب أخرى كانت تعد المسرح جزءًا من ثقافتها، أو تقوم باحتفالات التقنُّع -كما يسميها الباحثون- مثل الموجودة في المغرب وفيها تقليد للمرأة والحيوانات وشخصيَّات معيَّنة من جانب ساخر واحتفاليّ.
غير أننا لا نرى في هذا جذورًا لظاهرة الدراج، لأنَّ الأمر يتعلَّق فحسب بالتَّمثيل وبحلّ مشكلة غياب المرأة كممثِّلة، حيث يُدْعَى ذلك بـ Cross Gender Acting، وهو يختلف عن فن الدراج وما يرتبط به مما يُسمَّى Cross Dressing وهي الرَّغبة في ارتداء ملابس الجنس الآخر، وهذا ما يشترك فيه جميع من انخرطوا في فن الدراج.

الصَّخَب الاحتفاليّ:

لقد ذكر بودلير في كتابه “رسَّام الحياة الحديثة” أشخاصًا يُشْبِهون الدراج كوينز إلى حَدٍّ ما، حيث كانوا معروفين عند شُعُوبٍ كثيرة ومنخرطين في مظاهٍر احتفاليَّة.

يقول فيما يتحدَّث عن أعياد كانت تجرى في تركيا برعاية السلطان العثمانيّ:

“الرَقصَات الجنونيَّة التي يؤدِّيها المهرِّجون من الجنس الثالث (أكثر ما ينطبق على هذه الحالة هي عبارة بلزاك المضحكة، إذ تحت اختلاجات هذه الإلتماعات المضطربة، وتأرجُح هذه الملابس الفضفاضة، وزينة الخدود والعيون، والحواجب الحادّة، والحركات الهيستيريَّة، والمتشنِّجة، والشُّعُور المُتَرَاقِصَة فوق الخُصُور، يصعب عليك، كي لا نقول مستحيل، أن تتعرَّف على الرجولة فيها”(4).

وبمناسبة الاستشهاد بـ بلزاك، فقد كتب هذا الروائيّ رواية قصيرة مُعَنْونَة بـ “ساراسين” (Sarrasine)، عن رجلٍ كان يرتدي زي المرأة ويتشبَّه بها.
ويمكن أن نذكر في نفس السياق رواية فرجينيا وولف “أورلاندو” (Orlando)، التي تتحدَّث فيها عن رجلٍ اتَّخذ نفس هذا الأسلوب بعد أن وقع له تحوُّل وصار يعيش كذكرٍ وأنثى.

وهناك قصص حقيقيَّة عن أشخاصٍ عاشوا بهذه الطريقة، ورغم اختلاف مثل هذه المظاهر عن الدراج كوينز، لاحتماليَّة أن يكون بعضها ضمن اضطراب الهُويَّة الجندريَّة، أو الخُنُوثة، أو الجمع بين الجنسين، أو اختلاق جنسٍ جديد، غير أنّه ما من شَكٍّ أيضًا في وجود أشخاص يحبُّون التزيُّن بزينة الجنس الآخر التي فرضها المجتمع والظهور بمظهرهم من دون أيّ أسبابٍ فيسيولوجيَّة أو رغبة في تحويل جنسهم، حتى وإن غاب الوعي بوجوده كهُويَّةٍ ثانيَّة وفَنٍّ جماعيٍّ.

وإذا كان ما ذكره بودلير سابقًا يعود إلى احتفالاتٍ مجنونة تَعُمُّها الفوضى وانعتاق الأجساد من أشكالها القديمة، بغية شحن مشاعر وطاقات أكبر، إلا أنه توجد احتفالات تماثلها بل تتفوَّق عليها، أساسها دينيّ.

الدراج كوينز بوصفهم كَهَنَة:

لقد تجلَّى الدراج كوينز بطُرُقٍ كثيرة في التَّاريخ ومتنوِّعة، لا نستطيع تحديد مظهر أو سبب واحد لها. فكانت في بلاد الرَّافدين طبقة من الكَهَنَة تُدْعَى الكوكارو، والإيشنو. حيث يقول علماء الآشوريَّات والباحثون إنَّهم: “يرتدون ملابس نسائيَّة في مناسباتٍ خاصة، وقِيل إنهم كانوا رجالًا تَمَّ إخصائهم ليشاركوا في طُقُوس الرَّبة عشتار، وقِيل إنهم قد يمثِّلون البشر غير المتميِّزي الجنس الذين خلقهم الإلَه “أيا” كيما يدخلوا عَالَم الأموات ويخرجوا منه بحُرِّيَّةٍ. أو إنَّهم كانوا مُلْحَقين بالمعبد بصورةٍ خاصة لمُمَارسة الجنس مع الرَّاغبين”(4).

وقد تَمَّ ذكرهم في العديد من النصوص المسماريَّة الأسطوريّة، فكانوا يشتركون في رَقْصةٍ طقسيَّة تخص الإلَهة إنانا (عشتار)، فيذكر، على سبيل المثال، في أسطورة إنانا وجبل إيبخ، التي تعود إلى الفترة الأكديَّة (23 ق م) ما يلي:

لذلك دشنت أشياء عظيمة:
أقمت فيه لنفسي عرشًا لا يتزعزع!
سلَّمت للمسترجلات الخناجر والسيوف
وسلَّمت الطبلات والطبول للمخنَّثين
فبدلت فيه شخصيات المتنكرين..(5)

ونجد في روما القديمة الكَهَنَة المَخْصيُّون للإلَهة سيبيلي، الذين كانوا يدعون بـ جالي (Galli)، حيث يرتدون ثياب النساء ويتزينون بشكلٍ متكلِّفٍ، مطيلين بذلك شُعُورهم أيضًا(6).

كما تذكر الباحثة والدكتورة مينيكه شيبر، إنَّه “في أوقات الأزمات، غالبًا ما تلجأ الثقافات إلى طقوسٍ يرتدي فيها الرجال ملابس النساء ويتصرَّفون مثلهن، اعتقادًا بأنَّ إمكانيَّات الذكر والأنثى مجموعة في شخصٍ واحدٍ ستزيد من قوة حياة المجتمع(7).

وفي ثقافة الأنديز ما قبل الاستعماريَّة، كان المؤمنون يعبدون تشوكي شونشاي (chuqui chunchay)، وهو إلَه ثُنائيّ الجنس، حيث كان الكَهَنَة يقومون بطقوسٍ مُقدَّسة لتبجيله، فيرتدون ملابس أُنثويَّة أو تَمزج بين المظهر الأُنثويّ والذكوريّ بوصفهم “علامة مرئيَّة لبُعدٍ ثالثٍ يربط بين الذكورة والأنُوثة، الحاضر والماضي، والحياة والموت”(8).

يمكن إذن إطلاق على من ذُكِروا سابقًا، بأنَّهم أسلاف الدراج كوينز، وهم الكَهَنَة الذين كانوا يقدِّمون خدمات احتفاليَّة وطقوسيَّة للمجتمع، في طريقٍ يوازي ما يفعله أحفادهم اليوم ،حيث يختارون التسلية والكوميديا للترفيه. ورغم وجود عِدَّة اختلافات بينهم، فإنَّ الشيء المُشْتَرك هنا، هو تلك الحاجة إلى التشبُّه بالمرأة لأغراضٍ عديدة.

مجتمعات كويريَّة:

في الهند وباكستان سوف نجد مجتمع متعدِّد الهُويَّات الجنسيَّة والمظاهر، يُدعى بـ هجرة (Hijra)، ويتكوَّن من خصيان وعابرين جنسيًّا وغيرهم، حيث يرتدون ملابس نسائيَّة ويتصرَّفون مثلهم.
ويذكر مقال عنهم في موقع Harvrad Divinity School التابع لجامعة هارفرد التالي:

“غالبًا ما يولد المرء المنتمي إلى مجتمع الهجرة، ذكرًا. غير أنَّه يظهر بأساليب أُنثويَّة تقليديَّة ويرتدي على أساسها. العديد منهم وليس الكلّ، يختارون المرور باختبار لحفل الإخْصَاء حيث يزيلون أعضائهم الجنسيَّة كتقدمة للإلَهة الهنديّة باهوتشرا ماتا (bahuchara mata) إلَهة العفة والخصوبة. الأعضاء الآخرون من مجتمع الهجرة يولودون ثُنائيي الجنس. وفي أحيانٍ كثيرة يدعوهم الغرباء بالعابرين جنسيًّا. ويعدّ مجتمع الهجرة أنفسهم مثلما يعدّهم المجتمع الهنديّ: جنسًا ثالثًا، فهم ليسوا نساءً ولا رجالًا، ولا في فترة عبورٍ جنسيّ. إنهم يشكِّلون معًا جنسًا مختلفًا. وعلى أيّ حال، فمجتمع الهجرة مجتمع معقَّد”(9).

رغم أنَّ الإلَه الهنديّ شيفا، كان يمثِّل القوَّة الفالوسيَّة (القضيبيَّة) التي ترتبط بالذكورة. غير أنَّه مثَّل في بعض المعتقدات الثُنائيَّة الجنسيَّة التي جعلته يجمع بين الأنثى والذكر. ويدعى مثل هذا الظهور “آرناريشافرا”. (Ardhanarishvara) والذي يعني “الرَّب الذي هو نصف امرأة”.

وتُشير قصائدُ هنديَّة قديمة، ترجع إلى القرنين الحادي عَشَر والثاني عَشَر إلى هذه الثُنائيَّة الجنسيَّة التي ترتبط ربما بالروح اللا جنسيَّة أكثر من الجندر والجسد، كما هو مذكور في قصيدتين تعودين إلى القرنين الواحد والثاني عَشَر بعد الميلاد، ألَّفها أربعة من قديسي طائفة “Veerasaiva” التي تُكرِّس نفسها للإلَه شيفا.

إذا أبصروا
النهود والشعور الطويلة حاضِرَة
سيدعونها بالمرأة
إذا أبصروا اللحية والشوارب
سيدعونها الرجل
لكن أُنظُر إلى النفس التي تتأرجح بينهما
هي ليست رجل ولا امرأة.
يا راماناثا(10).

أما في قصيدةٍ أخرى فنقرأ

أُنظر هنا يا رفيقي العزيز
أنا أرتدي ملابس الرجال هذه من أجلك فقط
أحيانًا أنا رجل
وأحيانًا أخرى أنا امرأة.
يا رب مجمع النهرين
سأخوض الحروب لأجلك
لكني سأكون عروستك المكرَّسة لك(11).

ويوجد في المكسيك مجتمع الـ الموشي Muxe، ويعبِّر لقبهم عن هُويَّتهم، فهو مشتق من الكلمة الإسبانيَّة (Mujer)، ومعناه امرأة، وهي تشير إلى الرجل الذي يكون مدفوعًا بشُعُورٍ يرى أنَّه ينبغي عليه العَيْش بطريقة النساء. وقد تعقَّب الأنثروبولوجيّون هذه الظاهرة، حيث أرجعوها إلى كَهَنَة آلَهة المايا والأزتك الذين كانوا رجالًا ونساءً في نفس الوقت. (سبق أن ذكرنا عن من يماثلهم لدى الأنكا)، وقد قضى الإسبانيِّون على معظم هذه السلوكات والمظاهر بعد غزوهم للمكسيك، وتحوَّل أهلها إلى المسيحيَّة الكاثوليكيَّة. ولا يعبِّر مجتمع الموشي عن هُويَّة واحدة، بل هم مختلفون فيما بينهم ولكل واحد خصوصيَّته. فهناك من يغيِّر جسمه بالتدخُلَّات الطبية، أما الآخر فيكتفي بارتداء الألبسة والتزيُّن فحسب(12).

وإلى جانب حُبّ هؤلاء للاحتفالات، فهم يُسهِمون في الأعمال المنزليَّة: كالتنظيف والطبخ ومساعدة أمهاتهم. غير أنَّ العديد منهم لا يقبل بأن يحصر نفسه في أيّ ميولٍ أو أدوارٍ جندريَّة، بل أن يكون فردًا من الموشي فقط كما يقول أحدهم، ويذكر آخر أنَّ هذه الهُويَّة تُجسِّد بالنسبة إليه الحُرِّيَّة والحيويَّة والمتعة والتفاعل مع الآخرين(13). وهناك من يُصرِّح أنَّها تمثِّل فقط نوعًا اجتماعيًّا آخر (جندر)، وأنَّها ثُنائيَّة من القوَّة الذكوريَّة والحساسية الأُنثويَّة(14).
ولا يرى أفراد مجتمع الموشي أنفسهم نساءً بالمعنى الحقيقيّ، فيعترف بعضهم بأنَّهم لا يستطيعون الشُّعُور بنفس شُعُور المرأة، إلا أنّهم يعيشون وسط “ثقافة أُموميَّة” -كما يصف أحدهم- تحتل فيها المرأة مكانًا مهمًا، خاصة في مجال العمل وينالون مثلها الاحترام والتقدير(15).

وإذا ذهبنا إلى إفريقيا فسوف نعرف أنَّه كان يجري فيما مضى عند شعب أناكولي (anokole) -مملكة قديمة مكانها اليوم أوغندا- انتخاب امرأة ترتدي ملابس رجاليَّة، حيث تصبح عرَّافة الإلَه موكاسا (mukasa). أما في مدغشقر في قبيلة ساكالافا (sakalava)، فيُربَّى الأطفال الصغار الذين يعتقد أنَّ لديهم مظهرًا أُنثويًّا على حسب تنشئة الفتيات(16).

ويلقِّب شعبيْ أنتاندروي (antandroy) والهوفا (hova) في مدغشقر، الأشخاص العابرين جندريًا** بلقب سكراتا (sekrata). حيث يرتدي هؤلاء، مثل النساء، ملابس نسائيَّة وشُعُورًا طويلة، كما يثقبون آذانهم ويلبسون حُليًّا وأشياء أخرى حتى يبدو بالشكل المرغوب(17).

ونعثر عند السُّكَّان الأصليين في أمريكا الشماليَّة، لدى الشُّعُوب الناطقة بلغة الكروو (Crow)، على أشخاصٍ يُدعون بـ أوش تيش (Osh-Tisch)، وهو رجل يقوم بالظهور بمظهر المرأة في ممارساتٍ احتفاليَّة واجتماعيَّة أيضًا. فهو، على سبيل المثال، يرتدي ملابس النساء ويقوم بأدوار المرأة في العمل، لكن عند قيام حرب ما فيرتدي ملابس الرجل ويقوم بدوره المنوّط به كرجلٍ. وفي الغالب لا يتزوج الأوش تيش، لكن بإمكانه الارتباط بعَلاقة صداقة طويلة المدى مع رجلٍ، وأخرى مع امرأة.
ورغم أنَّ الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة أجبرت العديد منهم على التقيُّد بالظهور الذي يُمليه الجنس عليهم، غير أن الكثيرين منهم حافظوا على مثل هذه الأدوار(18).

كما يوجد في إيطاليا بمدينة نابولي أشخاص ولدوا رجالًا، لكنهم يرتدون ملابس النساء ويتصرَّفون مثلهن، وهم أشخاص ينالون احترام الجميع، كما يُعْتَقد أنَّهم يجلبون الحظ الجيد. وهو تقليد يعود إلى طُقُوسٍ ومعتقدات وثنيَّة ترتبط بالكَهَنَة المَخْصيِّين الذين كانوا يقومون بمثل هذه الممارسات(19).

لم ينل كلّ هؤلاء الأشخاص الذين سبق ذكرهم الحظوة عند الجميع، أو كانوا بالضرورة مبجَّلين أو مرذولين، وذلك بسبب اختلاف طبيعة كل عصر وبلد من خلال عاداتهم وتصوُّراتهم الاجتماعيَّة والدِّينيَّة وذهنيَّة شُعُوبها.

وهكذا يكون هؤلاء الدراج كوينز أفرادًا مختلفين يرفِّهون عن الناس في مجتمعاتهم ويحتفلون باستمرار. فيبالغون في كلّ شيءٍ حتى الضحك الذي يبدو مفرطًا عند البعض. أما شُعُورهم بالسعادة وحُبّهم للرقص فهو يُزعج الكثيرين.

إنّ هؤلاء الأشخاص كائنات ليليَّة تختفي في النهار المضجر والواضح الذي تأكله ساعات العمل والمسؤولية والعَلاقات المعتادة، لتعود إلى زمن لونه أسود كلّه تسليَّة وتحرُّر. واليوم أصبح هذا الفَنّ لا يطالعنا فقط عندما يظهر القمر، بل في ضوء النهار أيضًا.

إنَّ الكثير من النماذج التي ذكرناها قد لا تتطابق بشكلٍ شاملٍ مع ظاهرة الدراج، وإنَّما يمكن أن ترتبط بهُويَّات جنسيَّة أخرى، كما إنَّه من الاستحالة أيضًا أن نقول عن كل شخصٍ إنه دراج كوين فقط لأنه يظهر أو ظهر ذات يوم بمنظرٍ مختلف. فلا يمكن، على سبيل المثال، أن نقول عن الفنَّانة الفرنسيَّة كلود كاهون (Claude Cahun/Lucy Schwob) التي غيرَّت اسمها الأوَّل “لوسي” إلى “كلود”، بسبب أنَّه يُستعمَل للجنسين أنها هي وغيرها من كانوا يرتدون ملابس الجنس الآخر واختاروا هُويَّة جنسيَّة غريبة أو ثُنائيَّة، أنَهم دراج كوينز، ولا المصوّرين والفنَّانين الذين سمحوا بالتقاط صور فوتوغرافيَّة لنفسهم وهم يتجمَّلون بزينة المرأة ويلبسون ملابسها، مثل مارسال دو شامب وآندي وارهول أنَّهم كانوا منخرطين في هذا الفن كذلك.

(روز سيلفي/ مارسال دو شامب) صورة بواسطة مان راي، 1920

 

إنَّ الدراج كوينز رغم هذا يمتلكون قواسم مشتركة مع النماذج السابقة أو تشابهات لا سيَّما تلك التي تتعلَّق بالمظهر، وخلق شخصية ثانية من دون تدمير الأولى بالضرورة، ربما لها عَلاقة مع ما يدعوه علماء النَّفس الذَّات البديلة (Alter Ego). أما الأصل الميثولوجيّ والدِّينيّ، فهو ما يتصادم الآن مع فن الدراج الذي يتحلَّى بطابعٍ دنيويٍّ أكثر، وإنْ احتوى على روحانيَّات وأفْكَارٍ فرديَّة.

خاتمة:

إنَّ التوسُّع مع المُبَالغات أو التطرُّف -إذا شاء البعض تسميتها بذلك- التي يراها البعض في فَنّ الدراج وأصحابه خلال هذا العقد: تتجلّى بعد مرحلة من التطوُّرات في العديد من مواقف الحياة الفِكْريَّة والسياسيَّة والحقوقيَّة والدِّينيَّة.

كما أنّ هناك جهات وآيديولوجيَّات تظهر في التاريخ تستغل هؤلاء المُهمَّشين أو المختلفين لصالحها، عن طريق البروباجاندا في محاولات لاحتوائهم والوقوف إلى جانبهم بشكلٍ متحيّز، فمن السَّطحيَّة إذن مُحَاكَمة التجاوزات مع تطبيقاتها الخاطئة وغلوها وتعميمها على جوهر فِكْرةٍ ما أو معتقد.

ويحق للجميع إطلاق أحكامهم على فَنّ الدراج وأصحابه، والإدلاء بآرائهم ،سواء كانت سلبيَّة أم إيجابيَّة. غير أنَّ ما يجدر أخذه بعين الاعتبار هو أنَّ وجودهم ليس بالأمر الجديد، بل هو قديم جدًا وربما أقدم مما نتصوَّر.

—————————————-

ملاحظات:

* هذه الملابس تُدْعَى بـ androgynous clothing ويتِمّ فيها ارتداء ثياب لا تُظهِر كثيرًا الاختلافات بين الجنسين أو تعبِّر عن واحد منهما أو كليهما، مثل ارتداء بذلة رجالية في الجزء العلويّ للجسم أما السُّفليّ فتنورة نسائيَّة.

** لا يتوافق المصطلح الإنجليزي (gender crossers) الذي ترجمناه إلى “العابرين جندريًا” مع الآخر: (Transgender). فهذه الكلمة الأخيرة تحيل إلى التحوُّل، أو الرغبة في التحول البيولوجيّ والاجتماعي بشكل كامل والانسلاخ الأصلي عن الجنس الأوًل، أما المصطلح الأول فهو ما يفيد مقصد النص، ويشير إلى هؤلاء الذين يعبِّرون بطُرُقٍ مختلفة عن هُويَّتهم الجنسيَّة متجاوزين بذلك المظاهر التقليديَّة التي تُعبِّر عن جنسهم الذين ولدوا به من دون أن يشعروا بالضرورة أنّهم ينتمون فقط إلى جنسٍ واحد فحسب أو يبدلوا بذلك أعضاءهم الجنسيَّة جراحيًّا.

———————————–
هوامش:

1 – THE HISTORY OF DRAG QUEENS
https://cutt.ly/H3Sl824

2 – The history of drag, and how drag queens got pulled into politics
https://cutt.ly/g3SlOjY

3 – drag
https://cutt.ly/U3SzDzj

4 – شارل بودلير، رسام الحياة الحديثة، ترجمة قاسم المقداد، دار نينوى للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2019، ص45.
5 – قاسم الشواف، أدونيس، ديوان الأساطير، دار الساقي، ص: 255.
6 – مينيكه شيبر، تلال الفردوس، ترجمة: عبد الرحيم يوسف، طبعة 2020، ص: 36
7 – المصدر نفسه، ص200.
8 – Exploring the history of gender expression

https://cutt.ly/18aG42y

9 – The Third Gender and Hijras
https://vu.fr/YQUh

10 – Speaking of Shiva, translated by A. k Ramanujan, Penguin Random House UK, p: 13.

11 – Ibid, p23.

12 – Lifestyle Distinct: The Muxe of Mexico (.op.cit)
https://vu.fr/PXlT

13 – Muxes – Mexico’s third gender

https://cutt.ly/X8aHM1d

14 – Third Gender: An Entrancing Look at Mexico’s Muxes: Short film Showcase

https://vu.fr/lyER

15 – Ibid

16 – Exploring the history of gender expression (.op.cit)

https://cutt.ly/18aG42y

17 – Ibid

18 – Ibid

19 – Ibid

تدقيق لغوي: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا