الليلة التي أعادوا فيها قراءة “هيمان مينسكي”!

سلسلة أشهر الكتب الاقتصادية: "Stablizing an Unstable Economy" لهيمان مينسكي

لم أسمع باسم هيمان مينسكي إلَّا في أواخر عام 2009 عندما قرأت محاضرة لـ بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008 بعنوان «الليلة التي أعادوا فيها قراءة مينسكي – the night they reread Minsky»، العنوان الذي اقترضته اسمًا لمراجعتي هذه. وقال فيها كروجمان بالحرف الواحد أنَّ معظم ما قمنا به في الاقتصاد الكلِّي على مدار الثلاثين عامًا الماضية كان عديم الفائدة، ودعا إلى إعادة قراءة كتب مينسكي مرة أخرى خاصة كتابه ”تحقيق الاستقرار لاقتصاد غير مستقِّر”.

ولقد اخترت الكتاب الذي أشار إليه “كروجمان” ليكون الكتاب الرابع في سلسلة المراجعات الأسبوعية التي أكتبها على صفحات منصة المحطة عن أشهر الكتب الاقتصادية في التاريخ. ولقد نُشر الكتاب في طبعته الأولى عام 1986 قبل الأزمة المالية العالمية في 2008 بنحو أكثر من عقدين سابقًا لعصره بكلِّ المقاييس. ولو كان مؤلِّفه حيًا عندما انهار بنك ليمان برازرز وتساقطت وحدات النظام المالي العالمي كقطع الدومينو لقفز قائلّا “أنا صح ..أنا صح“، كما فعل حسن شحاته مدرِّب الكرة المصري عام 2006 في نهائي كأس الأمم الإفريقية.

هيمان مينسكي من هو

مؤلِّف هذا الكتاب هو أستاذ الاقتصاد بجامعة واشنطن، أستاذ متميِّز في معهد لـِڤي للاقتصاد بكلية بارد، متمرِّد على التيار الرئيسي في علم الاقتصاد خاصة الكلاسيكية الجديدة التي سادت العالم -ولازالت- خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

أسباب اختيار الكتاب

بالإضافة إلى أهمية الكتاب القصوى، فإنني وأنتم وبقية البشر نتعاطف دومًا مع ذلك الشخص الضعيف المجهول الذي استخف به الناس والذي يتحول إلى بطل في النهاية وهو ما يسميه الأمريكان the underdog. هايمان مينسكي لم يفز بجائزة نوبل، ولم يدرس في كامبريدج أو يال أو شيكاجو، ولم يكن اسمًا كبيرًا قط في هذه المهنة.

ولم يسمع بكتابته إلى أن توفي منذ 13 عام قبل الأزمة العالمية إلا القليل من أتباع المدرسة الكينزية. لكن منذ الأزمة وحتى الآن واسمه يتردَّد في أعمدة الفاينانشال تايمز وتقارير جولدمان ساكس وصفحات الإيكونوميست، بل حتى في باب “حديث المدينة” في مجلَّة نيويوركر.

إعلان

مكونات الكتاب

يتكوَّن الكتاب من خمسة أجزاء وملحقيْن، فالجزء الأوَّل  هو مقدِّمة الكتاب، أما الجزء الثاني فعنوانه الخبرة الاقتصادية ويحلِّل فيه فترات الركود الاقتصادي والكساد وبزوغ ظاهرة عدم الاستقرار المالي، والجزء الثالث بعنوان النظرية الاقتصادية عن الكلاسيكية الجديدة.

ويأتي الجزء الرابع بعنوان الديناميكية المؤسسية يتحدث فيه عن دور البنوك في النظام الرأسمالي، أما عن الجزء الخامس فهو بعنوان السياسات وأجندة الإصلاح. وينتهي الكتاب بملحقين الأوَّل عن الهياكل المالية والثاني عن أسعار المستهلكين والأجور الحقيقية.

لايمكنني وصف لغة هيمان مينسكي بالجمال والبلاغة أو توصيفه بأنه كاتب مبدع، ولكن لغته واضحة نسبيًا مع بعض الصعوبات والتكرار من فصل لآخر.

إنَّ مكافأة القراء الفعلية رغم ذلك هي تلك الأفكار الرائعة التي سيستخلصوها من هذا الكتاب، حيث تنتقد بعمق كبير الرأسمالية وفكرة حرية الأسواق.

الأفكار الرئيسية لكتاب هيمان مينسكي:

الاستقرار يخلق الاضطراب stabilizing is destabilizing

1- إنَّ عدم الاستقرار هو جزء من نسيجِ النظام الرأسمالي السوقي، لكن التيار السائد في الاقتصاد في دوائر صناعة القرار وفي الساحات الأكاديمية بريادة يوجين فاما لا ترى أيَّ أخطاء في هذا النظام، وأنَّ الأسواق قادرة على إصلاح نفسها والتكيُّف للوصول إلى حالة جديدة من التوازن، وأنَّ فترات ارتفاع مستويات البطالة ومعدَّلات التضخم هي الطريقة التي تنتهجها الأسواق لإعادة التوازن لأجزائها.

واختصارًا، فأزمات واضطرابات النظام راجعةٌ دائمًا إلى أسباب خارجية external shocks مثل الحروب وارتفاعات أسعار البترول الشديدة أو ظهور الإنترنت.

2- تؤدِّي فترات الرواج والازدهار الطويلة في الاقتصاد الرأسمالي إلى علاقات مالية غير مستقرة؛ نتيجة دخول أعدادٍ كبيرة من المستثمرين الجدد الراغبين في تحقيق أرباح سريعة، وخروج المستثمرين ذوي الخبرة أرباحهم التي حقَّقوها.

(ب) تعقيد النظام المالي

1- أحالت الابتكارات المالية والمنتجات المالية المعقَّدة التي أفرزها النظام المالي حالةَ عدم الاستقرار إلى وصمةٍ دائمة في الرأسمالية، وعدم الاستقرار، هذا هو السبب وراء البطالة والتضخم وتقلبات سعر الصرف والفقر.

وقال مينسكي أنَّ لجوء صناع السياسة لعلاجِ هذه المشاكل، فقط من خلال إدخال تغييرات ضريبية في السياسة المالية أو تعديلات في عمليات البنك المركزي في إطار السياسة النقدية (مثل تغيير سعر الفائدة) ليس إلَّا عبث ومضيعة للوقت، وطالب حتى بعدم السماح لدعاة الليبرالية الاقتصادية الجديدة من الاقتراب حتى من دواوين صناعة القرار وذلك لأنَّ خطوات الإصلاح الفعلية لن تأتي أبدًا من مشورة هؤلاء الصفوة الذين هم أنفسهم مصممو النظام الرأسمالي بشكله الحالي.

2- هناك تضارب في المصالح بين البنوك الكبرى وعملائها، والتي من المفترض أن تعمل ما يحقق مصالحهم، لكنَّها تقع دوما أسيرة في شِباك فتنة “تحقيق المزيد من الربح”. وتحت تأثير هذه الفتنة تلجأ البنوك إلى زيادة اقراضها مصحوبًا بقدْرٍ من المخاطر الأعلى نظرًا للتوسع في شريحة المقترضين.

وإزاء ذلك ينصح مينسكي بإلزام البنوك بالحفاظ على نسب معيَّنة بين رأسمالها وأصولها للحدِّ من المخاطر التي ينطوي عليها نشاط البنك الهادف لتحقيق مزيد من الربح، حيث يدفعه هذا إلى زيادة مستوى المغامرة والمخاطرة لديه. وهذا بالطبع ما اضطّرت أن تقوم به الحكومات بعد الأزمة المالية سنة 2008.

(ج) لحظة مينسكي Minsky Moment

لحظة مينسكي: وهو مصطلح شائع في الاقتصاد والإعلام بعد 2008، وتعني الانهيار المفاجئ الذي تتعرَّض له أسعار الأصول بعد فترة مضاربة طويلة الأجل أو نمو غير مستدام، بسبب ضغوط الديون أو العملة.

(د) أجندة الإصلاح عند هيمان مينسكي

يرى هيمان مينسكي أنَّ نظام السوق الحر أداة جيدة لتوزيع الموارد في أحوال كثيرة لكنَّه عاجز عن تحقيق الكفاءة والعدالة والاستقرار في النظام الاقتصادي، واعتبر أنَّ كافة أشكال الرأسمالية معيب نتيجة للطبيعة الكامنة للنظام المالي لها، وطرق تعاملها مع رأس المال.

ولعلاج التقلصات في تدفقات الاستثمار في القطاع الخاص، والحفاظ على مستوى العمالة والتوظيف واستقرار الأرباح، يجب أن يمثل الإنفاق الحكومي – أو حجم الحكومة حسب تعبير مينسكي – 16% – 20% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يعادل الاستثمار الخاص في الوضع المعتاد. وطالب مينسكي بدور نشط للبنك المركزي بحيث لا يقتصر دوره على وظيفة المقرض الأخير lender of last resort لكن عليه أن يقود تطور الجهاز المصرفي والمؤسَّسات المالية بما يمنع حدوث حالات عدم الاستقرار المالي.

تعليق ختامي

لم تكشف أفكارُ هيمان مينسكي فحسب عن الأسباب الكامنة وراءَ عدمِ الاستقرار الاقتصادي، بل أوضحت، من خلال المسار التاريخي الذي سارت عليه (من الهامش الأكاديمي إلى عمق التيَّار الرئيسي لعلم الاقتصاد)، عن قدرةِ هذا العلم على التكيُّف مع جوانب واقعنا المالي شديد التغيُّر.

والحقيقة أنَّ فهم اقتصاد اليوم على الوجه الصحيح – كما تعلَّمت من مينسكي-  يعتمد على فرضين أساسيين: الأوَّل هو أنَّ الأسواق الحرَّة توفِّر الطريقة الأكثر فعاليَّة لتلبية الاحتياجات الاقتصادية الأساسية؛ والثاني هو أنَّ المؤسَّسات المالية المتطورة وتدفقات رؤوس الأموال الضخمة، بطبيعتها، تطغى وتتفوَّق على هذه الآلية وتسبِّب عدم الاستقرار. وبذلك تصبح الانهيارات المالية جزءًا مألوفًا من المشهد الاقتصادي.

ويستدعي ما سبق ذكره رقابة مستنيرة على النظم المالية والمصرفية، والتوفير السريع للوظائف، وبرامج التأمين الاجتماعي، والحفاظ على مستوى الاستثمار ليخفف من شدَّة العلل الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للنظام الرأسمالي إلى أن يأتي نظامًا جديدًا -وليس الشيوعية بكلِّ تأكيد-.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

اترك تعليقا