النيوليبرالية: كيف نعيش على نبوءاتٍ زائفة؟

نعيش منذ الثمانينيَّات على وعد السياسيين، والاقتصاديين الليبراليين، ورُسُل نظريَّة “تساقط الثمار”، التي جوهرها أن التَّركيز في الاقتصاد على رجال الأعمال والطبقة العليا التي تقوم بالاستثمار، سيعود بالفائدة على باقى طبقات المجتمع من خلال تساقط ثمار المكاسب الاقتصاديَّة من الطبقة العليا إلى باقي الطبقات، التي تتدفَّق في شكل فُرَصٍ اقتصاديَّة جديدة ومستويات معيشة أفضل ومسارات مضمونة للارتقاء الطبقيّ، وبالنهاية يتبلور مجتمع تعايش إنساني متطوُّر وتتحسَّن الظروف الاجتماعيَّة.

كل هذا سيتحقَّق بمجرَّد تحرِّير الأسواق، وتفكيك شبكات ومؤسَّسات الدعم، والرعاية الاجتماعيَّة وتقديم التسهيلات والعون للرأسماليين وشركاتهم وأعمالهم ومغامراتهم التي تُعزِّز الأسواق بملايين الدولارات.

السِّلع الزَّائفة

يرصد “كارل بولاني” هذا الانقلاب العام في مجرى الأحداث في كتابه التحول الكبير، إذ يرى أن الأسواق قبل زماننا كانت لا تُعَدّ إلا مساعدة ثانويَّة في الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وبشكلٍ عام، فإن النظام الاقتصاديّ كان مُدْمَجًا في النظام الاجتماعيّ، حتى جرى ما جرى وابتلع الاقتصاديّ كل شيءٍ، وأنتج لنا بحسب بولاني ثُلاثيَّة السِّلع الزَّائفة: العمل والأرض والمال، والاستهلاك كغايةٍ ومنطق ترتهن به أدق التفاصيل المعيشيَّة والحياتيَّة. كان “لينين” على حق حين عرَّف الرأسمالية بأنها الرُّعب بلا نهاية. رُعْب مقنع يجعلك تصدِّق دعاياه، بأن هناك دومًا مُسْتهلِكًا سعيدًا لا يشعر بالذنب، وهناك دومًا ثمن لكل شيءٍ. وما بين الاستهلاك والثَّمن، يوجد الفرد وحياته، ويوجد أيضًا ما هو لا يُقدر بثمن.

السوق، مصطلح وبالرَّغم من كَوْنه مألوفًا على آذان وأذهان الجميع، فإنه لا يستوعب الجديد فقط من المنتجات والبضائع، إنه عالمنا الجديد، حيزنا الذي لا نستطيع مغادرته، كل شيءٍ يُبضاع ويُشْتَرى. فلم يَعُدّ مهمًا ماذا تبيع؟! بل كيف تبيع ؟! ففي أغلب مقابلات العمل يُطلَب من كل متقدِّم للوظيفة بأن يبيع أي شيءٍ أمامه، قلم أو نظارة أو حقيبة أو أيًّا كان. لقد أصبح طقسًا وركنًا ثابتًا في أغلب المقابلات، خصوصًا بعد المشهد الشَّهير من فيلم “ذئب وول ستريت”، الذي يجتمع فيه البطل “دي كابريو” بمجموعةٍ من الحمقى الفاشلين ويخبرهم بأنه لن تكون لهم قيمة ولن ينجحوا إلا إذا تعلَّموا كيف يبيعوا أي شيءٍ.

من هنا أصبحت هناك كيفية يُخلَق بها المستهلكون، علوم ومؤسَّسات بحثيَّة وشبكات عالميَّة تهتم بالتَّسويق والدعاية التي تعمل على خلق احتياج عند الشَّخص المُسْتهدَف ” create the need “. وهذه الكيفية تنطبق على تسويق الأدوية والأغذية والسيارات والموبايلات والملابس… إلخ من سلعٍ لا حصر لها.

إعلان

جميعنا نعلم القانون المقدَّس للسوق الرأسماليَّة، الذي يحتكم لقانون العرض والطلب، ولكن ما يحدث من آليَّات خلق الحاجة يعكس جانبًا كبيرًا من التشوُّه الذي يحكم عملية الإنتاج، التي تعتمد على شكلٍ مُتَضخِّم من العرض المتزايد لمنتجات وسلع لا عَلاقة لها بمفهوم الطلب الضروريّ، أو الإنتاج الضروريّ. فالإنتاج الماديّ للسِّلع أصبح يسبقه إنتاج للحاجات والميول، وتحريك مستمر للرَّغبات والخيال، وسياسات للدعايا والتسويق والإلحاح والإقناع والاستحواذ المتنامي على بصيرة ووعي الأفراد، باعتبارهم ليسوا مجرَّد “مستهلكين متوقعين”، بل اعتبار وجود الفرد هو وجود استهلاكيّ بالأساس، وأنه دائمًا في حاجة مستمرة لاكتشاف حاجاته غير المُتحقَّقة.

فربما لا تحتاجين إلى مستحضرٍ تجميليٍّ ما، ولكن حين يوجد أمام عينيكِ إعلان تجاريّ لنجمة سينمائيَّة فائقة الجَمَال، فهذا من الممكن أن يحرِّك داخلكِ رغبة وميل تجاه أن تصبح بشرتك مثلها، أو لمعانٍ وأناقة شعرك مثل شعرها.

فالإعلانات تحاصرنا في التليفزيون وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ وعلى جانبي الطريق وعلى “تيشيرتات” فريقك المُفضَّل، ولو جلست مع أحدهم بعيدًا عن الإعلانات ودعايا الاستهلاك، فمن الممكن أن يخبرك عن شيءٍ ما يريد شراءه، دومًا هناك استهلاك ما نبحث عنه، نتسوَّق ونشتري، ثُمَّ نجد أنه ينقصنا شيء، لا نعلم هذا الشيء في وقته، ولكن نعلم أننا نفتقد شيئًا ما، وهذا ما نقع فيه جميعًا، “فجوة الطموح”: المصطلح الذي صاغته الاقتصاديَّة الأمريكيَّة “جوليت شور”، الفجوة التي لا تتناسب عندها تطلعاتنا ورغباتنا واستهلاكنا مع دخلنا وراتبنا الشهريّ. إذ النزعة الاستهلاكيَّة الجديدة، يتطلَّع الفرد إلى الاستهلاك الذي حقَّقه الآخرون. فالاستهلاك في حَدّ ذاته يصبح قيمة، تتحوَّل على إثرها حياة الفرد لمسيرة ركض متواصلة تجاه تحقيق هذه القيمة.

لقد جرى استيعاب كم هائل من خريجي الكُليَّات بمختلف التخصُّصات للتخديم على متطلبات الاستهلاك. والآن أصبحنا نتعلَّم كيف نبيع أي شيءٍ، لأن هناك الكثير مِمَّن ينتظرون إغراقهم في سيلٍ من المنتجات والسِّلع. لا مجال للحديث عن عملٍ مُنتِج أو البحث عن قيمة حقيقيَّة ننتجها أو نحتاج إليها، أو بمعنى أكثر دقة، لقد ضاع مفهوم “القيمة” بالأساس وأصبح البحث عنه ضربًا من الجنون، أو مضيعةً للوقت وانشغالًا بتوافه الأمور. إذًا ما المهم؟! حسنًا المهم أن نبيع أي شيءٍ ونجني أموالًا ونُفكِّر خارج الصندوق مثلما يردِّدوا دومًا.

لقد لاقت مثل هذه الأفكار ترحيبًا ورواجًا، لا على سبيل الأفراد فقط، بل أصبحت فَلْسَفةً ومنطقًا تحتكم له حكومات ومؤسَّسات، وأصبح لها تشريعات وقوانين وأُطُر تنظيريَّة. فما الفائدة من الحفاظ على صناعةٍ محليَّةٍ ما، وحمايتها وإمدادها برأسمالها البشريّ والماديّ؟! كل هذا أصبح عبئًا لا قيمة له، والأجدى أن نبيع الشركات والأراضي ونُجْني أموالًا. ما فائدة أن نزرع ما نحتاج إليه ونستفيد من المراكز البحثيَّة والعلميَّة للوصول إلى بدائلٍ زراعيَّة واستحداث تقنيات جديدة تمكِّننا من إنتاج غذائنا؟! كل هذا مضيعة للوقت والجهد والأموال، الأسهل أن نستورد كل شيءٍ، لأننا أنشغلنا ببيع كل شيءٍ.

قيمة العمل المهدور

غياب التساؤل عن قيمة ما نفعله وضرورة إنتاج ما نحتاج إليه ألقى بنا في وضعيةٍ يُرثَى لها، وما علينا إلا أن نثق بأقوال الخُبَراء والمديرين، الذين يعتمدون على حِسّ العشَم التاريخيّ في الرأسماليَّة بكَوْنها تُجسِّد حالة التقدُّم اللا نهائيّ للبشريَّة، ولكن هذه نصف الحقيقة فقط، أما النصف الثاني يُخبرنا عن مجتمعاتٍ سابقة على الرأسماليَّة، توافرت فيها على مدار قرون سمات التقدُّم والرفاهية، وانتهى بها المطاف إلى الهلاك، بطبقاتها المُتصَارِعَة. والدَّرس التاريخيّ الأشهر: الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. فما افتقده المجتمع الرومانيّ أنه لم تكن هناك جهود ٌمبذولة لإدخال نمط إنتاجٍ جديد أرقى من خلال إعطاء حافز إنتاجيّ.

في المجتمع الرومانيّ كان عمل العبيد هو الأساس الذي بُني عليه المجتمع، وبالتالي بجانب كبار المُلَّاك وحاشيتهم تواجدت فئات وقطاعات لم يكن لديها أي حافزٍ أو قيمة اجتماعيَّة لتقديم شيءٍ ذات مردودٍ لها أو لمجتمعها، فكان كل ما يشغلها هو نصيبها في مُتَع الأغنياء ليس أكثر، توزيع مختلف للملذَّات من خلال حياة تُعَاش على استهلاك الأغنياء وعلى أنقاض العبيد. وبالنهاية عمل هذا المجتمع على توسيع قاعدة وزيادة الأفراد غير المُنتِجين في المجتمع، مما دفع المُنتِجين إلى خفض إنتاجهم، لأنهم وجدوا العديد من المُتطفلين الذين لا ينتجون بينما يعيشون عالة على الإنتاج الضروريّ. وبدلًا من السَّير نحو توسيع الإنتاج، وبالتالي إشراك أكبر قدر من الأفراد وإسهامهم في تأمين وجودهم الحاليّ وحياة أجيالهم المستقبليَّة، جرى تقهقر وتراجع عن قاعدة الحَدّ الأدنى للإنتاج، ما أصاب السُّلْطة والمجتمع في مقتل، وانهارت الإمبراطوريَّة وسقط المجتمع في أيدي الغُزَاة الجرمان.

والآن نظرة إلى مجتمعاتنا، ربما لا توجد إمبراطوريَّة ولا عبوديَّة بالمعنى الذي عرفه المجتمع الرومانيّ، ولكن توجد إمبراطوريَّات ماليَّة متعدِّدة الجنسيَّات تحتكر قطاعات إنتاجيَّة على مستوى العَالَم، وتفوق ميزانيتها أحيانًا كثيرة ميزانيَّات دُوُل مجتمعة. وتوجد أيضًا عبوديَّة جديدة تحت بند عولمة الإنتاج وحُرِّيَّة التجارة، سمحت لتلك الإمبراطوريَّات وحيتان السُّوق الحُرَّة باستغلال شُعُوبٍ كاملة لرُخْص طبقتها العاملة. سُميَّت هذه الحُجَّة من قَبل بالعبوديَّة، والآن يُسمّونها حق الاستثمار وحُرِّيَّة العمل وخَلْق أسواقٍ ناشئة للاستهلاك. لقد أصبح العَالَم قريةً صغيرة بالفعل، وزادت أصوات التَّبشير بحياة أكثر رفاهية وتطوُّر إيجابيّ لصالح الفرد والمجتمع، ولكن تقرير “أوكسفام” السنوي للفقر، وعلى عكس توقُّعات جهابذة الليبراليَّة الجديدة، يتحدَّث عن أربعة إخفاقات اقتصاديَّة-اجتماعيَّة كبرى طالت المجتمعات عمومًا: هشاشة النُظُم الاجتماعيَّة/ التفاقم التاريخيّ لظاهرة الفقر والتزايد المطرد في عدد الفقراء/ الفشل التاريخيّ لكل ما بشَّرت به الليبراليَّة الجديدة ومؤسَّساتها الماليَّة من رِفاه ٍاجتماعيٍّ ووعودٍ سخيَّة بالثَّروة/ عدم قدرة المنظومة الدوليَّة على تأمين الحَدّ الأدنى من التعاون الضروريّ من أجل مُعَالجة الآثار الجانبيَّة الفادحة لخيارٍ اقتصاديٍّ ساد لنصف قرن.

العقيدة الاقتصاديَّة الاغترابيَّة

نعود لنتساءل ثانيةً، ونفتش عن مفهوم القيمة التائه، أو باللُّغة التي أصبح يألفها الجميع، ما الثَّمن؟! الثَّمن بكَوْنه المخزن والمستودع الوحيد للقيمة.

يحكي المُفكِّر اليونانيّ “يانيس فاروفاكيس” واحدة من القصص، التي تُبرز مفارقة عن مفهوم القيمة، إذ المناوشة بين المحاربين اليونانيين “آياس” و “أوليس” على من سيحصل على أسلحة العظيم “أخيل” بعد مقتله. وكانت تحفًا فنيَّة رائعة صنعها الإلَه “هيفيستوس” بيديه بناء على طلب والدة “أخيل”. السؤال الآن: كيف يمكن حَلّ هذا النزاع على تحف فنيَّة نفيسة؟! يجيب يانيس الإجابة التي تبدو بديهيَّة بالنسبة إلى عصرنا وما يحمله وعينا، بأن سنقيم على الأرجح مزادًا علنيًّا، يخرج بعده من يدفع المبلغ الأكبر متهاديًا بأسلحة “أخيل”. ولكن ما حدث في نهاية المطاف أن تغلَّبت الحُجَج التي عرضها “أوليس” المهندس العبقريّ الذي بنى حصان طروادة، على حُجَج المُحَارِب الشُّجاع “آياس” الذي قتل نفسه بصورةٍ مأساوية بعد سماع قرار أقرانه.

إذًا، لماذا لم يُفكِّر اليونانيون القُدَامى في عرض الأسلحة بمزادٍ علنيٍّ؟! لأن إقامة مزادٍ علنيٍّ ستكون عديمة الجدوى ومُهينة طالما أن “آياس” و “أوليس” لم يهتَّما بالقيمة التبادُليَّة للأسلحة. ما كان مهمًا لهما نوعٌ مختلف تمامًا من القيمة: شرف أن يعتقد أقرانهما أنهما جديران بأسلحة “أخيل”. يحدِّد “يانيس” سبب هذا الاختلاف بين عالمهم وعالمنا في الفارق بين مجتمعٍ توافرت فيه أسواق ومجتمع السُّوق في أيامنا، الذي أصبح يطابق المجتمع وأفراده بالسُّوق، وبالتالي تفسير جميع العَلاقات والسلوكيَّات الحياتيَّة وَفْق مصطلحات سوقيَّة بحساب الأرباح والخسائر الماديَّة وَفْق ما يخدم ويتوافق مع السُّوق، وهذا ما أطلق عليه “كارل بولاني” العقيدة الاقتصاديَّة، التي أوجَدت مُدِيرين ومُخَطِّطين جُدُد لشكل الحياة الجديدة ومتطلَّباتها، قادرين على إعادة تشكيل الفرد ودوافعه من خلال سياسات تقييم الأداء المهنيّ ” professional performance appraisal “. يستند الجوهر الفعليّ لهذه السياسات إلى فَلْسَفة السلوك البشريّ، عن طريق ترويض الناجحين وإبعاد الفاشلين. والنجاح أو الفشل ما هما إلا مفهومان مجرَّدان ليس لهما عَلاقة بالظروف الموضوعيَّة للأفراد أو الخلفيَّة الثقافيَّة والبيئة الاجتماعيَّة. من أركان هذه العقيدة الجديدة إعادة تعريف الأفراد/ العاملين باعتبارهم إما استثمارًا أو عبء تكلفة، وبالتالي أُعِيد تعريف النجاح بكَوْنه التكيُّف مع شروط الاستغلال الجديدة، التي أوصلتنا لعَالَمٍ يضع لكل شيءٍ ثمن.

خاتمة: أنْسَنة العَالَم

تكمُن خطورة هذه التصوُّرات التسليعيَّة في قُدْرتها على إفقاد الفرد للإدراكات الحسيَّة والتضامُنيَّة تجاه الآخر، وتركنا غارقين في وضعٍِ بائس ومخزٍ، محصورين في أدوارٍ اجتماعيَّة مُحدَّدة بالخطوط العريضة التي أرساها مديرو المجتمع ، لنصل إلى حالةٍ أطلقت عليها حنة أرندت “worldlessness”، لتوصيف حالة فقدان الصِّلة بالعَالَم، وتلك الحالة مُبَالغ فيها بشكلٍ كبير، فالموضوع لا يقتصر على تفكيك الشُّعُوب، ولا الطبقات، ولا أصحاب الدِّين الواحد، أو العرق والجنس الواحد، بل تفكيك الفرد بذاته وعزله وإفقاده الثِّقة بنفسه وبالغير، وبالتالي إلغاء كافة المشاعر الإنسانيَّة وتعطيل حس التضامن، لجعل كل شيءٍ حوله تشوبه الغرابة، وبالتالي قبل أن نُفكِّر وندعو البشر للتَّفكير وطُرُق إعمال التَّفكير نفسه، نحتاج إلى أن نُؤنْسِن ما يدور بعالمنا، من أفكارٍ ومصطلحاتٍ ومواقف وسياسات ورؤى، أي نجعل ما يدور حولنا يرتبط بنا، لنرى تأثيرنا فيه وتأثيره فينا، لنفهم ما يعمل من أجلنا وما يعمل ضدنا، لنؤمن بما في صالحنا وإمكاننا ونترك ما يُسْتخدَم لكبحنا وإخضاعنا. وهذا هو مغزى البحث عن قيمةٍ تجعل لحياتنا معنى.

تبدأ إعادة الاعتبار لأنفسنا، ومحاولة انتشال ما تبقى من قيمنا وكرامتنا الإنسانيَّة حين نميز بين حافزين: الحافز الماديّ والحافز المعيشيّ. فالحافز الأوَّل أصبح هو الحَاكِم لبقاء ووجود الفرد، بمعنى أن أصبح تعليمك وتغذيتك وصحتك وسلامتها، بالإضافة إلى زواجك وتربية وتنشئة أطفالك.. إلخ من ضرورات حياتيَّة أصبحت جميعها مرتبطة بالحافز الماديّ، حتى المُمَارسات الفرديَّة والهوايات الشَّخصيَّة أو مُمَارسة الرياضة أو الشَّغف بالفَنّ، كل هذا وأكثر أصبح يَلزمه حافز ماديّ. لكن بوجود الحافز المعيشيّ الذي يُمكِّن الفرد من احتياجاته الأساسيَّة: غذاء وعلاج وسكن، هذا يسقط العبء الماديّ على الأقل بالنسبة إلى ما هو أساسيّ، هنا يصبح لعملك ذاته قيمة. حينها ستعمل ما ترى فيه إبداعك، لا ما ترى فيها اضطرارك. ستعمل لأنك تنتظر قيمة وتريد معنى، بدلًا من انتظار راتب غير كافٍ على الأقل لتشعر أنك أخذت ما تستحق.

في النهاية، فإن نصيحة “آرندت” بأنْسَنة ما يدور بعالمنا ربما تساعدنا على إزالة الالتباس والغموض الذي أحاط بنا ونحن نبحث عن قيمة في وظائفنا، في حياتنا الخاصة، مع أسرتنا و أصدقائنا وفي أوقات فراغنا، لكن إزالة الإهانة من على كاهلنا شيء آخر. لو أن ملكية أسلحة “أخيل” قُرِّرَت وَفْقًا لمن قدَّم أعلى عرض بأكبر ثمن، لكان حمل الأسلحة بالنسبة إلى “آياس” و “أوليس” إهانة بالغة لكليهما. فما بالك في عَالَم اليوم وأنا وأنت نبيع أنفسنا برضا تام، ونرهن أعمارنا وصحتنا، في سباقٍ محموم ومعارك ضارية، ربما تستمر طوال العمر، لماذا؟! لكي نحاول أن نعيش. ولكن إذا أردنا جديًا التَّفكير في محاولةٍ للعَيْش فما علينا إلا أن نعيد التَّفكير في نمط حياتنا وجدوى ما نفعله وما نريده، وأننا كبشرٍ أكبر من أن نكون مجرَّد رقم في إحصائيَّات عديدة في سوق الاستهلاك اليوميّ، وأن ما زال هناك أشياء عديدة لا تُقدَّر بثمن وربما تكون هذه قيمتها الوحيدة.

تدقيق لغوي: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا