الحدود الأخلاقية للأسواق: ما الذي لا يمكن أن تشتريه النقود؟

زاحمت قيمُ السوق في العقود الأخيرة القيم “غير السوقيَّة” في كلِّ دربٍ من دروب الحياة، ومن دون درايتنا انزلقنا من إقتصادٍ سوقي (تحكمه آليات السوق) إلى مجتمعٍ سوقي (تحكمه قيمةً أيضًا مبادئ السوق).

ولقد تحوَّلت صناعة التأمين على الحياة على سبيل المثال من فكرةِ التخفيف من الأثر الإقتصادي لوفاةِ الشخص المؤمن عليه إلى رهان على موت الشخص نفسه، وخلقت ما عُرِف بوثائق الموت.

أسواق الموت:

ابتكرت أسواق المال الأمريكية في سنواتها الأخيرة منتجات لم يحلم بها الشيطان نفسه، فمثلًا، يقوم المريض بمرض خطير مثل الإيدز ببيع وثيقة التأمين على حياته إلى شركة استثمار في الأوراق المالية مقابل مبلغٍ نقدي أقل بالطبع من قيمة التأمين، وتقوم الشركة بسداد الأقساط، وتحصل الشركة المستثمرة على قيمة الوثيقة في حالةِ وفاةِ المؤمَّن عليه أو يمكن بيعها إلى مستثمر آخر بهامش ربح، وقامت أيضًا أسواق المال بتجميع هذه الوثائق في صناديق تصدر بضمنها سندات، وهكذا نشأت سوقٌ مالية للموت كما يسمونَّها في الولايات المتحدة، حيث تسمى هذه السوق سوق الـ viaticals.

ولا يرى رجال الإقتصاد بأسًا في تلك المعاملات، فمن حق المؤمن عليه أن يبيع وثيقة التأمين الخاصة به لأنَّها أحد ملكياته. ولا يقع هناك ضررٌ على أحدٍ، بل إنَّ كلا الطرفين المستثمر والمؤمَّن عليه أفضل حالًا بهذه المعاملات، فقد استطاع “المؤمَّن عليه اكتساب بعض الأموال”، كما حقَّق المستثمر ربحًا، وإنْ كان نتيجة ذلك موت المؤمَّن عليه. ودارت أموالٌ كثيرة أمكن استخدامها في القيام بأنشطة إقتصادية أخرى.

أما فلاسفة الأخلاق والمفكِّرين فيرون أنَّ مثل هذه السوق والتي تمثِّل في جذورها رهانّا على الوقت الذي يتوفى فيه الشخص تؤدّٓي إلى تغيير في القيمِ الإنسانية التي يجب أن يتخلَّى بها الناس، ففكرة الرهان على موت شخصٍ مًا، وارتباط ما يعود على المستثمِر من أرباحٍ بوفاة الشخص تؤدِّي بشكلٍ غير مقصود إلى إهانة قيمة كرامة الحياة الانسانية، والفرح لموت الناس بدًلا من مشاركتهم أحزانهم.

إعلان

هذه أحد الأفكار التي تناولها مايكل سنادل (Michael J. Sandel) الفيلسوف الأمريكي الشهير وأستاذ الفلسفة الموهوب في جامعة هارفارد، وصاحب أشهر سلسلة محاضرات في العالم عن العدالة، في كتابه What Money Cannot  Buy , the moral limits of markets  أو ما الذي لا يمكن أن تشتريه النقود؟ والصادر في عام 2012.

لقد احتل كتابه قائمة النيو يورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا. وناقش ساندل فيه أحد أصعب الأسئلة الأخلاقية في زماننا المعاصر، والمتعلِّقة بأثرِ آليات السوق على القيم الإنسانية حيث طرح عدة أسئلة هامة تتعلَّق بمدى أخلاقية تأجيرنا للأرحام، استئجار جنود للحرب نيابةً عنا، دفع مكافئات نقدية للأطفال تشجيعًا لهم على القراءة، السماح بإنجابِ طفل ثاني في الصين مقابل غرامة مالية مرتفعة، وعدد كبير آخر من الأسئلة التي تمثل معضلة أخلاقية وإنْ كانت مقبولة سوقيًا.

ومن الأمثلة اللطيفة الأخرى التي ضربها ساندلر عن تحوُّل الأخلاق إلى سلعة منتقدّا بشدَّة نظام الثواب والعقاب المادي بسبب أثره السلبي على الأخلاق؛ حالة تأخُّر الأهالي عن استلام أطفالهم من المدارس في اسرائيل، والحلّ الإقتصادي الذي تم تطبيقه كما يلي:

ادفع و تأخَّر كما تحب:

عانت أحد مدارس الأطفال الشهيرة من ظاهرةِ تأخُّر الآباء عن موعد اصطحاب أولادهم إلى منازلهم عقب انتهاء اليوم الدراسي، وترتَّب على ذلك دومًا بقاء أحد المدرِّسين  مع الأطفال لحين وصول آبائهم، وهو الأمر الذي مثَّل إزعاجًا كبيرًا لهؤلاء المدرِّسين. وقد نصح أحدُ رجال الإقتصاد فيما يخص هذه المشكلة المدرسةَ بتطبيق مقدارٍ من الغرامة على الآباء الذين يتأخَّرون.

جاءت النتيجة مخالفة لجميع التوقُّعات فقد ازدادت حالات التأخير، فبعد أن كان الآباء يشعرون بالذنب عند تأخُّرهم لما يلحقونه من ضررٍ نفسي على المدرسين  والأولاد فكانوا يحاولون عدم التأخُّر من وقت لآخر، باتوا يتأخُّرون بشكلٍ أكبر دون أي شعور بذنب. وتحوَّل مفهوم غرامات التأخير الرادعة من فكرة العقوبة إلى فكرة “ثمن” يدفعه الآباء مقابل تأخيرهم.

و إلى جانب تبيان فشل نظام الحوافز في تصحيح السلوك البشري، فإنَّ فكرة التحوُّل المشار إليها تُييِّن أثرَ أفكار السوق على العديد من التصرفات البشرية حيث جرَّدت تصرُّفات الآباء من أيِّ بعدٍ أخلاقي وقيمي يقدر احتياجات المدرس الإجتماعية والنفسية، وحوَّلتها إلى سلعةٍ يُدفَع ثمنها.

و إذا كان ساندل قد أوضح في كتابه العدالة، القضايا الأخلاقية العويصة التي نواجهها في حياتنا اليومية، فإنَّه في كتابه الحالي يثير نقاشًا كبيرا يفتقر إليه عصرنا الذي تقوده عجلة السوق: وهو ما هو دور الأسواق في المجتمع الديمقراطي، وكيف نمنع من تحويل قيمنا الإنسانية.

ولقد قدًَم ساندل العديد من الأمثلة التي تبرهن على فكرته إلى درجةٍ قد تدفع القارئ أحيانًا إلى الصراخ متذمِّرًا من عددها، ولكن حلاوة أسلوب ساندل وقدرته البلاغية تجعلك تستمر دون كللٍ وبمزيدٍ من المتعة.

ولم يدعو ساندل إلى التخلِّي عن مباديء الإقتصاد الحر فهو من أشد مؤيِّديه، غير أنَّه دعا إلى ضرورة انخراط المجتمع ورجال الإقتصاد والمفكِّرين في مناقشةِ آثار السوق على القيم لتفادي تدهور قيمنا الإنسانية السامية.

وعلى الرغم من النقد الشديد الذي وجهَّه ساندل لتغلغل السوق في مجتمعنا، واقتناعنا بحججه الواضحة والدقيقة، إلَّة أنَّه لم يقدِّم بديلًا غير سوقي للعديد من المشاكل التي طرحه، بديلًا يتسِّم بالعدالة ولا يؤدِّي إلى إفساد قيمنا الإجتماعية.

وختامًا، فانِّي أعتبر هذا الكتابٍ من أفضل الكتب في المجال الذي يتناوله، خصوصًا عندما نعرف أنَّه قد أُلِّف من قبل أعظم مدرِّس فلسفة شهدته هارفارد، ولذلك فأنا أوصي الجميع بقراءته لاسيَّما للمهتمين بالاقتصاد.

 

————————————–

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات إقتصادية أخرى، نرشح لك

التسويق العصبي .. رسالة إلى السحلية في رؤوسنا

إعلان

اترك تعليقا