وهم الإنتباه: “حاسب الغوريلا”.. كيف لا نرى ما هو أمامنا؟

حاسب الراجل اللي معدي قصادنا

هكذا صرخت منبِّهًا صديقي القابع على عجلة القيادة، مدقِّقا في الطريق كزرقاء اليمامة، وقد تعجَّبت كثيرًا فلم تكن هذه المرة الأولى التي أنبِّه فيها سائقًا إلى ظهور مفاجئ لأحد الأشخاص أمام السيارة، أو استمع إلى عبارات مثل “لم أتوقَّع ذلك، لقد ظهر لي من تحت الأرض، أو لقد وجدته فجأة أمام السيارة “.

ولقد تساءلت كيف لم ترى الرجل وأنت مفتوح العينين بادي التركيز والإنتباه؟ أتٌعمي المفاجأة الإبصار؟

لاحظت أيضًا أن بعض الأصدقاء يقوم بخفض صوت المذياع أو الموسيقى إذا كان هناك سيارات نقل تجري بجواره، ويخشى من مفاجأته، وكثيرا ما سمعتُ أمهات يشتكين مرّ الشكوى من تجاهل صغارهم لندائهن، مهما رفعت الأمهات أصواتهن.

وتساءلت مجددًا ما علاقة الأذن بالعينان؟ هل يعوق صوت المذياع المرتفع عمل أعيننا؟

أسئلة عديدة ظلَّت تتردَّد في ذهني أضع لها إجابات من شرق و غرب، حتى قرأت هذا الكتاب أو بالأحرى استمعت له وهو كتاب ” الغوريلا الخفية” (Invisible Gorrilla)  وهو من تأليف أستاذيْ علم النفس الشهيرين بجامعة هارفاد كريستوفر كابري  (Christopher Chabris) ودانيال سيمون (Daniel Simon) واللذان تحدَّثا فيه عن تجربتهما الشهيرة التالية.

1- تجربة الغوريلا الخفية

إعلان

في هذه التجربة التي أجرتها جامعة هارفاد بقيادة الأستاذين الشهيرين في سنة 1999، تم تسجيل فيلم قصير لفريقين يلعبان كرة السلة ويرتدي أحدهما ثيابًا بيضاء، فتم عرضه على عدد كبير من الطلبة، وطُلِب منهم عدَّ كم تمريرة قام بها لاعبو الفريق الأبيض وكم تمريرة للاعبي الفريق الآخر.

وبعد إنتهاء العرض سُأل الطلبة “من منكم رأي الغوريلا؟” حيث كانا الباحثان قد قاما بإضافة  لقطات لغوريلا تجري في الملعب وسط اللاعبين تظهر  لمدة ثلاثين ثانية، وكانت المفاجأة أن 50% ممن شاهدوا الفيلم لم يروا هذه الغوريلا أصلًا، فالطلبة الذين جلسوا أمام الشاشة، وقاموا بمنتهى اليقظة والدقة بحساب عدد التمريرات لم ينتبهوا مطلقًا لهذه الغوريلا رغم أنَّها كانت وسط هؤلاء اللاعبين.

وقد قام الباحثان أيضًا بمراقبة حركة العين للمشاركين في التجربة، ووجدا أن َّالذين انتبهوا للغوريلا والذين لم يروها نظرت أعينهم للغوريلا لفترةٍ لا تقل عن ثانية، ويعني هذا بأنَّ الطرفين قد نظرا بالفعل للغوريلا، لكن الذي أدرك وجودها كان النصف فقط.

 

2- العمى الإدراكي

كرِّرت هذه التجربة في ظروف مختلفة، و بتنويعاتٍ مختلفة وكانت النتائج متشابهة، ويعني ذلك أنَّه حين تقوم بالتركيز على شيءٍ ما، أو تحصر انتباهك في أمرٍ محدَّد ، تصبح أسيرًا لذلك فلا تري بقيى الشخوص التي قد تظهر أمامك. التركيز يجعلك ترصد بدقة المعتاد والمؤلف في هذه الظروف، أما المفاجيء فلن تراه، وأسمى العلماء هذه الظاهرة: العمى اللاانتباهي inattentional) (blindness.

3- الصمم الإدراكي
لم يتوقَّف الأمر على هذا النوع من العمى، فلقد أوضحت دراسة أجراها الدكتورين لاڤي وماكدونالد بمعهد علم الأعصاب الإدراكي بجامعة أوكسفورد أنَّ التركيز البصري الشديد يمكن أن يؤدِّي إلى العجز عن سماع أصوات واضحة أيضًا، حيث لم يسمع عددٌ كبير من الأشخاص الذين شملتهم التجربة التي أجراها المعهد، و الذي تم تكليفه، بمهمة تستدعي تركيزًا بصريًا كبيرًا لأصوات اْبواق و كالكسات سيارات نقل عملاقة.

و لقد تم طرح العديد من النظريات لتفسير هذه الظاهرة أهمها:

(أ) نظرية الحمل الإدراكي

وفقًا للدراسة السابقة، فإنَّ المخ يعمل أثناء عملية التركيز تلك على مجموعة عمليات إدراكية كثيرة، والتي يقوم بها لمعالجة المعلومات التي تستقبله العين أثناء التركيز، والذي يترتَّب عليها تجاهل بعض المعلومات الجانبية.

وأضافت الدراسة أنَّ هناك طاقة محدودة يتشارك فيها البصر و السمع، فإذا زاد التركيز البصري نقص المقدار المتاح للسمع وهكذا ، و تسمى هذه الظاهرة بـ الحمل الإدراكي أو (perceptual load). و ربَّما تفسَّر لنا عندما نخفض صوت المذياع أثناء القيادة عندما يستدعي أحد المواقف التي أمامنا مزيدًا من التركيز البصري.

(ب) فقدان الذاكرة اللانتباهي

لا تعد نظرية الـ الحمل الإدراكي (perceptual load) التفسير الوحيد لظاهرة العمى والصمم الإدراكي، فهناك نظرية أخرى تدعى فقدان الذاكرة اللانتباهي (inattentional amensia) حيث تشير إلى أنَّ المثير البصري (الغوريلا على سبيل المثال) قد تم إدراكه بالفعل، و الوعي بوجودها لكنه ينسى سريعًا بحيث لا يتذكَّرها الشخص، بسبب تركيزه على موضوع آخر.

و على الرغم من أنَّ العمى والصمم الإدراكي هو نتيجة غير مرغوب فيها بالطبع لحالةِ التركيز الشديد، فلهما بعض الفوائد حيث تمكننا أحيانًا من تجنُّب تشتُّت الإنتباه عن طريق تجاهل الأصوات والصور غير ذات العلاقة بموضوع التركيز، وعمومًا فإنَّ هذه الظواهر تعكس ما لخَّصه علماء النفس في قولهم “وهم الانتباه” (illusion of attention) في علم النفس، و هو وهمٍ يلقي بظلاله الكثيرة على ثقتنا وأحكامنا القائمة على النظر والسمع فقد ننظر و لا نرى وقد نمد آذاننا ولا نسمع .

لكن حذاري!  فإنَّ المئات من حيوانات الغوريلا تمرُّ أمامنا ولا نراها، وتوجد آلاف الصرخات من حولنا التي لا نسمعها.

______________________________

المصادر
Chabris, C. F., & Simons, D. J., 2010. The Invisible Gorilla. Random House: New York.
Wolfe, J.M. (1999). “Inattentional amnesia”. In V. Coltheart (Ed.), Fleeting Memories (pp.71-94). Cambridge, MA: MIT Press.

MacDonald, JSP and Lavie, N (2011) Visual perceptual load induces inattentional deafness. Attention Perception, and Psychophysics 10.3758/s13414-011-0144-4
Chabris, CF et al. (2011). You do not talk about Fight Club if you do not notice Fight Club: Inattentional blindness for a simulated real-world
assault. i-Perception dx.doi.org/10.1068/i043

 

إعلان

اترك تعليقا