هل نحيا مرة واحدة؟ رحلتنا من نيفرلاند إلى الحياة / لـ موفق الجميلي

“نيفرلاند” جزيرة يسكنها الأطفال التائهون والقراصنة وببغائاتهم والعفاريت والجنيات بنات الخيال. أما الكائنات السُّفليَّة التي تمتص أرواح البَشَر كالملل والفراغ والروتين فلم تعرف لها طريقًا قَطّ.

خذ سببًا آخر للحقد على هذه المجموعة الغريبة من المحظوظين، وهو أنهم في حرز من جريان الزمن معصومون من التقدُّم في العُمْر يظلون صغارًا أبدًًا.

أما طريق الجزيرة، فثاني منعطف يمينًا، تحتاج إلى مسيرة ليلة كاملة حتى إذا أشرقت الشمس ظهرت الجزيرة لطالبها، إنَّها دائمًا حيث تشرق الشمس. هكذا يقول بيتر بان لرفيقته ويندي دارلينغ في رواية ج.م باري التي تحمل اسمهما ”بيتر وويندي”.

الطفل الأبديّ Puer Aeternus

لا يزال قلب الكبير شابًا في اثنين: في حُبّ الدنيا وطول الأمل(1)

من الاستعارات التأسيسيَّة في عِلْم النَّفس التحليليّ، أن مؤسِّسه كارل يونج جعل حياة الإنسان قوسًا كقوس الشمس يمر فيه بأربع مراحل(2)، فتكون حياته يومًا واحدًا: الطفولة شروقه، ضحاه الشباب والبلوغ، الكهولة الأولى عصره، ومن منتصف عمره إلى شيخوخته الغروب. وبينها أزمات انتقاليَّة: كأزمة المراهقة ومنتصف العمر وأزمة آخره.

يولد إذًا إنسان يونج من جوف الليل، ليل اللا وعي الجمعيّ بثيماته الأسطوريَّة و خرافاته الرمزيَّة، وقد حفرت عميقًا في القرص الصلب للا وعيه الخاص، وتظهر على السطح في أحلام ووسوسات العظمة والبطولة التي تراود الأطفال.

إعلان

وما إن يعلو قليلًا في قوس حياته، وتنفتح زاوية وعيه على العَالَم، حتى يدرك شيئًا فشيئًا أنَّ عليه التخلِّي على الجانب الكبير من أحلامه ونرجسيته الطفوليَّة، أو إعادة صياغتها.

تقول النفسانيَّة  تلميذة يونج Marie-Louise von Franz في كتابها “مشكلة الطفل الأبديّ”:

“من المشكلات التي تواجه الطفل إذ يدخل الحياة، أن عليه أن يواجه حقيقة فنائه وحقيقة العَالَم الذي يكتنفه الفساد. عليه أن يدرك كما في ثيمة الخروج من الجنة أنه لا بُدّ من مفارقة الرَحم الأول ومواجهة التآكل والنقصان والموت”(3).

إنَّ نيفرلاند التي تكون دائمًا حيث تشرق الشمس أي في الطفولة، ما هي إلَّا تعبير عصابيّ عن رفضنا لشرط الوجود، وتوقنا للانفلات من واقعية العَالَم القاهرة والاختباء في الطفولة. أما كائناتها الخياليَّة فهي استعارات عن مختلف التشوُّهات النفسيَّة التي تصيبنا في حال فشلت أو تعسَّرت عملية النضج الأليمة.

يواصل كارل يونج استعارته فيقول :

”إنَّ الداخل في زوال الشمس بقانون الصباح لا بُدّ أن يدفع مقابل ما فعل تلفًا في روحه. كما أنَّ الشاب الذي يحاول حمل ذاته الطفوليَّة معه إلى عَالَم البالغين يكون مصيره حتمًا الفشل الاجتماعيّ”(4).

عاش كارل يونج نفسه ردهًا من حياته طفلًا مستعصي النضج، وكان ولِعًا بالأساطير والميثولوجيا الأوروبيَّة. من بعض آلهتها الإغريقيَّة والرومانيَّة كديونيزوس الإلَه المتعدد الاختصاصات كمثقفي اليوم (كاتب،صانع محتوى، ديجيتال انفلونسر…)، وككيوبد الرومانيّ إلَه الشَّهوة والرَّغبة. استلهم أنموذج شخصية الطفل الأبديّ، وطوَّره من بعده نفسانيون آخرون وشخَّصوا أعراضها النفسيَّة والسلوكيَّة فعدوا منها أنه: مغامر، طائش، عفويّ وهروبيّ يخشى تحمُّل المسؤولية، ليس له أهداف عملية واضحة يعيش غالبًا مشكلات مهنيَّة. كان لا يستقر في عملٍ واحد، ويعاني رهاب الالتزام والارتباط، وهي أعراض تتقاطع جزئيًا مع أعراض الشَّخصيَّة النرجسيَّة.

كما ترى، يكفينا قليل من المبالغة لنحكم أن هذا الموصوف ما هو إلا كومة من خردةٍ بشرية لا غير.

خطأ. إنه نموذج للإنسان المثاليّ الذي تبشر به السُّوق الكونيَّة. فهذا الإنسان الذي  يتملَّكه خوف رهيب من الثبات، من دخول المكان والزمان بالكامل، ومن أن يكون الإنسان المحدَّد الذي هو عليه(5). هو المُسْتَهلِك الأمثل للصناعات الثقافيَّة المُعاصِرة التي أساسها الاستثمار في رهاب النضج وازدهارها في العمل على استمراره وانتشاره.

إذا نظرنا في ضوء هذه الشَّخصيَّة لغالب هذا الإنتاج الثقافيّ الذي يُفْرَض فرضًا على العَالَم، سيتبيَّن لنا أن قيمته الاستعماليَّة تكمُن في كَوْنه مجموعة من التقنيات الماديَّة والمعنويَّة التي تُمكِّن شخصية الطفل الأبديّ من مواصلة العَيْش خارج الزمان والمكان، وأخيرًا خارج نفسه.

انظر مثلًا إلى انتشار الدورات التدريبيَّة السريعة في العلوم واللغات ومناهج الثراء السريع عبر الإنترنت، وتطبيقات المواعدة الاكسبريس، وأوهام الشباب الأبديّ في شكل العقاقير، وعمليات التجميل، والبرامج السريعة للرياضة. أليست تقنيات يائسة لاختزال الزمن؟

وانظر إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ التي غالبًا ما تفتح نوافذها على أحداث وأناس ومشكلات تقع في الجهة المقابلة من العَالَم، نستفرغ فيها طاقاتنا الانفعاليَّة في حين ننفصل انفصالًا شبه تام عما يقع في الشارع الذي نسكن فيه، بل عن غرفة أخرى من غرف المنزل. أليست تقنيات  للانفصال المؤقَّت على المكان في انتظار الانفصال التام والانتقال إلى العَالَم الافتراضيّ الميتافيرس؟

 

وأخيرًا، انظر إلى الإنتاج السَّمعيّ البصريّ من مسلسلات وأفلام وألعاب الفيديو القائمة على انتزاع التصديق من المُشَاهِد، وتماهيه مع عوالمها وأبطالها. أليست تقنيات للعَيْش للانفصال عن القصة الذَّاتيَّة والعَيْش في قصص الآخرين؟

و ما هذه الأمثلة العجلى حصرية، بل يُبتَكر دائمًا ما هو أجدى منها، إلَّا أنَّها جميعًا على تنوُّعها تُنَظِّمها فَلْسَفة واحدة.

العَيْش في اللَّحظة

يقول أخيل الذي يجسِّد دوره الممثِّل براد بيت في فيلم طروادة الشهير، لبرسيوس كاهنة في معبد أبولو:

إنَّ الآلَهة تحسدنا لأننا فانون. توشك أيّ لحظةٍ من لحظات حياتنا أن تكون الأخيرة، إنَّ كل الأشياء أجمل لأننا فانون. إنَّك لا تكونين أروع مما أنت عليه الآن. لن نكون هنا مرة أخرى.

وأخيل كما صُوِّر في الفيلم، نموذج مدرسيّ لشخصيَّة الطفل الأبديّ، وهنا في حواره مع بيرسيوس يُلخِّص الأساس النظريّ لثقافة العَيْش في اللَّحظة. وقوله لها هو ما تدندن حوله صناعة كاملة كصناعة التنمية البشريَّة مثلًا، التي بلغت قيمتها السُّوقيَّة ما يربو على 45 مليار دولار سنة 2021. وبه تزيِّن لنا هذه الثقافة التخلِّي عن أسلحتنا النفسيَّة والفكريَّة والاستسلام للغرق في اللحظة الراهنة. فما أسلحتنا هذه هي إلا دروس من تجارب ماضية أو تأمل في عواقب تحدث في المستقبل. ومواجهة العَالَم بدونها لا يزيدنا إلا توقًا للانفلات من واقعيَّته القاهرة والهروب إلى نيفرلاند.

الشيخ Senex

لئن كان بيتر بان الطفل الأبديّ مصابًا بصداعٍ دائم وخدر وجوديّ، غارقًا في اللحظة الهاربة، فظله حسب نموذج يونج شخصيَّة متيقِّظة لها جذور ثابتة في الماضي، وعين متطلِّعة للمستقبل، وهَمّ مشغول بالحاضر. وهو ذو أحلام ٍحذرة، طوَّر موهبة في التفاوض مع العَالَم لا رفضه. بهذه النفسيَّة ينجح في عدم تبذير الحياة، وينتج أقل ما يمكن من خيبات الأمل و المآسي الشَّخصيَّة والعامة.

و يقرِّر يونج أنَّ الفرد السَّوي هو الذي ينجح في إدماج النمطين إدماجًا معقولًا فلا يطغى أحدهما على الآخر. أما الذي يمكن أن يحدث في حال فشلنا في إدماج النمطين، فيخبرنا عنه الدوس هاكسلي الكاتب الإنجليزيّ المعروف في كتابه “الجزيرة”:

“لو لم يكن هناك إلَّا بيتر بان واحد لكان هو، فاشل في المدرسة، عاجز عن المنافسة والتعاون على حدّ سواء… ولا يطمئن إلا في عَالَمٍ من الخيال يخلقه لنفسه على سبيل التعويض… مواهبه الوحيدة هي الحقد، والمكر الوضيع، ومجموعة من الأحبال الصوتيَّة التي لا تكلّ وقدرة على الكلام بغير توقُّف بأعلى صوته من أعماق جنونه بالعظمة الذي يماثل جنون بيتر بان. ثلاثون أو أربعون مليونًا من البَشَر لاقوا مصرعهم، والله أعلم كم بليون من الدولارات هذا هو الثَّمن الذي دفعه العَالَم نظير  تخلُّف أدولف هتلر في نضجه”(6).

ولئن كان هذا مثالًا أقصويًا لحسن الحظ، إلَّا أنَّه صريح في بيان أنَّ كُلْفَة الإخفاقات الشَّخصيَّة للأفراد وعذاباتهم النفسيَّة تجد طريقها إلى ميزانيَّات الدول وتدفع من جيوب دافعي الضرائب.

وإنَّ التأخُّر في النضج كما يسميه هاكسلي يكون أول الأمر مجرَّد خلل نفسيّ رومانسيّ، محدود بحدود شخصيَّة حامله يمكن علاجه نفسيًّا، فإذا ترُِكَ لحميمية الفرد تجاوزها إلى البناء الاجتماعيّ والسياسيّ في شكل أزماتٍ هيكليَّة لا تُوَاجه إلا بسياسات عامة.

نفرلاند: المنفى الرأسماليّ

إنَّ ماكينة مُصمَّمة لصنع شيء ما لا بُدّ أن تتخلَّص من بقايا محوَّلة من المواد الأوليَّة. هكذا تقذف الرأسمالية وهي تصنع إنسان ما بعد الحداثة أجيالًا كاملة خارج الحياة إلى منافٍ جغرافيَّة كثيرة مختلفة: أحياء قصديريَّة وغيتوات ومدن مكتظة غير متكافئة الفُرَص، حيث يتجمَّد زمنهم المهنيّ جراء سنوات من البطالة أو العمل الهَشّ.

وتطرحهم إلى منافٍ نفسيَّة، حين يتجمَّد زمنهم النفسيّ بحرمانهم من خبرات إنسانيَّة: كالزواج والأبوة والأمومة، لتوقُّفها غالبًا على أوضاعهم الاقتصاديَّة، وعلى مدى نضجهم العاطفيّ.

ينتج من كل هذا أزمات اجتماعيَّة: كظاهرة الـ Boomerang generation (7)، إذ تضطر الصعوبات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة مئات الآلاف من البالغين  إلى العودة للسكن مع والديهم في نفس الغرفة التي أمضوا فيها طفولتهم ومراهقتهم. أو كظاهرة الـ Hikikomori : الرُّهبان الجدد في اليابان(8) الذين يؤدي بهم شعورهم بالعار الاقتصاديّ والاجتماعيّ إلى اعتزال المجتمع  في تجمُّعات سكنيَّة على هوامش المدن الكبرى. ولكل مجتمع على شاكلة هذين الظاهرتين ظواهره الخاصة به.

إنَّ كل هؤلاء البيتربانات رغم أنوفهم ، المسجونين في طفولة قسريَّة أحيانًا، واختياريَّة أحيانًا أخرى، يخترعون بدورهم جزرهم الخياليَّة التي يهربون إليها، وهي لا تكون دائمًا جزرًا جميلة مُسَالِمة. ومن يدري ربما في مستقبلٍ غير بعيد عند شروق الشمس يزحف الملايين من بيتر بان نحو الواقع لافتكاكه.

أخيرًا، فلنعد إلى سؤالنا الأول: هل حقًا نحيا مرة واحدة؟ والجواب هو بدوره سؤال آخر هو: أين نحيا؟

———————————————-

المراجع

1 – صحيح البخاري 6057

2 – Collected Works of CG Jung, Volume 8: Structure & Dynamics of the Psyche Bollinger serie X X-page 513

3 – Canadian Cataloging in Publication DataFranz, Marie-Louise von, The problem of the puer aeternus ( Studies in Jungian psychology by Jungian analysts; 87) 3rd Edition. Page 166.

4 – مدارج السالكين- دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثالثة جزء 1، صفحة 448

5 –  Canadian Cataloging in Publication DataFranz, Marie-Louise von, The problem of the puer aeternus( Studies in Jungian psychology by Jungian analysts; 87)3rd Edition. Page 13

6 –  الجزيرة، ألدوس هكسلي، ترجمة محمود محمود مؤسسة هنداوي 2019، صفحة 180

7 –   Who are the Boomerang Kids? | Pew Research Center

8 – https://nypost.com/2023/06/05/us-men-falling-victim-to-japans-anti-social-hikikomori-trend/

تدقيق لغوي: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا