خطابي في حفل جائزة نوبل

أعلم أنني لم أفز بجائزة نوبل هذا العام، برغم أنني خلال آخر عشر سنوات، كنت أتصدَّر قوائمَ المرشَّحين لنَيْل الجائزة… أعني تلك القوائمَ التي اعتدت أن أدوِّنها بنفسي في دفتر يومياتي، ولا يَطَّلع عليها إلا أصدقائي المقرَّبون، والموظَّفة السويدية التي تتولَّى متابعة البريد الإلكتروني لمؤسسة نوبل، والتي أراسلها كل عام، لكي أُطلِعها على ملامح مشروعي الأدبي.

كالعادة لم أفز. ولعل لِلَّجنة اعتباراتٍ في التقييم لا أعلمها، أو لعلِّي لم أصِلْ بعد إلى السن المطلوبة للحصول على الجائزة! أعلم أن حظوظ الأدباء الطاعنين في السن أَوْفَر، وأعتقد أن هذا من حسن حظ القرَّاء. إن بعض الكتَّاب في عالمنا العربي يتباهون بألقابٍ هائلةٍ مثل (مولانا) و(إله السرد) و(أمير الشعراء) و(الكاتب الكبير) لمجرد الحصول على جائزة إقليمية تافهة، أو التمكُّن من بيع مائة نسخة من أحد كتبهم في معرض الكتاب، فيُوسِعون القرَّاءَ كِبْرًا وتحذلقًا، ويوشك أحدهم أن يَصفعك إن دعوته باسمِهِ مجرَّدًا من اللقب المقدَّس! فما بالك إن حصل كاتب حديث السن على جائزة نوبل؟ عليه في هذه الحالة أولًا أن يبتكر لنفسه لقبًا أكبر من (إله السرد)، وويلٌ للقرَّاء المساكين ممَّا سيجتاح به الوسطَ الثقافيَّ من رياحِ الغرور، خلال السنوات الطويلة التي ستمتدُّ بين تاريخ تكريمه بجائزة نوبل وتاريخ إدراج جثته في أحد القبور!

لكنني لن أيأس…

بالرغم من عدم فوزي هذا العام، لن أتردَّد في أن أرسل إلى مؤسسة نوبل، وإليكِ أنتِ يا صديقتي الموظَّفة السويدية، خطابَ التتويج؛ فلربَّما يروق لكم، وترسلون إليَّ دعوةً لزيارة السويد، لإلقاء الخطاب أمام صفوة المجتمع الأوروبي، في حفل جائزة نوبل. فأنا، يا صديقتي السويدية ويا أعضاء اللجنة الفضلاء، ليس لديَّ من أمنيةٍ في الحياة غير السفر إلى أوروبا. أجل، وقد تظنُّونَها، وأنتم صفوة الصفوة، أمنيةً تافهةً، إلا أنني أراها أمنيةً جليلةً، تتضاءل بجوارها حتى رغبتي في الحصول على جائزة نوبل! فليس هنالك فرقٌ كبيرٌ بيني وبين ملايين الشباب محدودي الدخل في مصر- جميعنا لن نتمكَّن طوال حياتنا من تحمُّل التكلفة الباهظة للسفر إلى بلد أوروبي، مثل السويد، ما لم نحصل على منحة/ دعوة/ جائزة/ معجزة، تخترق كل العوائق التمويلية، والفروق الاجتماعية، وتُسرِي بنا على ظهرِ وحشٍ حديديٍّ مُجَنَّحٍ من القارة السمراء إلى تلك القارة العجوز، التي لم نرَها قط إلا على الشاشات.

كم كنت أحسد جدَّتي التركيَّة لأنها استطاعت أن تنتقل من (إزمير) إلى إحدى الضِّياع بمدينة أجدادي، بمصر، برفقة أسرتها؛ إذ كان أبوها ضابطًا عثمانيًّا، وأمها ذات أصول يونانية، شأنها شأن كثير من سكان (إزمير)، التي كانت تُدعَى في زمانِها الإغريقيِّ القديمِ (سميرنا).

إعلان

لا أعرف على وجه التحقيق السببَ الذي دفع أسرتَها إلى الانتقال من المكان الذي ارتبط به أسلافُهم لمئاتِ السنين، لكي يستقروا في بلدٍ يبعد عنهم نحو 2500 كيلومتر، دون أي نيَّة للعودة. لكنني، على كل حال، اعتدت أن أحسد جدَّتي لأنها استطاعت أن تحقق شيئًا، أجِدُه أنا اليومَ مستحيلًا… الانتقال من قارة إلى قارة، ومن نمطِ حياةٍ إلى آخر، في الإطار العمري نفسه، دونَ تكبُّد انتظار البساط السحري أو مصباح علاء الدين، أو اليأس من إيجاد مثل هذه الحيل السحرية، ومن ثم التعويل على أحلامٍ أسطوريةٍ تُحلِّق بصاحبها في فضاءات تناسخ الأرواح، وتَمَنِّي التجسُّد بعد الموت في بلدٍ آخر، ذي طبيعة مختلفة، وعادات متميِّزة، لمعايشة تجربة حياة جديدة ومختلفة عن تجربة الحياة السابقة… ولكن، ما جدوى التجربة الجديدة -بعد الموت- إذا امَّحت من الذاكرةِ التجاربُ السالفة؟

كانت أمام جدَّتي فرصٌ لا حصرَ لها، في زمانٍ لم تكن تُفرَض فيه على المسافرين قيودٌ كالتي تُفرَض اليوم. كان أمام أسرتها خياراتٌ كثيرةٌ… أيستقرُّون في الشام، أم تونس، أم الحجاز؟ أم ينسلُّون إلى أيٍّ من دول البلقان؟ أم يهاجرون إلى العالم الجديد في الأمريكتين؟ هذه الحرية في الاختيار، والقدرة على الانتقال، توازي في جوهرها الانتقالَ نفسه! كأنك تنتقل بخيالك، في وقت اتخاذ القرار، بين كل الخيارات المتاحة، قبل أن تعزمَ على الانتقال بجسدِكَ إلى أحد هذه الخيارات.

قد تعتقدون، وأنتم صفوة أوروبا، أن الزحام الذي اعتدتم أن تروه في الأماكن السياحية الشهيرة ببلادكم -قبل جائحة الكورونا- دليل على أن العالم أصبح أخيرًا قرية صغيرة، بفضل (تيسُّر) سبل الانتقال من بلد إلى آخر – وهو ما يناقض زعمي في البداية، أن السفر بالنسبة لي أصعب من إيجاد البساط السحري. على أن الربط بين هذا الزحام السياحي وسهولة السفر ليس إلا وهمًا كبيرًا. لا أفشي سرًّا حين أقولُ إن أغلبنا، نحن المصريين، يُولَدون ويُدفَنون في قراهم الصغيرة المهمَّشة، التي لا أظنُّ أن أيًّا منكم قد سمع باسمِ واحدةٍ منها من قَبْل: (العِمدان – الوِزارية – مجُول – كَفْر دُخْمِيس – دَقَلْت – أَبْيُوقا – الرجدية) – يُولَدون ويُدفَنون، مثلما وُلِد آباؤهم وأجدادهم ودُفِنوا، ومثلما سيُولَد أبناؤهم وأحفادهم من بعدهم ويُدفَنون، دون مغادرة (القرية الصغيرة)، إلى (القرية العالمية) التي نشاهد معالمَها ليل نهار على الشاشات!

قد يعكس الزحام في تلك الأماكن جانبًا من (التحاور الحضاري) بين شعوب الكوكب، ولكنَّه في البداية والنهاية يرفع راية (الاستهلاك) – شعار هذا العصر الذي يوشك أن يتحوَّل إلى عقيدة. وأنا إلى اليوم حائر في الطريقة والمنطق الذي يتحوَّل به الاحتكاكُ الثقافيُّ (وهو أمرٌ كيفيٌّ بَحت) إلى مكسبٍ ماديٍّ (وهو أمرٌ كَمِّيٌّ بَحت)! لقد تحدَّث كارل ماركس في ماديته التاريخية عن تحوُّل الكم إلى كيف، فتُرى ماذا سيقول لو رأى اليوم (الثقافة) تتحوَّل إلى (سلعة مُربِحة)، والتواصلَ بين البشر يتحوَّل إلى عَلاقةٍ متبادَلةٍ بين المَحَافظ الشخصيَّة والبنوك العابرة للقارات؟

ليس هذا بالطبع موضوع هذه القصَّة… قصَّة! قصَّة أم شيء آخر؟! لقد أمعنت في الاستطراد، أيها الإخوة والأخوات، حتى نسيت ما الذي أكتبه، ولأيِّ غرضٍ أنتقل من سطر إلى سطر!

فلتعتبروا ما سمعتموه قصة، أو فاعتبروه خطابًا (تذكَّرت ذلك أخيرًا)، لكنه في الواقع رسالتي الأخيرة “إلى مَن يهمُّه الأمر“! يا لها من عبارة! تُرى هل سيهتمُّ أحدٌ بهذه السطور التي تنشقُّ عنها جبهتي، وتكاد تخدش شاشة اللاب توب، التي أنقش الكلمات عليها الآن؟ أتمنَّى… ففي الرسائل الأخيرة دومًا ما يستحقُّ أن يُقال، وما يستحقُّ أن يُقرأ!

لقد قال أحد شعرائنا القدامى وهو يتحسَّر على فراق حبيبته:

لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدِكُمْ

يَوْمُ الرَّحِيلِ فَعَلْتُ مَا لَمْ أَفْعَلِ

وأنا أرى أن حالي اليوم أفضل من حال ذلك الشاعر بكثير؛ فأنا أعلم بشكلٍ قاطعٍ أن اليوم هو (يوم الرحيل)، أو بقولٍ أدقَّ هو (يوم الوداع)… فقد قرَّرت الآن (وما أسرعَ قراراتي، التي تشبه قرارات جعفر الراوي، الذي دوَّن حكايتَه نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل قبل عقود) – قرَّرت أنني سأتوقَّف عن إرسال قوائم الترشيحات، التي يتصدَّرها اسمي، إلى صديقتي الموظفة السويدية، كل عام، وبذلك تكون هذه هي رسالتي الأخيرة.

* * *

أقرأ الآن كتاب: (العاقل… تاريخ مختصر للجنس البشري)، للكاتب ذي الأسلوب الشائق: (يوڤال نوح هراري)؛ وهو مؤرِّخ إسرائيلي، وأستاذ في الجامعة العبريَّة بالقدس (أقول ذلك لكي تعلموا أنني رجل مثقف تنويري متفتِّح، ولا أكنُّ عداءً لدولة إسرائيل، التي أعلم جيدًا أن التطبيع معها ونصرتها من مفاتيح الحصول على جائزة نوبل). هل صدَّقتم؟! أنا أمازحكم أيها الفضلاء. فأنا بالقطع أرفض قيام أي دولة على أساس ديني/ وهمي/ خرافي/ ميتافيزيقي/ عِرقي/ لُغوي/ طائفي، وأرفض كذلك سرقة الأرض وقتل الأبرياء والاستيلاء على المنازل… أرفضه من النظام الإسرائيلي، مثلما أرفضه من الأنظمة العربية (التي تمارس القتلَ بكفاءةٍ مثل إسرائيل تمامًا)، ومثلما أرفضه أيضًا من كل الأنظمة والقوى الكبرى في العالم (التي تتلذَّذ بالقتل والتدمير هي الأخرى)… المبادئ لا تتجزَّأ أيها المحترمون… لا أؤيِّد إسرائيل، لكنني أؤيِّد الرأي الذي جاء به (يوڤال نوح هراري)، ذلك المؤرِّخ الذي أحسبه، ممَّا قرأتُ له، يتسامَى بفكره عن الانتساب السطحي المحدود لأي دولة ولأي كيان، غير الكون، مثلي تمامًا. ولقد قدَّم في كتابِه هذا طَرْحًا مهمًّا بخصوص السر وراء تمكُّن جنسنا البشري، الذي لم يتطوَّر جهازه العصبي والحركي إلا لجمع الثمار ومطاردة الفرائس الضعيفة والحياة في مجموعات قليلة العدد، من الانتظام في مجموعات هائلة، تتجاوز مئات الملايين، وتَجمَع بين أفرادِها شبكاتٌ من العَلاقات الاجتماعية شديدة التعقيد.

ما عَلاقة هذا بموضوعنا؟

ستدركون العَلاقة أيها السادةُ بعد قليل.

يقول (يوڤال) إن سرَّ انتظام البشر في مجموعاتٍ هائلةٍ هو قدرةُ الأسطورة على توثيق العَلاقة بين أعدادٍ هائلةٍ من البشر. وهذه الأساطير المشتركة تتدرَّج من العقائد الغيبية إلى النُّظُم القانونية. وهذا النظام المتخيَّل كثيرًا ما يدفع الإنسانَ إلى الانسياق وراء رغبات هذا النظام، المتسلِّطة حتى على رغباته الشخصية وحريته في الاختيار، لمجرَّد أن يستمرَّ هذا النظامُ المتخيَّلُ قائمًا، عبر آليات اقتصادية شديدة التعقيد. ومن ضمن هذه الرغبات (الاستهلاكية) التي يتسلَّط بها النظام (الوهمي) على عقول الناس: السياحة!

يقول المؤلف:

“حتى ما يعتبره الناس أكثر رغباتهم الشخصية إلحاحًا، يكون مُبَرمَجًا عادةً من قِبَل (النظام المتخيَّل). دعنا نأخذ على سبيل المثال الرغبة الشعبية في قضاء العطلة في الخارج. لا يوجَد شيء طبيعي أو مبرَّر في هذا. لن يفكِّر ذكرُ شمبانزي مسيطرٌ أبدًا في استخدام قوَّته للذهاب في عطلةٍ في إقليم مجموعة شنابز مجاورة. أنفقَتْ نخبة مصر القديمة ثروتها في بناء الأهرامات وتحنيط جثثهم، لكن لم يفكِّر أيٌّ منهم في الذهاب للتسوُّق في بابل، أو أخذ عطلة تزلُّج في فينيقيا. بينما ينفق الناس اليوم الكثير من المال في العطلات في الخارج؛ لأنهم مؤمنون حقيقيون بأساطير النزعة الاستهلاكية الرومانسية”.

وقد سألت نفسي، بعد أن قرأت هذه الفقرة: هل النزعة الاستهلاكية الرومانسية، وتلاعُب النظام الرأسمالي المتخيَّل بأفكاري، وتأثري بما أراه على الشاشات، هم من دفعوني إلى التحسُّر على عدم فوزي بجائزة نوبل، وضياع فرصتي في السفر إلى أوروبا، مما يستدعي عض أصابع الندم ما تبقَّى من حياتي، التي لن أغادر خلالها قريتي (الصغيرة حرفيًّا)، لأنني -مثلما قرَّرت قبل قليل- لن أراسل صديقتي الموظفة السويدية مرةً أخرى؟!

وكدت على إثر هذا السؤال أن أمحوَ كلمات هذا الخطاب، وأفكر جديًّا في التراجع عن اغتنام فرصتي الأخيرة في السفر إلى السويد، وأسعى جاهدًا إلى تحنيط جسدي (حيًّا وميِّتًا)، في أرض أجدادي (التي لم تكن قطُّ أرضًا لأسلافي من مئات وآلاف السنين)!

لعلَّ وصولي معكم أيها السادة إلى هذا السطر ينبئكم بالقرار الذي اتَّخذتُه.

قد تتشابه أفعال الناس، ولكن تختلف دوافعهم.

ما زلت أذكر زميلي في درس التشريح، الذي كان يسعى، بعد أن ينتهي الدرس، كأي طالب مجتهد، إلى التفاوض مع عامل المشرحة (عم فوزي) لكي يُحضِر له ذراعًا مُشرَّحةً حديثًا غير متهتِّكة، لكي يراجع عليها أسماء ومسارات وأماكن العضلات والأعصاب والأوعية الدموية. وكان يوافقه في هذا الفعل طلبة آخرون، لم أكن منهم لسوء الحظ (أو لحُسنه، لا أدري)! لكن ذلك الزميل لم يكن يُظهر أماراتِ الاجتهاد لكي يتفوَّق دراسيًّا، وإنما لكي يجمعَ مِن حوله حسناواتِ المجموعة، ويتَّخِذَ من الشرح لهنَّ وسيلةً للاستمتاع بوجودهن بقربه!

وأعتقد أن السفر إلى أوروبا -في حالتي- له بالقطع دافعٌ أكبرُ من الدافع الاستهلاكي، أو مجاراة أساطير (ما بعد الحداثة) التي ترفع رتبةَ الإنسان في المنظومة الطبقية، بمجرَّد أن يُشارك مع أصدقائه، على أحد مواقع التواصل (الاستهلاكية)، صورته أمام (لا ساجرادا فاميليا) أو برج (إيفل).

الدافع الأكبر لي هو أن أنفخ في بوق هائل يسمعه كل الناس!

ستسألونني: ولماذا لا تنفخ في البوق داخل بلدك؟

سأجيبكم بأن التردُّدات الصوتية للبوق، الذي أنوي أن أنفخ فيه، لا تلتقطها إلا آذان أشخاص، أحسب أن أغلبهم أمامي الآن في هذه القاعة الضخمة. أما الناس في بلادي، فآذانهم لن تلتقط التردُّدات الصوتية التي ستنبعث من هذا البوق.

الفقرة السابقة تبدو كما لو تسرَّبت من عقلِ إنسانٍ منتشٍ بكميةٍ لا بأس بها من (الماجيك مشروم)! هذا ما تبدو عليه المجازات للأسف، وإلا اعتبرنا كل الشعراء في تاريخنا منتَشِين دائمًا في قصائدهم!

على كل حال، وبكلمات بسيطة، سأقول: لو كان الكوكب ينطق، لصاح صيحةً هائلةً اعتراضًا على ما نفعله. وهذا هو البوق الذي كنت أريد أن أنفخ فيه، لكي أنبِّه مَن لا يزالون محتفظين بعقولهم في العالم المتحضِّر.

نحن -البشر- نستهلك موارد العالم وكأننا نملِك ألفَ عالمٍ غيره، ونسرِّع وتيرة التغيرات المناخية على نحوٍ سنكون نحن أول المتضرِّرين منه. ومن واقع انتمائي إلى مصر -وهي إحدى دول حوض البحر المتوسط- فلي أن أقلق بسبب أزمة ارتفاع منسوب البحار والمحيطات الناتج عن ارتفاع درجة حرارة الأرض. إن مدنًا ساحليَّةً سوف تغمرها المياه قبل أقل من خمسين عامًا، ونحن للأسف لا نحرك ساكنًا، كغزالةٍ مسالمةٍ لم تتعلَّم بعد أن بندقية الصيَّاد، ذات اللون البني، ليست فرع شجرة، وأنها أداة قتل ستنهي حياتها في لحظة!

قد تتعجَّبون من خوفي من أن يقف البشر ساكنين أمام الكوارث القادمة، برغم تقدُّمنا العلمي المذهل غير المسبوق. بل يجب أن يكون لديَّ أضعاف هذا الخوف. لقد وقفنا في أواخر عام 2019 وبدايات عام 2020 نتأمَّل ڤيروس كورونا المستجد يتفشَّى، وينتقل من بلد إلى بلد (بنفس سهولة انتقال السيَّاح الأثرياء من بلد إلى بلد)، ليضاف إلى التبادل الثقافي التجاري الاستهلاكي، تبادل ڤيروسي، يحصد الأرواح كسرب جراد في مزرعة. تقدُّمنا العلمي المذهل لم يمنعنا من اتخاذ أبسط وسائل تجنُّب وقوع جائحة عالمية بهذه البشاعة. واليوم يتذكَّر كلٌّ منا وجهَ إنسانٍ عزيزٍ عليه، ما كان ليقضيَ نحبه، لو كان الضمير الإنساني تطوَّر بنفس درجة تطوُّرنا العلمي الهائل!

أتمنَّى أن تصل هذه الرسالة إلى من يهمه الأمر.

لقد أضعنا فرصًا ذهبيةً كثيرة، خلال مشوار ترقِّينا الحضاري، من أجل التوافق على منظومة عالمية أخلاقية، تضمن التناغم بين الإنسان والطبيعة، وتمنع الأقوياء من استغلال الضعفاء والتسلُّط عليهم. وأظن أن أوروبا، التي انطلق منه الزخم المعرفي العالمي الذي نعيش اليوم في آثاره، هي المَنوط بها، في هذا العصر العصيب، أن تجمع العالم على كلمة واحدة – شعوبًا لا أنظمةً، ومثقفين لا سياسيين.

إن الحرب أسهل من السلام، والتدمير أسهل من الإعمار، والانسياق الأعمى وراء الغرائز أسهل من التحضُّر.

لعلَّنا كبشر لا نعلم الغرضَ من وجودنا.

ولعلَّ لجنة التحكيم هي أيضًا لا تعلم – إلا إذا كان أحد أعضائها قد اهتمَّ بأن يقرأ نصوصي الأدبية، التي اعتدت أن أرسلها إليكم سنويًّا برفقة قوائم الترشيح، والتي زعمتُ أنني كشفت فيها عن أسرار كثيرة تؤرقنا مثل سر الموت والحياة ونشأة الكون، والغرض الحقيقي من وجودنا.

لو كنا نعلم حقًّا الغرض من وجودنا، لسعينا جاهدين إلى الحفاظ على هذا الوجود، ولنظر القتلة إلى كل إنسان يودُّون قتله، على أنه آخر إنسان على هذه الأرض.

ولكن مَن سيَهديهم إلى هذا التصوُّر؟! ومن سيوقظ ضمائرهم؟!

نتقدَّم تكنولوجيًّا، ونتدهور أخلاقيًّا. ونوشك في زمانٍ غير بعيد أن نجعل الذكاءَ الاصطناعيَّ يتولَّى عنَّا مهمة التفكير، لكي نتفرَّغ لقتل بعضنا البعض، وإزالة ما تبقَّى من أشجار عن وجه هذا الكوكب، ونحن مشغولون بالسلع الجديدة التي سنستهلكها، لنضخَّ المالَ إلى خزائن تريليونيرات المستقبل!

قد تظنون أن ما سبق مجرد شعارات طفولية تناقض الواقع، وسعي غير عقلاني إلى إضفاء المعنى على ما لا معنى له، ولكن فحوى ما أوردته، بكلماتٍ بسيطةٍ لا تقبل التأويل، هو: إذا كنت تريد أن تحيا أنت وأحفادك سعداء، فحاول أن تستغلَّ هذه المنحة التكنولوجية غير المسبوقة، التي مكَّنَت شعوب العالم جميعًا من التواصل اللحظي دون قيود مكانية أو زمانية، لكي تهيئ لنفسك ولأحفادك وسطًا صحيًّا دائمًا، لا يعتمد الإنسانُ فيه على مبدأ (تدمير العالم) لكي يحيا في رخاء داخل (هذا العالم).

هذه رسالتي الأخيرة…

ولي أن أكون ممتنًّا -أنا كذلك- لهذه المنحة التكنولوجية العظيمة، التي أتاحت لي أن أقول لكم ما أردت، دون أن أتكبَّد التكاليف الباهظة للسفر، أو أن أنتظر فوزي المستحيل بجائزة نوبل. ولتعلموا أنني لا أجد مشكلة على الإطلاق في أن أستكمل إجراءات تحنيطي (حيًّا وميتًا) داخل (قريتي الصغيرة)، إذا ضمنتم لي أن (القرية العالمية) سوف تسمع ندائي، وأن العقلاء سيشرعون في الاهتمام بمصير الحياة على هذا الكوكب، قبل فوات الأوان.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

اترك تعليقا