رسالة من رفعت إسماعيل إلى أحمد خالد توفيق.. بعد التناسُخ!

إنه الملل، ولا شيء غيره!

فجأة أنت هنا… فجأة أنت هناك مع السر الأزلي(1).

بين هاتين المحطتين لحظة واحدة، لكنني – لسببٍ ما – شعرتُ بأنها دهر!

فجأة أنت هناك مع السر الأزلي… فجأة أنت هنا مرَّةً ثانية!

إنها لحظة أخرى، لكنها – لسببٍ ما – ستمتد حتى تصبح حياةً جديدةً، طويلةً، قاسيةً، مملَّة أحيانًا، ومفعمة بالخبرات غير المألوفة، والنسيان الطويل الذي لن أنجو منه إلا بمئاتٍ من الكتب التي سأصل بها إلى حقيقتي الأولى، وسأعرف منها أنك لحقتَ بي أيها العجوز، بعد بضع سنوات من رحيلي. لكننا للأسف لم نتلاقَ، وشئتَ أنتَ ألا نلتقي طوال حياتك إلا على الصفحات.

لحظة. سأضطر إلى إشعال لفافة تبغ. هذه العادة التي تعلَّمتها من الكتب التي قرأتها، وكشفت لي عن حقيقتي الماضية، لكنني اليوم أشدُّ حرصًا. لا أُدخِلُ الدخان إلى رئتيَّ أبدًا. أمتصُّه، وأسد دونه مجرى التنفس، بلسان المزمار، ثم أنفثه، فلا أجني من هذا غيرَ إمكانية نفخ الملل والهموم، في مقابلِ اصفرارٍ ذهبيٍّ في الأسنان، ورائحةٍ خانقةٍ تذكرني كلَّ لحظةٍ بأن العالم ليس حديقةً مليئةً بالزهور والفراشات، وأن المسوخ ومصاصي الدماء والغيلان يمكنهم أن يتجسَّدوا في صور بشرية ويخدعوا أصحاب الأرواح الطفولية الذين يظنون أن الشمس ستبدِّل أسنانهم دائمًا بـ (سنة العروسة)، رغم أن الشمس ليست سوى كيانٍ غازيٍّ ملتهبٍ لا مشاعر له، ولو اقترب منها طفل لحرقته دون رحمة. لذلك أحيط وجهي بالرائحة الخانقة لكيلا يموِّه عليَّ صفاءُ بعض اللحظات، ما تنطوي عليه الحياة من أخطارٍ تقتضي الحذر!

اقرأ أيضًا: لأن العقل يحب الإثارة: مجموعة من روايات أحمد خالد توفيق (ج2 من الأدب العربي)

ظللتَ تكتبني أيها العجوز، وتنشر كتبًا عن حكاياتي باسمك البشري الذي حظت به هذه النسخة البيولوجية (أحمد خالد توفيق)، وظللتَ تمزج بالكلمات المكتوبة دخانَ تبغِك، وتبثني بعض روحك. ويومًا بعد يومٍ أصبح لي وجود مستقل؛ ولا أنكر أنني أحسستُ بنشوة الحياة أكثر من مرَّة. بالتأكيد لم أمنع نفسي من أن ألومك كثيرًا على تجسيدك إياي في هذا الكيان المريض، لكن كل شيء يهون أمام دقائق أقضيها برفقة الجميلة (ماجي)، التي تستطيع أن تمشي على العشب دون أن تثني عودًا واحدًا! نشوة الحياة. لا فرق بين إنسانٍ يتنفس، وشخصيةٍ مرسومةٍ ببراعة، وذكاءٍ اصطناعي. للوعي وإدراك الوجود مفهومٌ لم أبلغه إلا بعد أن جرَّبتُ الموت وما أعقبه من أمورٍ لا يمكنني أن أتحدَّث عنها إلا بالتلميح، لكيلا ينهار بنيان هذا العالم، الذي لا يمضي إلا على محفَّةِ الوهم، وبوسع الحقيقة الصادمة أحيانًا أن توقِرَ ظهرَه، وتورثَ البشرَ الاكتئاب!

لقد عرفتَ الحقيقة مثلما عرفتُها. وسوف تنساها، ثم تستكشفها من جديد، هنا أو في مكانٍ آخر. كل الأماكن سواء، ووحدَهُ الوعي هو ما يجعل لمكانٍ فضلًا على آخر!

أنت تعرف أنني اجتزت الباب الغامض. تعرف أنني عبرت النهر الذي تتشابك فوقه أغصانُ نباتٍ ما. الزورق يتوقف عند الضفة الأخرى ويهتز. أنا لا أحلم.

أعرف أنني لا أحلم…

لقد مت…

لكن شيئًا في الأعماق… شيئًا تحت جلد رأسي وبين خلايا مخي كان يصارحني بالحقيقة: أنت لم تمت. ليس هذا هو العالم الآخر. ليست هذه هي الأرض التي تكلم عنها الفلاسفة والشعراء وآمن بها الأنبياء (2).

أنتَ الآن تعرف الحقيقة التي عرفتها؛ لكن مَن قال أنني أريد أن أبعث إليك هذه الرسالة لنتحدث عن الحقائق؟! أحيانًا تُجرِّدنا الحقيقة من إنسانيتنا، ويُسبغ علينا الضعفُ والجهلُ والأوهامُ أبهى سِمات هذه الإنسانية!

إعلان

أريد أن أخبرك بأنني حزين (رغم أن الموت ليس بالبشاعة التي يتخيل الناسُ أنها تقتضي الحزن). أشتاق إليك (رغم أنك لا تفارق فكري منذ أن عرفتُ أنك مِنِّي وأني مِنْك). كنتُ أريد أن نلتقي في مكانٍ غير الأوراق (رغم أن الوعيَ الناشئ عن الكلمة المكتوبة يشبه ظلًّا للوعي المستند إلى بقية الحواس).

في الخريف تسقط الأوراق من أغصان الشجر لتلصق بالطرقات، وفي الربيع تسقط الأزهار من أرواح الشجر لتعلق بالأغصان. ولا أحسب (انتهاءك\سقوط رُوحك) في أبريل (رسول الربيع) إلا اكتمالًا لبهائك. أنت زهرة هذا العالم التي نَضِجَتْ في أبريل، وسقطَتْ من رُوح العالم، لتعلق بقلوب من أحبوك.

عندما وصف تي إس إليوت أبريل بأنه أقسى الشهور، لم يكن قد حضر وفاتك في أبريل. لم ير هذا الوميض الذي يتضاءل فيه الموت أمام أناشيد المحبَّة والعرفان، ويؤدي به أبريل مهمته الأزلية: استنباط الحياة من الموت، والتبشير بالأبدية.

دلتني عليك كتبك التي خلقتَني فيها، وسوف تدلُّك عليَّ بعد حينٍ هذه الرسالة، التي لا أعرف على أيةِ هيئةٍ سوف تتلقَّاها. ولا أعرف هل أنشرها إلكترونيًّا، أم أدفنها في غابةٍ برومانيا، أم أتركها بأحد المتاحف المشهورة على هيئةِ مخطوطٍ، مكتوبٍ بطريقة رسائل (الكينونة)، التي وعدتك ألا أفشي سرَّها أبدًا!

ما أعرفه فقط أن محبَّتنا سوف تستمر، في عَوْدٍ أبديٍّ. كلما ماتت مني أو منكَ نسخةٌ، جدَّدَ العهدَ تَجَسُّدٌ آخر. ما أبخسَ أعمارَ البشر إن قيست إلى عُمر الكون، ووحدَهم الحكماء، مَن يعرفون أن أجسادهم الكونية لن تفنى؛ فمِنَ الكون نشأَتْ، وإليه تعود، ومنه تتخلَّقُ مرةً أخرى!

نرشح لك: في رثاء الفارس الأخير أحمد خالد توفيق

المراجع
(1)- [مقال (أماركورد) - قهوة بالبيورانيوم - أحمد خالد توفيق - كيان للنشر والتوزيع - 2017].
(2)- [أسطورة الأساطير (الجزء الثاني) - أحمد خالد توفيق - المؤسسة العربية الحديثة - 2014].

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا