لعنة الفيس بوك! كيف شوَّهت الكتابة الواقع؟

تدخين بدون سعال أو بلغم أو ضيق في التنفس، وخمر بدون غثيان وقيء وصُداع وتشمُّع في الكبد، وجنس بدون روائح الفم والعَرَق والإفرازات وبقع والتهابات الجلد وآثار إزالة الشعر!

هذه ليست الجنَّة، بل ما تشاهدُه أنت بعينيكَ في أغلب الأفلام والمسلسلات، وتقرؤه في أغلب الروايات، وتتوهَّم أنه صحيحٌ أو مُمكِنُ الحدوث! وهذه أمثلةٌ بسيطةٌ على الطريقةِ التي تُشوِّه بها هذه الفنونُ الواقعَ في أذهانِنا؛ فلم أتطرَّقْ للكوارثِ الأخرى التي تتعلَّقُ بطريقةِ تصوير الضَّرب والقتل والاحتضار والحروب، في الروايات والأفلام، وأغلبُها أمورٌ لا تمتُّ للواقعِ بِصِلةٍ، ولكنَّ كثيرًا من الناسِ يتوهَّمون أن الواقعَ كذلك!

وما كانت الأفلام والمسلسلات لِتنشأَ من فراغ. هي ترتكز في الواقع على نصٍّ مكتوبٍ، وخيالِ مُخرجٍ، اكتسبَ خبراتِه من الأفلام السابقة (المُشوِّهة) التي درسها، ومن قراءاته، ومن تجاربه الحياتية. وأغلبُ الكتَّابِ والمخرجين للأسف في هذا العصر لا يُحسِنون تقديمَ الواقعِ على حقيقته (كما نعرفها)، ولا تقديمَ خيالٍ يستندُ إلى (منطق) الواقع، ولا ضمان أن المشاهد سيكون قادرًا على التفرقة بين منطق الواقع، والمُبالغات التي قد تُستحضَر في الأعمالِ الأدبية والدرامية لتضخيم الشعور لدى المتلقِّي أو لإثارة دهشته أو لإضحاكه أو لدفع الحبكة إلى الأمام وإضفاء الإثارة والتشويق عليها. فتكون النتيجة أن أولئك الكتاب والمخرجين يتأثَّرون بالواقع الممسوخ، ليُنتجوا خيالًا مشوَّهًا، يضيفُ إلى وعي الجمهور، غيرِ المُلمِّ بمفردات هذا العالم المُتَوَهَّم وغير القادر على استيعاب المبالغات في سياقها؛ يضيف ضلالاتٍ جديدةً، تُعيد هي بدورِها توليدَ ضلالاتٍ أخرى، وهكذا! وتكون النتيجة هي تحريف إدراك الإنسان للواقع الذي لا تحدث المبالغات فيه إلا نادرًا، والذي يمرُّ الزمنُ فيه بإيقاع أبطأ بكثير من الساعتين اللتين تستغرقهما مشاهدة الفيلم، أو الساعات التي يقضيها الإنسانُ في قراءة رواية!

ولا أظنُّ أن إنسانًا عاقِلًا قد يعمِدَ إلى مثل هذا التشويهِ بكاملِ إرادتِه. الأديبُ هو أيضًا شخصٌ موهومٌ، ويبني النصَّ الأدبيَّ على أوهامِه، فيُساهم – غيرَ مُدرِكٍ – في تشويه الواقع. وذلك – كما ذكرتُ – ليس بإرادتِه، بل هو مُجبَرٌ على هذا لأنه يستخدمُ أداةً قاصرةً تُسَمَّى (اللغة)، ويستندُ دائمًا إلى معرفتِه الذاتيةِ (غير الدقيقة) بأمور هذا العالم.

مدينة فاضلة بلا شعراء

في العالم المثالي الذي وضع أفلاطون خطوطَه العريضةَ في كتاب (الجمهورية)، لم يكن للشعراءِ وجودٌ! فلماذا طرد أفلاطون الشعراءَ من مدينته الفاضلة، وهل لهذا عَلاقة بتشويه الواقع؟

إعلان

اليوتوبيا هي مدينة (المُثُل)، والفضيلة، والأفكار الحقيقية الأصلية، بينما يقدِّم الشعراءُ محتوًى إبداعيًّا قائمًا على المحاكاة (غير الدقيقة بطبيعة الحال)، وتزييف الواقع (بترويجهم أفكارًا مختلقةً ومشاعرَ مزيفةً لم يعايشوها أو مشاعرَ ناتجةً عن تجاربَ تخصُّهم دون غيرِهم، والحديث عن تجارب لم يمرُّوا بها قط، وتقمُّص شخصيات قد لا يكون سلوكها فاضلًا، من أجل إثارة اهتمام الجمهور). وليس هذا غريبًا؛ فقد كان الشاعر قديمًا يكاد يؤدِّي نفس وظيفة المؤلِّف المسرحي أيضًا والممثل، فكانت الدراما عنصرًا أساسيًّا في إبداعه (الشعر التمثيلي)، وكان الأداء الحركي عنصرًا أساسيًّا في إلقائه. والسؤال هنا: كيف يُسمَح بوجود الزَّيف في عالم الأفكار الحقيقية الأصلية؟!

وليس هذا ببعيدٍ عن رأي القرآن في الشعراء الذين يتَّبعهم الغاوون ويقولون ما لا يفعلون. فتشكيل الوعي، في مراحله الأولى، لا ينبغي أن يُبنَى على الوهم، لكيلا يتخلَّقَ وعيٌ زائفٌ، ولكيلا تحدثَ فيما بعد صدمةٌ للإنسان حين يكتشف الفجوةَ الضخمةَ بين الذي قرأ عنه، وما هو موجودٌ بالفعل في العالم، ثم – في مرحلةٍ لاحقةٍ – بين تصوُّره عن العالم، وحقيقة العالم، التي لا تكاد الأفكارُ أن تكونَ إلا مجرَّدَ ظلٍّ لها!

ولذلك، كان لا بد من طرد الشعراء من المدينة الفاضلة؛ ففنُّهم قائمٌ على (اللغة)، و(اللغة) في أساسها غيرُ دقيقةٍ. وهو قائمٌ كذلك على استحداثِ عَلاقاتٍ جديدةٍ بين المفردات، وإنشاءِ صورٍ شعريةٍ خياليةٍ مبنيَّةٍ في الأساس على تشويه صورة الوجود لتحقيق انزياحٍ دلاليٍّ ما يُساعد على خلق مفارقة، وذلك التشويه ينافي المَثَلَ الأعلى الذي شُكِّلت على صورته هذه الموجودات. فإذا عاشوا في المدينة الفاضلة، فسوف يكون وجودُهم نشازًا، ومخالفًا للغاية من هذه المدينة.

اللغة كاذبة، فما بالك بفنٍّ كاملٍ أداته هي اللغة؟!

لعنة اللغة

أجمعت الأديان على التحذير من الكذب، وقد يُباح حين الاضطرار، أو تُستباح صورةٌ هينةٌ منه، كالكلام بالمَعَاريض في الإسلام مثلًا. ولكن في المجمل، كان الكذبُ سلوكًا مستهجنًا. ولعل هذا راجعٌ في الأساس إلى أن الكذبَ – في جوهره – لا فرقَ بينه وبين ما تفعله اللغة، إلا في درجة التزييف، لا في المبدأ! ولذلك، ما إن يعي الإنسانُ أن اللغةَ غيرُ صادقةٍ وغيرُ معبِّرةٍ، حتى يتمادى في هجر الصِّدق وتحريف التعبير، فيكذب ويكذب ويكذب… فكان لا بد من الحفاظ على الحدِّ الأدني من قدرتنا على فهم الواقع على حقيقته، فأصبح الكذب محرَّمًا، ومن نواقض المروءة، ولولا ذلك، لعمد كلُّ من يتواصل باللغة إلى الكذب دون غضاضة، بشأنِ كلِّ شيء!

فلماذا لجأنا إذًا إلى وسيلةٍ (كاذبةٍ) غيرِ دقيقةٍ مثلِ اللغة، ومِن بعدِها الكتابة، وأقمنا عليها حضارتنا البشرية؟!

اللغة المكذوبة واللغة المكتوبة

في البداية، لا بد من التفرقة بين اللغة والكتابة. نشأة اللغة تسبق اختراع الكتابة بآلاف السنين، واللغة غير قاصرة على البشر، بل ثمَّة وسائل لا حصر لها للتواصل اللغوي بين أفراد الكائنات الحياة بعضهم وبعض، ولا يُشترط في كثيرٍ منها استخدامُ الأصوات؛ فمن الحيوانات ما يستخدم الروائح أو الحركات ذات الدلالة. وحدهم البشر هم الذين بَنَوْا منظومةً لُغويةً شديدةَ التعقيد ترتكزُ في المقام الأول على الأصواتِ الدالَّة. وهذه المنظومة ليست عربةً نُحمِّلُها بأفكارِنا، بل هي المادَّة الخام التي تتشكَّل بها الأفكار، وهي نظام تشغيل النشاطات العقلية (وَفق رأي ديل سبيندر في كتابها لغة من صنع الرجال). ففي البداية تحوَّلَ (الشيء/الفعل/الشعور) إلى صوت، ثم بدأ الصوتُ يُستخدَم لاستدعاء صورةِ (الشيء/الفعل/الشعور) إلى الخيال، ثم تآلفت الأصواتُ لتشكيلِ أفكارٍ جديدةٍ لا يمكن أبدًا فصلها عن المخزون الثقافي الذي حُمِّلت به أصواتُ اللغة، بدايةً من أولِ إنسانٍ دلَّ بصوتٍ على شيءٍ ما، وانتهاءً بآخرِ كلمةٍ اختُرِعَت.

لكن اللغة البشرية ليست أصواتًا منطوقةً فحسب، بل لا بد من تطويع نبرة الصوت والأداء الجسدي لإيصال المعنى المطلوب، الذي تختزنه الحروفُ المتآلفةُ لتشكيلِ كلماتٍ وعباراتٍ (وحتى هذا التآلف قد تشوبه بعض عوائق التواصل، وقد لا تؤدَّي هذه الأمور معًا المعنى المقصود على النحو المطلوب!). فلمَّا اهتدى البشر إلى علاماتٍ يرمزون بها إلى الأصوات المنطوقة (عُرفت فيما بعد بالكتابة)، تخلَّصوا مضطرِّين من كلِّ ما يمتُّ للأداء الجسدي بِصِلة، واحتفظوا فقط برموز الأصوات المنطوقة، مجرَّدةً من النبرة ومن الأداء الجسدي، فأصبحت الكتابةُ وسيلةً غيرَ دقيقةٍ للتواصل، ترمز إلى وسيلةِ تواصلٍ، مشكوكٍ أصلًا في دقَّتِها في التعبير عن العالم وعن الطَّيف الواسع للمشاعر الإنسانية!

ولكن لماذا لجأ البشر إلى هذه الوسيلة غير الدقيقة؟

الكتابةُ خِيارٌ سيئٌ، فضَّلناه على الأسوأ!

كنا مخيَّرين بين فقدان الآداب القديمة والوقائع التاريخية والمعارف المكتسبة للأبد أو تحريفها بالنقل الشِّفاهي، وبين الاحتفاظ بسبعين بالمائة من دلالاتها الأقرب إلى الحقيقة (ولن أقول دلالاتها الحقيقية). ففضَّلنا الخيار الأخير، ولكن مع بعض التنبيهات، كأنْ يكونَ للكُتُبِ قائمون عليها، يفسِّرون ما بها، وهم العلماء أو رجال الدين، وذلك ما يتَّضح في القول المشهور:  من كان شيخُه كتابَه، فخطؤه أكبر من صوابه… وأن يكون الاعتمادُ على الكتاب مقرونًا بمجالس طلب العلم التي يكون فيها (المعلم/الأستاذ/الشيخ) هو مفتاح الولوج إلى الكتاب وتفسير ما فيه. فلم يكن الكِتَابُ والكِتَابةُ يومًا إلا مجردَ وسيلتين مساعدتين. ولم يكن طلب (العلم) الذي هو في (الكتب) متاحًا إلا لقليلٍ من الناس المستعدِّين بكل جوارحهم لملازمة الشيوخ وأهل العلم، وذلك لصعوبة استغلال الكتب (مستقلَّةً) على النحو الذي يحقِّقُ الحدَّ الأدنى من الانحراف الدلالي بين ما هو مقصود وما هو موجود.

وفي تلك العصور القديمة، كان الشِّعرُ دائمًا هو البطل، لأنه كان أكثرَ الفنونِ مُجانَسةً لطبيعةِ اللُّغة، إذ إنه يشوِّه الواقعَ بأداةٍ مشوِّهةٍ أصلًا، فكانت نصوصُه الخياليةُ المكذوبةُ غيرُ الدقيقةِ ملتبِسةُ الدَّلالات، ملائمةً لطبيعةِ اللغةِ التي لا تُعبِّرُ بدقةٍ عن المشاعر ولا عن الواقع. لكن الشِّعر في الوقت نفسه فَضَحَ ميوعةَ اللغة والتباس دلالات مفرداتها، فكادت كلُّ قصيدةٍ أن تُصبحَ مَزحةً شعوريةً، وإعلانًا عابرًا للأزمان عن قُصور اللغة!

اضطرَّت البشرية اضطرارًا إلى الكتابة لتنتقل المعرفةُ من جيلٍ إلى جيلٍ، وكانوا يُعَوِّلون في التواصل اليومي بينهم دائمًا على الأداء اللغوي الطبيعي الذي يقتضي وجودَ الأشخاص بعضهم بإزاء بعض. ولم يكونوا يلجأون إلى الرسائل المكتوبة إلا للإخبار عن وقائعَ محدَّدةٍ، لا فرقَ بينها وبين تناقل المعرفة بالكتب. وكان اللغويون العرب القدامى موفَّقين إلى أبعدِ مدًى حين أطلقوا على الرسالة المكوَّنة من ورقة واحدة، والكتاب المؤلَّف من عشرات الأوراق نفسَ المسمَّى… (الكتاب)… لأن كليهما متماثلان في الطبيعة والغرض وطريقة التعامل معهما.

طوال العصور القديمة، لم يستخدم البشر الكتابة للتواصل اللَّحْظي. ولذلك كان (الشات) الذي تضِجُّ به أركانُ عصرِنا الحديث، أمرًا غيرَ مسبوق في تاريخ الحضارة الإنسانية!

لعنة مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة

برغم الثغرات الموجودة في (اللغة)، إلا أنها تظلُّ أفضلَ وسيلةٍ للتواصلِ بين البشر، ما دام الصَّوْتُ المنطوقُ تُشارك في تجليةِ معناه نبرةُ الصَّوتِ والأداءُ الجسديُّ، للاقتراب من حقيقةِ الشيءِ المُخبَر عنه، قدرَ الاستطاعة (وليس الوصول إليها؛ لأن مطابقة اللغة، بل والوعي البشري، للواقع، مستحيلة الحدوث). اللغة المكتوبة لا تملِك هذه المزيَّة. هي مجرد علامات مرسومة ترمز إلى اللغة (ذلك الكيان المعقَّد)، ولذلك تكون الدلالاتُ المُحتمَلةُ للعبارةِ الواحدةِ أكثرَ مِمَّا لو قيلت بلسان الشخص وجسده، فينشأ سوءُ التفاهم.

وهذا ما نعانيه في عصرِنا الحديث. أصبحنا نتواصل (لحظيًّا) بالكتابة لأولِ مرَّةٍ في التاريخ، فتزايدت المشكلات التي مردُّها إلى إساءةِ فهمِ مدلول العبارات المكتوبة. ولم تُعالج الرسائل الصوتية هذه الكارثة، لأن الاحتفاظَ بالصوت مجرَّدًا من الأداء الجسدي، يفتح البابَ لاحتمالاتٍ كثيرةٍ تتعلَّق بتفسير ما وراء النبرة. وحتى الاحتفاظ بالفيديو المسجَّل يفتح الباب لهذه التأويلات المُفسِدة.

التواصل اللغوي الوحيد الذي يحمل الحدَّ الأدنى من مخالفة الواقع، هو التواصل المباشر اللحظي غير المُسجَّل وغير القابل للاسترجاع بين أشخاص موجودين معًا في نفس الحيِّز المكاني! وحتى هذا التواصل قد لا يكون دقيقًا؛ ولكن هذه هي مشكلة (اللغة) في الأساس، ونحن مضطرُّون إليها بكلِّ عيوبها وثغراتها!

ولكن لا بد وأن تكون هناك أسبابٌ منطقيَّةٌ دفعَت الناسَ إلى الانعزال وراء الشاشات، وتفضيل مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المراسلة (رغم عيوبها ومشكلاتها)، على التواصل اللغوي المباشر.

لماذا فضَّلنا الشاشات على الواقع؟!

أولًا: الحياة الاجتماعية الحقيقية مُكَلِّفة… فلنتحرَّر من كل الالتزامات!

يقول الكاتب خالد البري في مقدمة كتابه (انفصام شخصية مصر):

“الكون كله عبارة عن طاقةٍ دَفَعَتْه للتشكُّل بالطريقة التي يتشكَّل بها. الأرض وغيرها من الكينونات في هذا الكون تشكَّلت كمحصِّلةٍ لطاقاتٍ. الكائنات الجامدة أو الكائنات الحية هي الأخرى عبارة عن محصِّلات طاقة. الأسُود تحيا لأنها تحصل على ما يكفيها من طاقة، تكفي لتشكيل خلاياها، ثم لاستمرار عمل هذه الخلايا. الديناصورات انقرضت لأنها لم تعد تستطيع أن تحصل على ما يكفيها من طاقةٍ لتعيش… وقد مارس الإنسانُ نشاطاتٍ مختلفةً للحصول على الطاقة نسمِّيها نشاطات إنتاجية…”.

والإنسانُ دائمًا محكومٌ في أنشطته اليومية بتكلفة الفعل والعائد المُرتجَى من ورائه معنويًّا كان أم ماديًّا. وكلَّما قلَّت تكلفة نشاطٍ ما وزاد العائد، كان الإنسان أكثر إقبالًا عليه، والعكس صحيح. والتكلفة قد تكون ماديَّة (نقود – مجهود عضلي)، أو معنوية (ضغط عصبي – أمراض نفسية).

والتواصل الاجتماعي الحقيقي مُكلِّف جدًّا على الصعيد المادي والمعنوي. هل ستستطيع أن تلاقيَ صديقَك بدون أن تنفق أموالًا على المكالمات الهاتفية والمواصلات التي ستقلُّك إلى مكان اللقاء، أو على هديةٍ جميلةٍ تؤلِّف بين قلوبِكما، أو على ثمن المشروبات التي سوف تدعوه إليها؟ وهل سيخلو جلوسُك أو تسكُّعُك معه أو تحدُّثُك إليه لساعاتٍ من ألمٍ بدنيٍّ؟ وقِسْ على هذا الأنشطةَ الاجتماعيةَ الأخرى مثل حفلاتِ الزفاف والمآتم والزيارات العائلية… إلخ.

وهل ستستطيع أن تحافظَ على الصداقةِ أو أن تكتسبَ صداقاتٍ جديدةً أو أن تتواصلَ مع أقاربك، من غير تنمية مهارات اجتماعية معقَّدة، تقتضي أولًا أن تفهمَ جيدًا المَدَى الدلاليَّ لمفردات اللُّغة غير الدقيقة التي تستخدمونها، وحركات الجسد، والأفعال البشرية المُحتمَلة، وردود الأفعال المقبولة اجتماعيًّا وغير المقبولة، وطبيعة كل شخص على حِدَة، واحتياجاته، وأن تتصدَّى بحكمةٍ للمشكلات التي تُحتِّم عليك أن تتمتَّعَ بالذكاء الاجتماعي الذي يُمَكِّنك من الخروج من تعقيداتها، والحفاظ على هذه العَلاقات؟

أغلب الناس للأسف لا يهتمُّون كثيرًا بهذه التعقيدات، بل ولا يستطيعون أن يُدركوها، ويظنون أن التفاهمَ مع أيِّ شخصٍ متيسِّرٌ ما دام كلاكما يتحدث نفس اللغة، ولم يعلموا أن العَلاقات الإنسانية تحتاج تأمُّلًا طويلًا جدًّا ودراسةً مستفيضةً لأنماط البشر وطبيعة المجتمع، وممارسة عمليَّة تقتضي الانخراط الطويل في أطيافٍ شتَّى من العلاقات الإنسانية. كل هذا الضغط العصبي يندرج في باب (التكلفة المعنوية)، وقد يؤدِّي إلى مشكلات نفسية. ولنتذكَّر دائمًا، أننا نحن أنفسنا مَن جعلنا التواصل الاجتماعي الحقيقي لا يُطاق، ففررنا منه سريعًا حين اكتشفنا الملجأ الافتراضي المريح!

اليوم، أنت لا تحتاج أكثر من هاتف ذكي، وباقة إنترنت، وحساب على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. ستُنفِقُ أقلَّ قدرٍ من الطاقة، للحصول على أكبرِ عائدٍ ممكنٍ من التواصل، وأقلِّ قدرٍ من المشكلات، ولن تجدَ من يتدخَّل في حياتك الشخصية، أو يفرض عليك ما لا تحب، أو يجبرك على اعتناق رأيه. ويمكنك دائمًا التخلُّص من أية علاقة اجتماعية تضايقك، بضغطة (زر/زناد) تُسمَّى بالبلوك (الحظر). أنت إلـٰه على صفحتك الشخصية، تُحيي العَلاقات الاجتماعية وتُميتها بضغطة زر، ولا تتحمَّل إلا أهون تكلفة!

هرب الجميع من الجميع، واستكانوا إلى الفهم المشوَّه للواقع.

ثانيًا: الفضول البشري هو في حقيقته رغبة في التلصُّص!

جميعنا يمتدح الفضول، ويعدُّه أول خطوة في طريق المعرفة. وهو في الواقع من ألصق السُّلوكَات البشرية بالغريزة، ويتفق فيه الإنسان مع الحيوانات. كيف ستبلغ المعرفةَ إن لم تتوقَّدْ في صدرِكَ هذه الشرارةُ التي تجعلك تحومُ حولَ ما تجهله، وتحاول اكتناهَ حقيقتِه بكافَّة حواسِّك (التي هي أكثر من خمسةٍ بطبيعةِ الحال). لكنَّ ما تجهله قد يؤذيك؛ إذًا، فلتحاول أن تعرفَه بأقلِّ قدرٍ من الخسائر. والتلصُّص هو الحل!

وقد سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي سُبُلَ التلصُّص. في الماضي كان لا بد لك من اكتسابِ مهاراتٍ اجتماعيةٍ معقدةٍ لتتمكَّنَ من أن تسألَ فتاةً عن تاريخ ميلادها، أو تجعلها تُريكَ صورَها الشخصيةَ، أو تُحدِّثك عن نشاطاتِها اليوميَّة. الآن، كل هذا – وأكثر – متاح على الفيس بوك، مجانًا! لا تحتاج لأن تتودَّد إلى فتاة، أو أن تكون موجودًا في مجالها البصري أو حتى الافتراضي، أو أن تحتال لتحصل على صورةٍ لها تؤنِس لياليك. فقط، افتح صفحتها الشخصية، ونَلْ نصيبَك من التلصُّص!

ونحن، بطبيعتنا كبشر، نسعى إلى المعرفة. وهذا الوعاءُ المُسَمَّى بالجمجمة، لا بد وأن يمتلئَ بشيءٍ ما! إن الخلايا العصبية تهضم الأفكارَ مثلما تهضم المعدةُ والأمعاءُ الطعامَ. امنع عن الجهاز الهضمي الطعام، ولسوف تشعر بألمٍ لا يُحتمل، وكأن المعدة تهضم نفسَها! وهذا الألمُ سيهدأ إن أكلت الخضراوات المفيدة، وكذلك إن أكلت وجبة سريعة مقززة عظيمة الضرر؛ كلاهما سواء عند الجهاز الهضمي المتألِّم الأعمى. والعقل البشري كذلك. تريد خلاياه أيَّ فكرةٍ تتلمَّظ بها، فإن لم ينشغِل العقلُ بتعلُّم لحنٍ موسيقيٍّ أو بحفظِ قصيدةٍ، وما شاكل هذه الأمورَ من أنشطةٍ فكريةٍ راقيةٍ، فسوف ينشغل بالممثلة ذات المؤخِّرة الضَّخمة، والمطرب ذي الكرش الذي يُغَنِّي كبقرةٍ تُعاني من الحموضة!

وقد منحَتْنا مواقعُ التواصل الاجتماعي وسيلةً آمنةً للتلصُّص والمعرفة، وأتاحت لكلِّ خليةٍ عصبيةٍ جائعةٍ أن تنالَ كفايتَها من الأفكار، بغضِّ النظر عن مدى جودة هذه الأفكار أو أهميتها لهذا العالم!

كثيرون يتحسَّرون على أن (أمَّة اقرأ) لا تفتح كتابًا. لا والله، إن القراءةَ منتشرةٌ جدًّا في هذا العصر أكثرَ من أيِّ عصرٍ مضى، منذ اختراع الكتابة؛ لكننا لا نقرأ كُتُبًا، بل نقرأ الكومنتات والبوستات والميمات والكوميكس!

واستنادًا إلى هذا، استطعتُ مؤخَّرًا أن أفهم لماذا قال نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت):

“إذا مرَّ قرنٌ آخرُ على طُغمَةِ القارِئين، فلا بدَّ من أن تتصاعَدَ روائحُ النَّتْنِ من التَّفكير. إذا أُعطِيَ كلُّ إِنسانٍ الحَقَّ في أن يتعلَّمَ القراءةَ، فلن تَفسُدَ الكِتابةُ معَ مُرورِ الزَّمَنِ فحسب، بل إن الفِكرَ نفسَه سيَفسُد أيضًا. لقد كانَ الفِكرُ فيما مضى إلهًا، فتحوَّل إلى رجلٍ، وها هو ذا الآنَ كُتلةٌ من الغَوغاء”.

وكذلك قول إيڤان (أحد شخصيات رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم):

“التعليم العام كان له هذه النتيجة السيئة؛ فهو بدلًا من أن يجعلَ الناسَ يقرأون (قليلًا) الآثارَ الخالِدةَ، قد جعلهم يقرأون (دائمًا) حماقاتٍ مُخجِلةً! إن فكرةَ التعليمِ العامِّ للقراءةِ والكتابةِ، كغيرِها من بقية الأفكار الأوروبية الخاطئة التي روَّجتها أوروبا وجعلَتْها بمثابة المبادئ الثابتة ثبوتَ العقائد، قد انقلبَتْ أسلحةً فتاكةً لجوهرِ الطبيعة البشرية. فالدَّهْماءُ، التي تعلَّمت تلك الرموزَ السخيفةَ، ماذا اكتسبت؟ لقد حُشِيَت أدمغتُها بسُخفٍ وقاذوراتٍ – كما يقول هكسلي – وهبط مستوى ذوقها، ومع ذلك لم تتكوَّن لها شخصية ولا إرادة؛ فهأنتذا تراها تنقادُ كالخِراف إلى كلِّ من يقوم فيها ناعقًا أمام (ميكروفون)!”.

ثالثًا: كوكب من المشاهير!

السعي إلى الشهرة غريزةٌ لدى بعض الحيوانات، وهو في جوهره رغبةٌ في السيطرة وفرض النفوذ والإرهاب واكتساب الأتباع. ألا ترى كيف أن الثورَ قائدَ القطيعِ، فائقُ الشهرةِ بين أقرانه وإناث القطيع بقوَّته وفحولته؟! والبشر لديهم أيضًا هذه الغريزة. إن الشخص المشهور لديه فرصٌ أفضلُ في الحصول على ما يريد من شهرة أكبر أو أموال أو امتيازات أو نساء، وذلك لأن العينَ البشريةَ تخدعها الكثرة. الشخصُ المُحاطُ بأناسٍ كثيرين يحبونه، يُصبح مَهيبًا، برغم أنه قد يكون أضعفَ منك جسمانيًّا، لكن طريقة معالجة وتأويل المعلومات البصرية – كما تعلم – لم تتطوَّر منذ عشرات الآلاف من السنين، فلا نزال نفهم المعطياتِ البصريةَ كما كان أجدادُنا الصيادون يفهمونها! إن ذئبًا محاطًا بعشيرته، يبعث على الفزع أكثرَ من ذئبٍ بمفرده. وانخراط البشر في جماعاتٍ يضمُّها رباطُ العصبية، ساعد المجتمعَ البشريَّ على النمو والتكيُّف مع الطبيعة بطريقةٍ أنجح. ولا تزال غريزة السيطرة مستحوِذةً على البشر حتى اليوم، لكنها أعربَتْ عن نفسها في عصرنا بالتصارع في سبيل حصد أكبر عدد من الأصدقاء الافتراضيين والمتابعين واللايكات والشير؛ فلا فرق لدى (اللاوعي) بين عشرين ألف متابع على الفيس بوك، وبين جيش به عشرون ألف مقاتل؛ كلاهما يحفز لديك إفراز النواقل العصبية المسؤولة عن الشعور بالسعادة، ويحفز الشعور بالرهبة لدى معارضيك، بنفس الطريقة. لكن جمع عشرين ألف متابع على الفيس بوك أسهل بكثير من جمعهم على أرض الواقع؛ وهنا نعود إلى معادلة (التكلفة/العائد) التي ذكرناها في النقطة الأولى.

رابعًا: البحث عن تقبُّل الآخر بطقوس اللايك والشير

العزلة تُنتج مزيدًا من العزلة. لن يستطيعَ الإنسانُ المتخفِّي وراء الشاشة أن يحظى بتواصلٍ اجتماعيٍّ حقيقيٍّ، مع نفس العدد من البشر الذين يتواصل معهم (من وراء حجاب)، ولذلك لا بد من أن يعوِّض نفسَه عن الحرمان، بمزيدٍ من الصداقات الافتراضية الجديدة، بنفس منطق (فَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ)! فهو أولًا وأخيرًا لديه غريزة الاجتماع والرغبة في أن يحظى بقبول الآخر، ولا بد له من إشباع هذه الغريزة لكيلا يختلَّ نفسيًّا وعاطفيًّا. فيصبح الملاذُ الوحيدُ له هو استدرار قَبول أصدقائه الافتراضيين بمنشوراتٍ يتفاعلون معها باللايك (أو أي ريأكشن آخر)، والكومنتات، والشير، ويتفاعل هو الآخر معهم بنفس الطريقة؛ وما أرخصَها من طريقة!

في أرض الواقع، يمر الإنسان بما لا حصر له من الخطوات ليُرضِيَ صديقَه ويكسِبَ ثقته، ثم يَظهر الرضا والثقة على هيئةِ خدماتٍ يقدِّمها لك، أو رحابةِ صدره حين الاستماع إليك، أو نظراته المهتمَّة بك، أو دعمه النفسي لك. هذا لا يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي. المشاعر باردة، في حين أن الرغبة في الحصول على تقبُّل الآخرين لا تهدأ. فلا مفرَّ إذًا من تدشين الشعائر المقدسة لهذه المواقع (اللايكات المتبادَلة والشير والكومنتات)، والتي تتلاعب بالموصِّلات العصبية داخل الدماغ بطريقةٍ تسبِّب الإدمان. ولذلك لن يستطيعَ الشخصُ المُنْعزِلُ وراء الشاشة أن ينخرطَ في حياةٍ اجتماعيةٍ حقيقيةٍ إلا بصعوبةٍ شديدةٍ. إن تكلفة هذه الحياة الحقيقية باهظة، بينما هذه الشعائر الإلكترونية البسيطة، مُشبِعة للناس، ولا سيَّما أنها تخلِّصهم من كلِّ الالتزامات الثقيلة اجتماعيًّا!

خامسًا: بعيدًا عن أعين القانون (الغريزي والوضعي)

إذا شتمتَ أيَّ إنسانٍ في وجهه فلا بد وأن يكون له ردُّ فعلٍ. قد يردُّ عليك السِّباب، وقد يضربُك، أو قد يخافُ منك فيهرب. هذا من قوانين (الغريزة) التي قصدَتْ بها الطبيعة أن يتمكن الإنسانُ من أن يحمي وجودَه الحيَّ من الاعتداءات المختلفة. وفي مجتمعاتنا المتحضِّرة، لدينا حلولٌ أخرى، مثل الجلسات العُرفية ودفع التعويضات، أو النقاش المهذب، أو تحرير دعوى قضائية ضد الشاتم.

أما على مواقع التواصل الاجتماعي، فكلُّ شيءٍ مباح، ودونَ عاقبةٍ تُذكر! يمكنك أن تشتمَ أيَّ إنسانٍ، أو تتهكَّمَ على مظهره، وتتنمَّرَ عليه ليل نهار. يمكنك أن تُحرِّضَ على الآخرين، وأن تشهِّر بهم، بحريةٍ تامَّةٍ! يمكنك أن تتحرَّشَ بالفتيات في الكومنتات، وأن ترسلَ إليهن صورة أعضائك الذكرية. تستطيع أن تحظى بعَلاقات افتراضية، أو أن تطوِّر العَلاقة الإلكترونية إلى عَلاقة حقيقية فـ (تَشقُط/تَشقُطين) دون التزامٍ بأعراف المجتمع أو الدين أو القانون. يمكنك أن تنشرَ فيديوهاتٍ فيها سخرية من أيِّ شيءٍ وكلِّ شيءٍ، أو فيديوهاتٍ راقصةً (إذا كانت خلاياك تحتوي على كروموسمَيْ X)، ترتجُّ فيها النهودُ وتتمايلُ الخصور، في إحياءٍ فجٍّ لرقصات التزاوج، فينتعظ الشبابُ عن بعدٍ، ويفجِّرون طاقتهم الاستمنائية، دون أن تتكبَّد الفتيات مشقة التنفيس عن هذه المواهب الإيروتيكية في شقةِ دعارةٍ تليق بها أو كباريه، أو أن يتكبَّد الشبابُ تكلفةً أكبرَ من قيمة باقة الإنترنت!

وقد يكون أعنفُ ردِّ فعلٍ تجاهَ من يفعل أيًّا من هذه الأمور هو البلوك (الحظر)، أو الإبلاغ؛ وما أهونَه من ردِّ فعلٍ، إذا قِيسَ إلى قوانين الغريزة أو قوانين البشر الوضعية!

لذلك، كان في مواقع التواصل الاجتماعي مجالٌ واسعٌ للتحرُّر من كل قيود التحضُّر، وإشباع كل الرغبات الهمجية والغريزية بجنون، دونَ خوفٍ من أيِّ ردِّ فعلٍ صارمٍ، ودونَ تقيُّد بأي نَسَقٍ. وهناك دائمًا العبارة السحريَّـة الحاضرة دائمًا وأبدًا، والتي فطن إليها فرويد في منهجه في التحليل النفسي، ويمكنها تفسير تاريخ البشرية بيسر، ولا يشقُّ عليها تفسير ظاهرة الانجذاب الإدماني لمواقع التواصل الاجتماعي… فتِّش عن الجنس!

سادسًا: الوهم دائمًا جميل!

إن قليلًا من الوهم يصنع الواقع، وكثيرًا منه يصنع المرض النفسي!

نحن نُدرك الواقعَ استنادًا إلى الأوهام البصرية والشمِّية واللمسية والسمعية التي تُتَرجم في أدمغتنا على نحوٍ مُعيَّنٍ، لا نشترك فيه بالضرورة مع بقية مخلوقات هذا الكوكب، بل ولا يكاد يتَّفق على كثيرٍ منها شخصان؛ فلكلٍّ منا أوهامُه الشخصيةُ التي لا تُشبِه أوهامَ أيِّ شخص آخر (وهذا – بالمناسبة – من الأمور التي تجعل التفاهم مع الآخرين مغامرةً غيرَ مأمونة العواقب؛ لأن دراسة شخصية الآخر وخبراته الماضية وتكوينه الفكري في سبيل فهم طريقة تفكيره، أمور في غاية الصعوبة، وتحتاج طول ملازمة، وهو ما ليس إليه سبيل في أغلب الأحيان)!

والأوهام تُوَلِّد أوهامًا…

ولكنَّ الأوهامَ التي نُدرك بها العالمَ الحقيقيَّ رُوِّضَتْ بالتعوُّد، وبتَكرارِ الظواهر، فأصبحَتْ مألوفةً ومتجرِّدةً من طبيعتِها كـ (أوهام)، وذلك لكي نستطيعَ أن نتفاعلَ مع عناصر الوجود بطريقةٍ سليمةٍ تُجَنِّبنا الأذَي بقدر الإمكان، وتعود علينا بالنفع. وهو ما بيَّنه نيتشه بقوله:

“ما هي الحقيقة؟ كثرةٌ متحرِّكةٌ من الاستعارات والكنايات، رُفِعَت وعُظِّمَت وبُدِّلَت وزُيِّنَت شِعريًّا وبلاغيًّا، فبدَتْ بعد طولِ استعمالٍ ثابتةً صحيحةً ملزمةً. إن الحقائقَ هي أوهامٌ نَسِينا أنها كذلك، واستعاراتٌ قد استُهلِكت وفقدَتْ قوَّتَها الحِسِّيَّة. قِطَعُ عملةٍ فقدَتْ نقشَها”.

واتفاقُ مجموعةٍ بشريةٍ على أوهامٍ مشتركةٍ هو ما يضفي التجانس والترابط على هذه المجموعة؛ وهو ما جعل الدين (كمنظومةٍ قانونيةٍ أخلاقيةٍ غيبيةٍ) يكتسبُ قوَّتَه في الحفاظ على المجتمع، إلى جانب الثقافة الشعبية، لأن كليهما يبثُّ في الناس أوهامًا، يتفقون عليها، ثم يُدركون بها العالمَ الحقيقيَّ، ويتفاعل على نهجها الناسُ بعضهم مع بعض؛ ولاحقًا بدأ التعليم النظامي يكتسب هذا الدور، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه الدين والموروث الشعبي (مستودعَيِ الأوهام)؛ ولم يلبث أن بدأ يفقد هذا الدور بعد الثورة التكنولوجية الأخيرة التي استبدلت بتلك (الأوهام النافعة)، أوهامًا جديدةً!

ولا يكاد الإنسانُ يقف على أبعادِ الأوهامِ التي يُدرك بها العالم، إلا حين يتعرَّض لعقارٍ أو مخدِّرٍ يؤدِّي إلى تمييع حالة الوعي أو تحفيز اضطرابات الهُويَّة، وخلخلة العَلاقة بين الوعي والجسد (مثل الجرعات العالية من الحشيش، والـ LSD). وقد يحدث نفس التأثير عن طريق العزلة وإطالة التأمل، أو أثناء أحد الكوابيس.

لكنَّ الأوهامَ في العصر الحديث تضاعفَتْ، وأصبحت أجمل وأكثر جاذبيةً، وأقرب إلى الذاتية من ذي قبل. وأتاح لنا (التواصل عن بعد) مزيَّةَ إضفاءِ ثوبِ الخيالِ على كلِّ شيء، فأصبح كلُّ إنسانٍ يرى العالمَ استنادًا إلى أوهامِه الخاصَّة، فيشكِّله على النحو الذي يُرضيه؛ فكأن رضاه عن العالَمِ المُتَوهَّمِ هو انعكاسٌ لنرجسيته! هو يعشق العالَمَ المُتَوهَّمَ لأنه يعشَقُ أوهامَه الذاتيةَ، التي هي جزءٌ من كينونته الإنسانية، فكأنه يعشَق الوَهمَ لأنه يعشقُ نفسَه، واستمساكُه بأوهامِه الذاتيةِ هو استمساكٌ بوجودِه الذي صِيغَ منها، ولذلك يدافِعُ عنها، لأنَّ في هدمِها هدمًا لأساسِ وُجودِه!

الاستكانة إلى الأوهام والانغماس فيها، يصنعان فجوةً ضخمةً بين الأوهام الحقيقية (إن جاز التعبير؛ وهي الأوهام التي بها يستقيمُ فهمُ الإنسانِ وإدراكُه للعالم، وهي ما يتشكَّل بها العالمُ الحقيقيُّ – كما نألفه – وتتَّفق كلُّ جماعةٍ إنسانيَّةٍ على ما يلائمها منها)، والأوهام الذاتية (التي تخصُّ كلَّ إنسانٍ على حِدَة، ولا يشاركه فيها أحد). وهذه الفجوة تجعل الخروج من أَسْرِ العالم الافتراضي إلى ساحة الواقع أمرًا شديدَ الصعوبة؛ لأن الواقعَ صادمٌ إلى أبعدِ مدًى إذا قِيسَ إلى العالَمِ الافتراضيِّ الوهميِّ المُستأنَسِ الذي لا يكاد يصيبُ الإنسانَ فيه أيُّ ضررٍ، لأنه يتشكَّل وَفقَ مزاجِه وأوهامِه الخاصَّة، ويتحرَّر فيه من كلِّ أثقال ومثالب والتزامات واختلافات وتناقضات العالم الحقيقي.

ولهذا، أرى أن المرضَ النفسيَّ سيكون في المستقبل هو أكبرَ مهدِّدٍ لحياةِ البشر، بعد هذا الثورة المعلوماتية التكنولوجية التي باعدَتْ بين الإنسان والواقع، وجعلَتْ للأوهامِ الذاتيةِ اليدَ العليا في تشكيل الوعي الإنساني (إن جاز أن نسمِّيَه في هذه الحالةِ وعيًا)!

قد لا تخشى في المستقبل من أن تخونك كبدك أو كليتك أو شرايينك، فتموت. ستجد نفسك تخشى يدك التي قد تمتدُّ إلى السكين لتطعُنَك (أو تطعُنَ غيرَك)، أو عضلاتِ ساقيك التي قد تُحَرِّك جسدَك صوبَ سور البلكونة لتُلقِيَ بنفسِك من الطابق السابع! المرض النفسي هو رضيع هذه الثورة الافتراضية الذي يكبر يومًا بعد يوم، وهو الأحقُّ أن نخشاه. كنا قديمًا لا نعرف في أوساطنا القريبة من الأمراض النفسية إلا الهستيريا والانهيار العصبي. وقبل بضع سنين، تسلَّم الرايةَ الاكتئابُ والاضطرابُ الوجداني ثنائي القطب ونوباتُ الهلع. ولا أظن الرايةَ في المستقبل إلا مستقرَّةً بين يدَيْ (الأعراض الذُّهَانية)؛ هاتين الكلمتين المرعبتين اللتين لا يُدرِك أحدٌ ما سنعانيه في المستقبل منهما!

سابعًا: الطقوس شبه الدينية الشخصية (أفيون الأفراد)!

نقرأ دائمًا عن ذلك الإنسان البدائي البائس الذي كان يخشى الموتَ، الذي لا يعرف ما سيحدث له بعده، ويرتعد من الظواهر الطبيعية الطاغية غير المفهومة، فقرَّر أن يجد ملجأ في الدِّين بكلِّ ما يتضمَّنه من آلهةٍ وكائناتٍ خارقةٍ وطقوسٍ؛ (أوهام) لا نعرف الآن الحكمةَ منها!

وفي الواقع، لم يكن ذلك الإنسانُ البدائيُّ خائفًا ولا جاهلًا ولا عاجزًا، وكَفَى. لقد كان مريضًا نفسيًّا بسبب هذه الضغوط التي كان يعانيها! لا أحد يتعرَّض لهذا القدر من الضعف وانعدام القدرة على تحديد المصير، والجهل بسر الحياة وما بعد الموت، والعجز عن التوفيق بين مبدأ السببية الذي يحكم العالم، ولانهائية العِلَل التي تهدم الأساسَ العقليَّ لمبدأ السببية، ويظل بكامل قواه العقلية! إن الحياةَ جنونٌ مطبقٌ، وسريانُ الوعي والإرادة في كِيانٍ ماديٍّ أمرٌ لا يمكن استيعابه أو تقبُّله على حقيقته، ولا يستطيع الإنسانُ أن يمضيَ في حياته قدمًا بدون علاج نفسي يقضي على هذا القلق المَرَضي! وكان العلاج النفسي هو المعتقدات الغيبية والإيمان بوجود قُوًى عليا تتحكَّم في مصيره حيًّا وميتًا، وتجري الأمور وفق مشيئتها، وتكون هي العلَّةَ الأولى لكل شيء، ولا علَّةَ لها؛ واخترع البشر الطقوس التي كانوا يهدفون من ورائها إلى استرضاء هذه القُوَى، ثم ربطوا بين هذه القُوَى والنَّسَقِ الأخلاقيِّ الذي يحقق لكلٍّ منهم الأمانَ الشخصيَّ داخل المجتمع، ويحقق للمجتمع الاستقرار اقتصاديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا (وجميع هذه الأمور امتداد للأوهام الحقيقية التي نَحَتْنا مصطلحَها في النقطة السابقة).

تطوَّر الدينُ حتى انقشع، وارتدَدْنا إلى عهد الإنسان الأول الذي يشعر بالقلق بإزاءِ كونٍ غيرِ مفهومٍ، وحياةٍ عَصِيَّةٍ على الاستيعاب. تكاد أقراص معالجة القلق والاكتئاب والأعراض الذُّهانية، أن تستحوذَ على مكان الدين في هذا العصر، لكنها للأسف غير كافية وليست مضمونة النتائج!

إذًا، ما الحل؟

كنت من فترة في محل حلَّاق، أنتظر دوري، ووجدته يسمع إحدى أغاني المهرجانات المقزِّزة، حينًا، ويرقص أمام صبيٍّ من المنتظرين حينًا على إيقاع الأغنية الصاخب، ويجادل أحدَ زبائنه بأنْ لا حيلةَ في الرزق، ويستدلُّ على رأيه بتسجيلٍ للشيخ الشعراوي، قام بتشغيله فورًا بعد المهرجان! وبعد الشيخ الشعراوي، شغَّل سورةَ الكهف بتلاوة مشاري بن راشد. ثم أخذ يحكي عن بعضِ نوادره في المساجد التي يُصلِّي فيها الجمعة، والتي يخرج فيها بعض الناس عن وقار الخطبة حين يرونه، ويُرحِّبون به باعتباره من أعلام الشارع المشهورين! ولمَّا جاء دوري، وجدته يبدِّل أثناء الحلاقة بين المقص وسيجارة الحشيش التي أعطاه إياها أحدُ أصدقائه!

لم أتضايق من سلوكِه على الإطلاق؛ فقد أهدى إليَّ فكرةً عظيمةً. إن ما يفعله من الانتقال العشوائي من الاستماع إلى الشيخ الشعراوي إلى القرآن إلى المهرجانات التي تمدَحُ البلطجة والتحرش وشرب الخمر، إلى الرقص المفعم بالحيوية، إلى تدخين الحشيش، إلى الصلاة واحترام الأذان والاستشهاد بعبارات دينية؛ كل هذه الأمور هي في حقيقتها طقوس دينية، ولكن ما أنزل الله ولا الأنبياء، ولا حتى فريدرش نيتشه، بها من سلطان! إنها طقوسٌ مبتكرةٌ، تخصُّ فاعلَها، ولا يشاركُه فيها أحدٌ غيرُه؛ والأهمُّ من كلِّ شيءٍ أنها تُسبِّب له مقدارًا عظيمًا من البهجة، وتُعينه على تحمُّل الحياة العبثيَّة داخل مصر، والتغلُّب على الإرهاقِ الجسديِّ الذي يُضطر إليه يوميًّا ليوفر نفقاته، ويصبح قادرًا بعد حينٍ على ممارسة الجنس الحلال (الزواج). هذا الحلاق لديه طقوسه الدينية الخاصة… الطقوس الشخصية. ولو طبَّقنا عليه مقاييسَ الإسلام بصرامةٍ، وعلى غيره، لانتهينا إلى أننا نحيا في مجتمع لاديني، وهي حقيقة. لم يعد الدين في مجتمعنا (لغةً أخلاقيةً) متَّفَقًا عليها، ولكن لا يزال لدينا رواسبُ فلكلوريةٌ عشوائيةٌ يختار كلُّ فردٍ من المجتمع، ما يناسبه منها، ويمزج بين ما اختار وبين اعتقاداتٍ أخرى، لا يمكن التنبؤ بطبيعتِها. أصبح الدين شخصيًّا، ومتى ما أصبح الدِّينُ شخصيًّا، سقطَتْ عنه صفةُ (الدِّين)، والغرضُ الاجتماعيُّ منه، ولم يعد يصلُحُ لأن يُسَمَّى (دينًا)، وإنما هو ردُّ فعلٍ إنسانيٌّ طبيعيٌّ فِطْريٌّ تُجَاهَ حياةٍ مرعبةٍ مُقلِقةٍ جنونيَّةٍ عَصِيَّةٍ على الاستيعابِ لا ترحَم!

وقد جاء الفيس بوك ليُرسِّخ هذا الأمر. كلُّ إنسانٍ على صفحته الشخصية إلـٰه؛ لا يشترك إلا في الصفحات التي تُعجِبُه، فتشكِّل وعيَه؛ ولا يحيط نفسَه إلا بما يبهجُه، فيُنسِيه همَّه؛ ولا يعتنقُ إلا ما يعضِّد أوهامَه المسبَقةَ، فتتضخَّم أوهامُه الذاتية؛ ويدفع عن نفسه الخوفَ والتعاسةَ، فيُحلِّق في سماءِ البهجةِ المصطنَعة. والنتيجة هي ما نحن فيه الآن. لكلِّ إنسانٍ دينُه الشخصيُّ الذي يتمحورُ حولَ أوهامِه، وتتمحورُ حولَه أوهامُه الجديدةُ، ولا يمكننا أن نتوقَّعَ ردَّ فعلِ أيِّ شخصٍ تجاه أيِّ موقف، أو نفهمَ الإطارَ الذي تتشكَّل فيه أفعاله. ولهذا لا أحبِّذ أن يُوصف هذا بأنه (دين شخصي)؛ لأن الدين يقتضي اتفاقَ مجموعةٍ من الناس على تعاليمه وأوهامه ذات الغرض الأخلاقي، بينما هذه الطقوس العشوائية لا تعدو كونَها أفيونًا، أو مخدِّرًا شخصيًّا يخترعُ كلُّ إنسانٍ مكوناتِه التي تلائم تكوينَه العقليَّ وأوهامَه المسبقة، بغرض التخلُّص من الاكتئاب والقلق!

وما كان الناس ليفضِّلوا هذه الأوهام الشخصيَّة على أوهام الدين، إلا لأن أوهامَ الدين مقرونةٌ بتكليفاتٍ اجتماعيةٍ شديدةِ الثِّقَل (مثل الزكاة، والصَّدَقات التي تهدف إلى التضامن الاجتماعي مع الفقراء والمحتاجين، وصلة الرحم التي تقوِّي الروابطَ الاجتماعيةَ بين أفراد العائلة، والصلاة التي تتيح للناس فرصة أن يجتمعوا معًا خمس مراتٍ يوميًّا ولا يُتركوا فرائسَ للعزلة التي هي بابٌ للأمراض النفسية، والأعياد التي تُحَرِّض الناس تحريضًا على الاحتفال والتجمُّع وتقوية الروابط الاجتماعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين يتدرَّجان من تغيير المكروه بالقلب واللسان، إلى الثورة المسلَّحة على الظلم). الأوهام الدينية تُحَمِّلُ المتديِّنَ مسئولياتٍ اجتماعيةً شديدةَ الثِّقَل، بينما الأوهامُ الشخصيةُ لا تكلِّف أحدًا شيئًا، وتؤدِّي نفسَ الدور الذي تؤدِّيه أوهامُ الدين في ضبط الحالة النفسية للشخص، فحسب، بغضِّ النظر عن أيِّ تفاعلٍ إيجابيٍّ مع الآخرين في الحياة الواقعية؛ ولذا نالت الأوهامُ الشخصيةُ المحفَّزةُ من وسائل التواصل الاجتماعي هذه الحظوةَ لدى الناس.

ولهذه الأسباب السبعة التي سبقت، كان مثلث (التواصل اللحظي بالكتابة – الانعزال داخل مواقع التواصل الاجتماعي – عقيدة اللايك والشير) هو السجن الذي انعزلنا فيه عن الواقع، وأصبح هو النعش الذي ستستغلُّه النظمُ الاستبداديةُ في العالم لترسيخ عجز الجماهير عن الاجتماع والتأثير في الحراك السياسي والاجتماعي، وتحويلهم إلى دُمًى لا تملِك التحكُّم في مصائرها، تمهيدًا للتأثير في وعيهم فيما بعد، والتحكم في نوازعهم، وضمان ألا يُقدِموا على أيِّ فعلٍ من شأنه إحداث أي تغيير في الواقع! إن المشي في تظاهُرةٍ مُجهِدٌ كما تعلم، ويستهلك طاقة، وتكلفته عالية، وكذلك الخطابة وحضور اجتماعات الأحزاب والمنظمات الأهلية والندوات والمشاركة السياسية الفعالة! إذًا، فلنظل في واحتنا الافتراضية المريحة، لكي نحيا كالآلهة على صفحاتِنا الشخصية، نضغط لايك على كلِّ ما يروق لنا، ولنعملْ جميعًا (بلوك) للحياة الحقيقية!

إعلان

اترك تعليقا