حرية الكفر

لا نكاد نحصي كم المفاهيم المشوّهة عن علاقة الإسلام بغير المسلمين، ففي كلّ مناسبة لاحتكاك المسلمين بغيرهم تطفو تعاملات كراهية ونفور وتوتّر، نرصد بعضًا من هذه المفاهيم:

  • يُمنع غير المسلمين من بناء كنائس ومعابد في البلاد الإسلاميّة.
  • لا يُسمح لغير المسلمين بالدّعوة إلى دينهم.
  • لا يُسمح لغير المؤمنين المجاهرة بمعتقداتهم.
  • وفي كلّ مناسبة تظهر أسئلة مكرّرة: هل يجوز صداقة غير المسلم؟ هل يجوز تهنئته؟
  • ويتوتّر الأمر أكثر في أسئلة سياسيّة: هل يجوز أن يصل غير المسلم إلى مناصب قياديّة في الدّولة؟ هل يجوز إعدام مسلم قصاصًا إن قتل غير مسلم؟

هذه التوتُّرات تستلزم فتح ملف: علاقة الإسلام بغير المسلمين من جذورها:

أولًا: حريّة العقيدة

1. الاختلاف سنة كونيّة:

أوّل المفاهيم التمهيديّة لحريّة الاعتقاد هو تقبُّل وجود الاختلاف والتباين بين البشر، والاعتراف بأنّ هذا التباين كان ومازال وسيظل موجودًا بين البشر، وكلُّ فكرةٍ تحاول جَبْرَ البشر جميعًا نحو توجهٍ واحدٍ هي فكرة ساذجة وغير واقعيّة، وبالتالي ستفشل.

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا).

إعلان

2. دعاة لا قضاة:
جوهر مفهوم الحريّة هو رفع أيدي الناس ورفع الملام ورفع الحساب بين البشر وبعضهم على الاعتقاد، فيعلن القرآن بوضوح: حساب البشر على معتقداتهم عند الله وحده في الآخرة، وغير مسموح للبشر حساب بعضهم على معتقداتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
حتّى الأنبياء والرُّسل رفع القرآن أيديهم عن حساب الناس أو جبرهم، وحصر كل دورهم في البلاغ فقط. (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).

3. الإكراه سبيل الطغاة:

يؤكد القرآن أنّ الإكراه في الدّين هو منهج الكفَّار وأشياعهم لا الرُسُل وأتباعهم، فقد توسَّل الكفَّار بالسبّ، والاضطهاد والتّعذيب والذّبح والرّجم والإخراج من الدِّيار، وغير ذلك لإثناء المؤمنين عن دينهم، أمّا المؤمنون فما كان لهم أن يقتدوا بمنهج الكافرين السفّاحين المستبدّين.

وفي الحقيقة قصص الأنبياء المتناثرة في القرآن كله هي في الأصل قصص مضطهَدين ومقهورين ومظلومين، هي قصص رجال أعلنوا دعوتهم وتلقوا الوبال من قومهم.

قوم شعيب: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ).

قوم نوح: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ).

أبو إبراهيم: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

أحد فتية الكهف يتحدث عن المشركين: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).

4. الإكراه ليس إيمانًا:

اعتبر القرآن الإكراه ليس إيمانًا، فالمُكرَه على الإيمان لا يسمَّى مؤمنًا، والمُكرَه على الكُفْر لا يسمّى كافرًا، ولا يُحاسب البشر على ما استُكْرِهوا عليه.

(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

قال النبي: “تجاوز الله عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه”(1).

5. حريّة الاختيار مكفولة للجميع:

عدَّ القرآن حرية الاعتقاد- ولو كان خاطئًا- هي حرية إنسانيّة مكفولة للجميع، وكلّ إنسان يتحمّل وحده نتاج اختياره.

(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).

(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

6. النهيّ عن الإكراه في الدين:

لم يكتفِ القرآن بتلميحات وإشارات إلى حريّة الاعتقاد، بل اعتبرها قضية حساسة وجوهريّة تستحق التصريح والتأكيد والتكرار.

(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

يقول محمد الغزالي: “قد يحدث أن يُكرِه المرء ولده على الذهاب إلى المدرسة، أو يُكرِه مريضه على الذهاب إلى المستشفى، ويجد نبل الغاية مسوغًا لهذا الإكراه، ويعتبر قصور الطفل عن فهم مصلحته مبررًا لفرض إرادته تحقيقًا لنفع محض”.

ربّما حاول بعض المؤمنين بدافع من الثقة في صدق دينهم أن يحملوا الآخرين على الدخول فيه، يقصدون بذلك إدخالهم في الجنة وإنقاذهم من النار، وخصوصًا إذا كان هؤلاء أولادهم أو أقاربهم. حدث هذا على عهد النبي أن كان لرجل من الأنصار ابنان تنصَّرا، ثم قَدِما المدينة، فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، واختصموا إلى النبيّ، فقال الوالد: أيدخل بعض ولدي النار وأنا أنظر؟ فرفض النبي حملهما على الإسلام، وأمر بتخلية سبيلهما.
إنّ الإكراه لا يكوّن العقائد، إنّه على العكس ينفِّر منها ويسيء بها الظنون، وطبائع الأشياء ترسم للعقائد طريقًا يبدأ حتمًا من الحرية العقلية المطلقة(2).

7. الجهاد حتّى لا تكون فتنة في الدين:

لم يكتفِ القرآن بالنهي عن الإكراه في الدين، بل نادى بالجهاد المسلّح لرفع الفتنة عن الدين، والدفاع عن المضطهدين في الأرض، وتخليص المقهورين من المستبدين.

(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ).

فلو أن معتدٍ اضطهد يهوديًا ليغيِّر دينه، وجب على المسلمين – متى تمكَّنوا – أن يحاربوا المعتدي ليرفعوا الظلم عن اليهودي، ويتمكن من التعبُّد بدينه الذي ارتضاه، حتى لا تكون فتنة، وحتى لا يكون إكراهًا في الدين. يقول القرضاوي: “الظاهر أنّ المسلمين مدعوون لإغاثة الملهوفين، وإزالة الظلم عن المظلومين، ورفع الأذى عن جميع الناس، وإن لم يكونوا مسلمين، إذا كان المسلم قادرًا”(3).

8. حق استقلال الرأي وذم التقليد:

لم يكتفِ القرآن برفع يد المستبدين الذين يجبرون قومهم على دين، بل رفع يد العلماء والمفكرين الذين يمارسون سلطة المعرفة على العامة ويأمرونهم باتباعهم وتقليدهم، حتى هذا الضغط الفكريّ والنفسيّ واجهه القرآن فهاجم التقليد والتبعية.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا).

(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

وبذلك فقد حرَّر القرآن البشر من كل قيد أو سلطة أو إكراه أو جبر أو تقليد أو تبعية؛ ليتحمَّل العقل مهمته منفردًا ومستقلًا، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى).

9. تحرير الإنسان من التسلُّط باسم الدين:

ينزع القرآن عن رسول الله كل صورة من التقديس، والتسلط، بل يعتبره رسولًا لله، مهمته تبليغ الرسالة، وليس له سلطان على رقاب الناس، فليس وسيطًا بين العباد وربِّهم، وليس متسلطًا على حياة الناس الخاصّة، وأموالهم الشخصية، وعبادتهم لربهم:

(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).

وإن كان هذا وضع أفضل خلق الله المصطفى الموحى إليه، فهو بذلك ينسف كل صور التقديس والتمييز والوساطة لأي بشر أيًا كان، سواء كان شيخًا أو عالمًا أو عابدًا  أو وليًّا أو رئيسًا لمؤسسة دينية أو رمزًا دينيًا أو ملِكًا.

ويُشنِّع القرآن على من يسمحون لرجال الدين أن يمارسوا عليهم سلطة دينيّة، فيحلُّوا ويحرِّموا من تلقاء أنفسهم، فيصوّر القرآن هذا التقليد والتبعية كأنهم اتخذوهم أربابًا من دون الله، فقال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).

يقول الكواكبي: “الإسلام يجعل الإنسان لا يرجو ولا يهاب من رسولٍ أو نبيّ، أو ملكٍ أو فلك، أو وليٍّ أو جنّي، أو ساحرٍ أو كاهن، أو شيطانٍ أو سلطان”.

وأعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإنسان عن عاتقه جبالًا من الخوف والأوهام والخيالات، أوليس العتيق من الأوهام يصبح صحيح العقل، قويّ الإرادة، ثابت العزيمة، قائده الحكمة، سائقه الوجدان، فيعيش حرًا، فرحًا صبورًا فخورًا، لا يبالي حتى بالموت لعلمه بالسعادة التي يستقبلها، التي يمثِّلها له القرآن بالجنان، فيها الرّوح والريحان؟(4).

ثانيًا: حريّة العبادة

هل يجوز بناء دور عبادة لغير المسلمين؟

ثبت بالأدلة المتواترة اليقينيّة تبنيّ الإسلام لحريّة العقيدة، ويلزم عن ذلك السماح بحريّة العبادة؛ إذ لا معنى لحريّة الاعتقاد مع منع التعبد، لذلك لا نحتاج إلى أدلّة إضافيّة هنا تثبت سماح الإسلام للآخرين بحريّة التعبُّد.

يقول فهمي هويدي: “عندما يقرِّر الإسلام شرعية الآخرين، ويحث على وجوب احترام عقائدهم وعوائدهم، فإنّ أول ما ينبغي أن يكون مصونًا للآخرين من حقوقهم هو حريّة العبادة، وليس مقبولًا بأيّ منطق ولا بأي معيار أن تكون حرية العبادة مكفولة لفريق، على النّحو الذي ضمنه الإسلام، ثم لا تكون حريّة إقامة المعابد مكفولة بنفس القدر، ذلك أساس مستقِر، والإخلال به يعد نقصًا فادحًا لواحدة من حقائق الإسلام الأساسية”(5).

لكن تفشَّت فتوى بتحريم بناء الكنائس، وأدلتها حديث: “لا تُبنى كنيسة في الإسلام، ولا يُجدَّد ما خرب منها”، “لا كنيسة في الإسلام”، “لا تكون قبلتان في بلد واحد”، “اهدموا الصوامع واهدموا البِيَع”.

وكلها أحاديث لم تصحّ عن النبي، بل مكذوبة وموضوعة، فيسقط الاستدلال بها، لذلك يقول القرضاوي: “لا نجد مانعًا شرعيًّا من بناء الكنائس، ما دام أهل الذمَّة يتكاثرون، ويحتاجون إلى كنائس يتعبدون فيها، وتتَّسع لأعدادهم المتزايدة”.

ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين، وذلك منذ عهد مُبكِّر، فقد بُنِيت في مصر عِدَّة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة (مار مرقص) بالإسكندرية ما بين (39 – 56 هـ). كما بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، في ولاية مَسلمة بن مَخلَد على مصر بين عامي (47 – 68 هـ)، كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة (حُلوان) ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين. وهناك أمثلة أخرى كثيرة، وقد ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه (الخِطط) أمثلة عديدة، ثم ختم حديثه بقوله: “وجميع كنائس القاهرة المذكورة مُحدَثة في الإسلام بلا خلاف”(6).

ونجد في السيّرة النبويّة ما يؤكد سماح النبي العبادة للآخرين، فحين قدم نصارى نجران إلى المدينة، استقبلهم النبي في مسجده، ودعاهم إلى الإسلام، إلا أنّهم رفضوا، بل طلبوا السماح بأداء صلاتهم، فصلّوا داخل المسجد النبوي، ولمّا أراد الصحابة منعهم، قال النبي: “دعوهم”، فصلّوا إلى المشرق(7).

يقول د. عدنان إبراهيم: “فإذا جاز لهم أن يصلّوا في المسجد المختص بالمسلمين، فمن باب أولى بناء معابدهم الخاصة ليؤدوا فيها عباداتهم”(8).

ويقول د. عبد الكريم زيدان: “والقول الراجح فيما يخص معابد أهل الذّمة هو ما ذهب إليه الزيدية وابن القاسم المالكي من أنه يجوز لأهل الذّمة إحداث الكنائس والمعابد الأخرى؛ لأن الإسلام يقر أهل الذمة على عقائدهم، ومن لوازم هذا الإقرار السماح لهم بإنشاء معابدهم”(9).

ثالثًا: حريّة الدّعوة للدين

أحد لوازم حريّة الاعتقاد هو حريّة التّعبير عن هذا المعتقد؛ فإن أجاز الإسلام للبشر أن يظلوا على دينهم، فهو يعني السماح لهم بالعبادة على دينهم، والاحتكام إلى دينهم، والدعوة لدينهم، وانتماء أفراد جدد إلى دينهم.

قال تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ..).

إنّ الأمر بمجادلة ومحاجة غير المسلمين يعني إقامة مناظرات معهم، وطباعة كتب تحاورهم وترد على كتبهم، ونشر مجلات ترد على مجلاتهم، أي دعوة لإقامة حوار مفتوح ومتبادل بين الطرفين، ويلزم عن ذلك بالضرورة أن غير المسلمين يبادلوننا المحاججة والجدال والدّعوة لدينهم، وإلا ما معنى الجدال مع أخرس غير مسموح له بالدعوة لدينه؟.

ونجد في السيرة ما يؤيّد هذا الحق، فبعد فتح حصون خيبر غَنِم المسلمون من حصونها عدة صُحُف فيها التوراة، ورغم العلم بأنها مُحرَّفة وتحوي على أخطاء عقدية، إلا أن الصحابة حافظوا عليها، وحين جاء اليهود يطلبونها، تكلم فيها رسول الله مع الصحابة، وردوها لليهود، ولم يصنع ما صنعه الرومان بعد دخولهم أورشليم حين أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها(10).

وفي العهد الأموي كتب يوحنا الدمشقي كتاب (حوار بين مسيحي ومسلم) يناقش فيه القضايا الخلافية بين الإسلام والمسيحية، وينتصر للمسيحية، في صورة(إن قال لك العربي كذا، فقل له كذا). والسماح بنشر هذا الكتاب في العهود الأولى للإسلام دال على قدر التسامح المنتشر وقتها(11).

وكان العهد العباسيّ هو عصر انفتاح على أمم وديانات وثقافات مختلفة: (يهودية، ومسيحية، ومانوية، وزرادشتية، وبراهمة، ودهريين/ملحدين)، وكانت حرية الرأي والتعبير والدعوة في أوجها لا ترى سقفًا ولا تعرف حدًّا، وكل مؤمن بديانة نشر دعوته وعقائده بمنتهى الحريّة، فامتلأت الساحة العلمية بدعوات غير المسلمين، حتى انتقلت قصص أهل الكتاب إلى المسلمين، فدخلت الإسرائيليات في التفسير، وتأهَّب علماء الكلام للدفاع عن الإسلام، فاستمعوا لغيرهم، وخاضوا مناظرات مع يهود، ونصارى، ومانوية، وزرادشتية، وبراهمة، وملحدين، وهذا الاقتراب والانفتاح دال على مدى حرية الدعوة والتعبير في هذا العصر(12).

يقول أبو الأعلى المودودي: “لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حرية الخطابة والكتابة والرأي والتفكير والاجتماع ما هو للمسلمين سواء بسواء. ولهم الحق في انتقاد الدين الإسلامي مثل ما للمسلمين من الحق في نقد مذاهبهم ونِحلهم. ويجب على المسلمين أن يلتزموا حدود القانون في نقدهم هذا كوجوب ذلك على غير المسلمين”(13).

ويقول علي شريعتي: “الإسلام يحث المسلمين على الدعوة إلى دينهم، ويُعِدُ ذلك وظيفة شرعية، ولكنه في نفس الوقت لا يحظر على الأقليات الدينية الأخرى أن تمارس الدعوة لنفسها”(14).

المصادر:
1-(المستدرك على الصحيحين) ج2 ص216 رقم (2801).
2-(الإسلام والاستبداد السياسي) ص113.
3-(فقه الجهاد) ج1 ص456.
4-(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) ص110.
5-(مواطنون لا ذميون) ص198.
6-(فقه الجهاد) ج2 ص1012.
7-(عيون الأثر) ج1 ص253، (سيرة ابن هشام) ج2 ص160.
8-(حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها) ص448.
9-(أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام) ص98.
10-(المغازي) للواقدي ج2 ص680، (حياة محمد) ص313.
11-(ضحى الإسلام) ص310.
12-(في علم الكلام – المعتزلة) ص30-89.
13-(حقوق أهل الذمة) ص34.
14-(معرفة الإسلام) ص118.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا