تضارُب حرية التعبير وحريّة الاعتقاد

في فلسفة الأخلاق والسياسة لجون رولز: الإجماع المتداخل مكان العلمانية

يختلف الباحثون في أسباب نشأة العلمانية، التي تنطلق من مبدأ فصل السلطة الدينيّة عن السلطة السياسيّة، ما إذا نبعت من الثقافة المسيحيّة أم من ثورةٍ على الديانة المسيحيّة، أو من عودةٍ أوروبيّةٍ لجذورٍ رومانيّة ويونانيّة، أو بجهدٍ من الأقليّات اليهوديّة لحماية أنفسهم في أوروبا، أو غيرها من التحليلات. لكن في الواقع الحالي، كما يصفه الفيلسوف الأميركيّ جون رولز (١٩٢١ – ٢٠٠٢)، تأتي العلمانية في إطار معالجةٍ للتعدديّة الثقافيّة والدّينيّة والإثنيّة للعيش في دولةٍ واحدةٍ. إنّ مشكلة العلمانيّة أنها وضعت العقائد الدّينية، كالمسيحيّة والإسلاميّة، في مواجهة العقائد غير الدّينيّة، كالشيوعيّة والليبراليّة. أراد رولز تخطّي هذا الفصل بين العقائد الدينيّة والعقائد غير الدينيّة بالتعامل مع جميع العقائد بمساواة من خلال تنحيَتهم عن المؤسّسات السياسيّة والقضائيّة.

هذا الطّرح الجديد ل”علمانيّةٍ” شاملةٍ للعقائد هو دعوةٌ لعدم الاستناد على عقائدنا في السياسة والقانون لخلق مساحة مشتركة للجميع، لكن هل يمكن لهذا الطّرح أن يكون مناسبًا لأمكنةٍ “غير سياسيّة” كالمقاهي والسّاحات العامّة والجوامع والكنائس؟ وهل يحترم هذا الطّرح حريّة الاعتقاد وحرية التعبير ؟ وفي أية أمكنةٍ يمكن لحريّة التّعبير أن تتعدّى على حريّة المعتقد لدى الآخر؟

يمكننا أن نبدأ بالتّفكير فيما يخصّ التّعارض الممكن بين حرية التعبير وحريّة الاعتقاد في الحقل الدّيني بين العقائد الدّينيّة المختلفة. إذا دخل مسيحيٌّ إلى جامعٍ ليعلن أنّ المسيح هو الله أو دخل مسلمٌ إلى كنيسةٍ ليعلن أنّ نبيّ الإسلام هو رسول الله، هل هذا يكفي ليكون تعدٍّ على حريّة اعتقاد الجماعة أم أنّ التعدّي يعتمد على ما إذا كانت الطريقة عنيفة أو مهذبة؟ على الأرجح أنه تعدّيًا إذا لم يكن المُخاطِب يعرف الأشخاص الذين يخاطبهم ما إذا كانوا مستعدّين للحوار والنقاش أم لا. هناك أشخاصٌ بسطاءٌ يحتمون بعقيدتهم ولا يريدون التّشكيك فيها رغم قلّة ثقافتهم بالعقيدة وباختلافها عن باقي العقائد. من الأفضل أن نحترم إرادة هؤلاء بالبقاء حيث هم، وبالتالي حريّة تعبيرنا تقف عند حريّة معتقدهم. في هذه الحالة، في التبشير المسيحي والهداية للإسلام يكمُن تعدّي على حريّة المعتقد. لكن لنعتبر أن الأمر يدور بين أشخاصٍ يتمتّعون بجهوزيّةٍ نفسيةٍ وفكريةٍ لمناقشة العقائد، في هذه الحالة، الدّخول إلى كنيسةٍ أو جامعٍ للنقاش لا يعتبر تعدّيًا إلّا إذا كانت الطّريقة عنيفةً. والعنف هنا لا يقف عند التعدّي الجسديّ إنّما أيضاً في محاولة فرض أفكار العقيدة المختلفة لفظيّاً.

هذا ينطبق على الأماكن العامّة كالمقاهي وغيرها، لكن يختلف الأمر في أماكن الدّولة والقضاء والمؤسّسات الرّسمية. مثلًا، إذا اعتبرنا أن محامٍ مسلمٍ ومحامٍ مسيحيّ يرافعان أمام قاضٍ يهوديّ ويستعملان القرآن وإنجيل العهد الجديد لإقناع القاضي بوجهة نظرهم في قضيةٍ معينةٍ، أليس هذا تعدّيًا على حريّة معتقد القاضي من جهة، وحريّة معتقد المحامي الآخر من جهة أخرى؟ المحامي هنا يفترض مسبقًا أن عقيدته يجب أن تكون مقبولةً من المحامي الآخر والقاضي، وأنّ تطبيق القوانين، والعدالة بشكلٍ عام، تشمل أو تنطلق من مبادئ عقيدته المختلفة عن مبادئ العقائد الأخرى. لذلك، وبما أنّ كلّ عقيدةٍ تعتبر نفسها الأنسب للعدالة الاجتماعيّة، فالمحامي، بمجرّد الاستناد إلى عقيدته، يرفض أن يعتمد القضاء مبادئ العقائد الأخرى كمبادئٍ للعدالة. التعدّي هنا ينبع من اعتقاد كلّ عقيدةٍ بأنها تمتلك الحقيقة الأوسع والأشمل والأنسب من غيرها.

لا تختلف العقائد غير الدّينيّة كالليبراليّة والشيوعيّة بهذا الخصوص عن العقائد الدّينيّة. فالمبادئ الليبراليّة التي يرفضها الشيوعي والمبادئ الشيوعيّة التي يرفضها الليبراليّ تلعب نفس الدّور الذي تلعبه المبادئ الدّينيّة المختلفة. لهذا السبب، ولكي يجمع كلّ هذه العقائد تحت شعارٍ واحدٍ، عرَّف جون رولز “العقيدة الشّمولية” بأنها عقيدةٌ تَستعِمل العقل النظريّ والعقل العمليّ وتشمل جهاتٍ كثيرة من حياة الإنسان. العقل النظريّ يمثّل المعرفة النظريّة للموضوعات كمعرفة الرّياضيّات وإدراك الأشياء الحسّيّة، أمّا العقل العمليّ فهو المعرفة الهادفة للتصرّف عملياً مثل اتّخاذ الأحكام والقرارات الأخلاقيّة بما يجب فعله في موضوعٍ ما. كما يدعو رولز للابتعاد عن أي عقيدةٍ مثيرة للجدل، ترفضها جماعات شريكة في الوطن الواحد. وهذا يشمل الأديان والعقائد السياسيّة كالشيوعيّة والليبراليّة، لا بل أضاف أيضاً العلمانيّة لتكون عقيدةً شمولية مثيرةً للجدل. العلمانيّة عقيدةٌ شموليةٌ تقوم على التباين بين الدّين والعلمنة وتطرح نفسها مكان الدّين في الميدان السياسيّ. ولهذا السبب استبدل رولز العلمانية ب”الإجماع المُتداخَل” الذي يقوم على خلق مساحة مشتركة بين جميع العقائد الشموليّة بما فيها العلمانيّة وغيرها من العقائد غير الدّينية لمعالجة الدساتير والقوانين في الدّولة.

إعلان

لكن ما يقدّمه جون رولز هو أيضاً عقيدة شمولية، لكنها عقيدة تستطيع التّعامل مع نفسها كما تتعامل مع غيرها من العقائد. فعقيدته “الليبرالية السياسيّة”، تطرح نفسها كالحلّ الأنسب للمجتمعات التي تتعدَّد فيها العقائد. هو يستعمل العقل النظريّ ويحاول تعريف الإنسان “العاقل” الذي يعتنق عقيدة شاملة، كما يستعمل العقل العملي ليحدّد مبادئ العدالة، ونظريّته تطال حياة الإنسان الاجتماعية والأخلاقية والسياسيّة. بالإضافة إلى أنه يعتمد على اختبارٍ فكريّ، لا يختلف كثيراً عن الاختبار الدّينيّ، لوضع مبادئ العدالة، ما يجعلها عقيدة مثيرة للجدل. هذا الاختبار هو افتراض أن هناك أشخاص عاقلون يمثلون مجتمعًا معيّنًا، عليهم اختيار مبادئ العدالة بدون أن يعرفوا موقعهم في المجتمع ما إذا سيكونون أغنياءً أو فقراءً، ذكوراً أو إناثاً، مسلمين أو مسيحيين، إلخ.

على أي حال، لا تكمن المشكلة بشموليّة العقائد إنما بتأويلها وتفسيرها. أيّ عقيدة ممكن أن تكون مناسبة لدولةٍ فيها تعدديّة عقائديّة وحاضرة لكي تقوم بالإجماع المتداخل، وممكن أن تعارض هذا المشروع. هذا يعتمد على معتَنِق العقيدة إذا ما كان يتعامل معها بطريقةٍ دوغمائيّة حازمة أو بطريقةٍ نقديّة تجعلها قابلة للتطوُّر نحو احترام حريّة المعتقد لدى الآخر. وإذا لم تتقبّل كل عقيدة تأويلات مختلفة بين معتنقيها، وإذا لم تستطع الجماعات داخل العقيدة الواحدة خلق مساحة مشتركة فيما بينها، فكيف ستستطيع التعامل مع العقائد الأخرى وتذهب نحو الإجماع المتداخل معهم؟

في الحقيقة، ليس هناك من تعصّب لعقيدةٍ بحدّ ذاتها، إنما تعصّب لتأويلٍ معيّن لهذه العقيدة. وهذا ما نراه داخل كل عقيدةٍ من خلال، مثلًا، نظرة الكاثوليك لشهود يهوه ونظرة الأرثوذكسيّ للبروتستانتيّين، ونظرات السنيّ والشيعيّ والدرزيّ لبعضهم. وهذا التمييز طبعًا موجود بين الجماعات الشيوعيّة التي تختلف في تفسير المبادئ والأهداف، كما في الجماعات الليبيراليّة المختلفة، وغيرها. لا تجدي نفعًا محاولات خلق مساحة مشتركة بين العقائد من خلال مبادئ العقائد نفسها، مثلًا كالقول بأن إله الإسلام هو نفسه إله المسيحيين، في مجتمعٍ إسلاميّ مسيحيّ. على العكس، قبول اختلاف الإله الاسلامي عن الإله المسيحي هو ما يجعل الحوار ممكناً بينهم. المساحة المشتركة التي أثبتت نجاحها في دولةٍ تعدديّة تكون في السّياسة والدّستور والقوانين والقضاء، وليس في أمور عقائدية كاللّه والدّينونة. وهذا ينطبق على العقائد غير الدّينيّة، فالمساحة المشتركة، حسب جون رولز، تقوم على التخلّص من المبادئ العقائدية وليس على التمسّك بها في الحقل العام السياسيّ الدستوريّ.

في بلدٍ تعدّديّ، سيكون من الواضح رؤية أن هناك حاجة للذهاب باتجاه المساحة السياسيّة المشتركة. في لبنان مثلاً، حيث الحقل السياسيّ الدستوريّ غير منفصلٍ عن العقائد الشاملة الدّينيّة، إنّ فشل سياسيّي أحزاب الطّبقة الحاكمة في خلق مساحةٍ مشتركة خالية من العقائد الشاملة هو دعوةٌ للشعب لخلق هذه المساحة. في ثورة ١٧ تشرين عام ٢٠١٩ بدأت محاولةٌ لخلق مساحةٍ مشابهة في السّاحات، لكن هذه المحاولة سقطت من خلال مظاهر وأناشيد دينيّة في هذه السّاحات نفسها. السّاحة مكان عام وحرية التعبير تسمح للجماعات بالتّعبير في الأمكنة العامّة عن عقائدهم الشاملة، لكن النّقد لهذا التّصرف يأتي في سياق محاولة خلق مساحة الإجماع المتداخل في السّاحات لكي تنعكس لاحقاً على مؤسّسات الدولة، لتكون ثورة فعليّة على نظامٍ أهلكه تقاتل العقائد الشاملة في الحقل السياسيّ.

لكن يبقى النّقد بأن هذا التخلُّص من المبادئ العقائديّة في الحقل العام الدستوريّ هو من ناحيةٍ أخرى خرقٌ لحريّة التّعبير، فالمتديّن لا يحقّ له تبرير أي مسألةٍ دستورية من خلال عقيدته وعليه أن يجد أسبابًا ومبادئ تقبلها العقائد الأخرى، والشيوعيّ لا يمكنه الاستناد إلى الفلسفة الماديّة الماركسيّة في جداله الدستوريّ القانونيّ بل الاستناد إلى ما يَقبلهُ الجميع، وأضيف بأن المعتنِق لعقيدة رولز لا يمكنه أن يبرِّر مبادئ العدالة من خلال الاستناد على الاختبار الفكريّ الرولزيّ الذي لا تعتمده العقائد الأخرى. فرغم اقتناع الشخص بمبادئه، لا يمكنه التّعبير عنها كما هي، ويجد نفسه مجبراً على التّعبير بغير ما يُقنعهُ أو أن يعتمد مبادئ أخرى، وهذا يبدو انتهاكًا لحريّة التّعبير.

أخيراً، إذا كان هناك مجتمع تعدّدي فيه جماعات ترفض التخلّي عن عقائدها في الميدان الدستوريّ السياسيّ العام، يقول رولز أنّ في هذه الحالة ربما يكون من الأفضل العودة لدويلات الملّة الواحدة والعقيدة الواحدة حيث الجماعة تتمتّع بحريّة تامّة في الاستناد إلى عقيدتها من دون خرقٍ لحريات جماعاتٍ أخرى. رغم أن هذا التخلّي عن العقائد أثبت جدارته في تكوين الازدهار الاقتصاديّ والفكريّ في بلاد الغرب وسمح بالهجرة لمعتنقي مختلف العقائد، لكن من الناحية الأخلاقيّة الفلسفيّة، لا يمكن تفضيله على دولة العقيدة الواحدة. ففي مجتمعٍ تعدّدي، في التخلّي عن العقيدة تعدّي على حريّة التّعبير، وفي التمسّك بها تعدّي على حريّة الاعتقاد.

Reference:
John Rawls, Political Liberalism, Colombia University Press, New York, 1996

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مارك شوفاني

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا