عودة ماركسيّة لفيورباخ عبرَ فرويد

هل تكفي ثورة البروليتاريا؟

بعد كارل ماركس، بحث المنظّرون النقديون في مدرسة فرانكفورت مستخدمين أعمال فرويد، في أسباب عدم حصول الثورات المتوقعة من النظريّة الماركسيّة في العديد من البلدان. تحوَّل البعض منهم، مثل هوركهايمر وأدورنو، نحو التشاؤم بشأن النظرية الثورية وقام بعضهم بنقد النظرية الطبقية. من أجل معرفة ما إذا كانت نظرية ماركس بحاجة إلى تعديلات، عادوا لكتاب “رأس المال” حيث يقدّم ماركس نقده للاقتصاد السياسيّ، لكن أيضًا من الأفضل أن نعود إلى العمل الأساسيّ حيث بدأ المفهوم الجديد للمادية “أطروحات حول فيورباخ“.

قال ماركس عن فيورباخ إنّه “لا يعتبر النشاط البشريّ بحد ذاته نشاطًا موضوعيًّا” (الأطروحات 1) وسَمّى هذا النوع من المادية باسم “المادية التأملية” (الأطروحات 4) و”المادية القديمة” (الأطروحات 5). تُصوِّر المادية الجديدة الماركسية النشاط البشريّ كمصدر موضوعي للتغيير الذي يشكِّل الواقع.

انتقد ماركس كتاب فيورباخ ‘جوهر المسيحية‘، حيث يفسّر فيورباخ الإيمان بالله بأنه انفصال صفات إنسانية عن الإنسان حين تطلق على الله. عملية الانفصال هذه صنّفها في كتبٍ لاحقة بأنها عملية تجريد للإنسان من جوهره، أما نتيجة التجريد فهي اغتراب الإنسان عن ذاته. مثلاً، المحبة صفة إنسانية عرفها الإنسان من محبة الأم لأولادها ومحبة الأصدقاء والأخوة وغيرها من الحالات، فحين يقول المؤمن أنّ الله محبة، يستأصل من ذاته ما هو جوهريًا ليعطيه لكيانٍ آخر، وهنا يكمن الاغتراب عن الذات. وفقًا لماركس، إن كتاب فيورباخ، ‘جوهر المسيحية’، “يتمثّل في تحويل العالم الديني إلى أساسه العلماني” (الأطروحات 4) من أجل مقاومة هذا الاغتراب الديني. لكن طريقة فيورباخ نظرية وليست عملية، تعتمد على الوعيِّ الإنسانيِّ وليس على النشاط العمليّ، فهي تقوم على إظهار أن الصفات التي نعبدها في الله هي في الحقيقة صفاتنا الإنسانية وعلينا استرجاعها من المطلق.

النقد الأول الذي قام به ماركس هو أن الطريقة النظريّة ليست فعّالة بسبب مركزيّة وأسبقيّة النشاط العمليّ الاجتماعيّ على النشاط الفكريّ النظريّ في تشكيل الواقع، لذلك يجب أن تكون مقاومة الاغتراب عملية وليس نظرية؛ على الرغم من أن ماركس لم يرفض أن التغيير النظري يمكن أن يؤثّر على التغيير العمليّ، لكن تركيزه كان فقط على الممارسة من خلال الثورات الاجتماعية.

النقد الثاني الماركسيّ لفيورباخ هو أن مقاومة الاغتراب الدينيّ ليست هي التي يجب أن نقاومها، بل الاغتراب الاقتصادي الذي وصفه في ‘رأس المال’. فكما أنّ فيورباخ اعتبر أن الاغتراب يحصل من خلال تجريد الإنسان من صفاته وجعلها في كيان موضوعي منفصل عنه، ماركس ركّز على الاغتراب الحاصل من خلال تجريد العمل في المجتمع الرأسمالي، أي اختزال جميع أنواع العمل في عمل مجرد عام وبسيط. الفرق بين اغتراب فيورباخ الديني واغتراب ماركس الاقتصادي هو أن فيورباخ يعتبره تجريدًا لجوهر الإنسان لكن ماركس لا يعتبر أن العمل هو جوهر الإنسان، لكن العمل هو ما يميزه عن الحيوان. إن إلغاء الاغتراب الاقتصادي بالنسبة لماركس يجلب معه إلغاء الاغتراب الديني لأن دور الدين هو تعزية البشر من التعاسة التي هي نصيبهم في المجتمع الحالي. بمجرد زوال البؤس الناجم عن الاستغلال واللا مساواة الذي ستلغيه الثورات الاجتماعية التي ستلغي الاغتراب الاقتصادي، مع زوال النظام الرأسمالي، لن يحتاج البشر إلى العزاء الدينيّ. لكن هل هذه النتيجة مضمونة بهذه الطريقة؟

إعلان

أولاً، علينا توضيح كلاً من الاغتراب الديني والاقتصادي. في كِلا الاغترابين، ينفصل جزء من الإنسان عنه، يخرج من ذاتيّته ليصبح شيئًا موضوعيًّا يؤثّر على الإنسان من الخارج. وبدل أن يكون الإنسان هو الموضوع (Subject) الذي يؤثر على الشيء (Object)، تتبدّل الأدوار ليلعب الإنسان دور الشيء، أما سبب الاغتراب، كالمحبة والعمل، فيلعب دور الموضوع. في الاغتراب الديني الله، كعواطف وصفات إنسانية، يؤثر على حياة الإنسان، وفي الاغتراب الاقتصادي، العمل المتجسّد في السّلع يشكّل حياة الإنسان. يمكننا أن نرى الاغتراب في الانفصال الحاصل بين الشعب والعمّال من جهة والدولة والرأسماليّين ورجال السّلطة من جهة أخرى، ونرى ما يوازيه انفصالًا بين العلمانيين، مؤمنين وغير مؤمنين، من جهة، والمؤسّسات الدينية ورجال الدين من جهة أخرى. هذا يمثّل الاغتراب الجماعي عن الذات الجماعية في الدين والاقتصاد بشكل متوازٍ.

ثانيًا، حاجة الإنسان للتعزية الدينية لن تزول. يشرح فرويد في كتابه ‘قلق في الحضارة‘ أن الإنسان كان سعيدًا قبل أن يصبح متحضّرًا، فمن الحضارة أتى الصّراع النفسي بين الهو والأنا العليا. الهو، العقل اللاوعي، يمثل كل ما يتعلق بالرغبات الجنسيّة بالإضافة إلى الاندفاعات العدوانية، والأنا العليا تمثل الضمير والقيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ. العلاقة الجدلية بين التعاسة والحضارة تكتمل في أن الشعور بالذنب هو السبب الرئيس لتطوّر الحضارة بالنسبة لفرويد. لذلك، بما أن الحضارة لن تزول، تعاستنا لن تزول، وحاجتنا للتعزية ستبقى قائمة.

إذاً، بما أن الحضارة لن تنتهي مع زوال النظام الرأسمالي، الإنسان لن ينال السعادة، أو على الأقل لن يتخلّص من التعاسة، حتى وإن تقلّصت أسباب تعاسته مع غياب الاستغلال الاقتصادي كما أراد ماركس. إذا لم يكن هدف ماركس السعادة، عبر الثورة، فعلى الأقل كان انقضاء التعاسة، ما هو مستحيل حسب فرويد. وهكذا، إنَّ الاغتراب الاقتصادي والاغتراب الديني سببان لتعاسة الإنسان، لا يلغي الأول الثاني لأنّه لا يخوّلنا، أو على الأقل لا يضمن لنا، التخلُّص من الحاجة للدين بسبب التعاسة التي لن تزول.

لذلك، إذا أردنا مقاومة الاغتراب الاقتصادي بثورة البروليتاريا على الدولة، ربما علينا أيضًا مقاومة الاغتراب الديني بالثورة العلمانية على الدين. هذا تطبيق لمادية ماركس العمليّة للوصول لأهداف فلسفة فيورباخ المادية النظرية. لكن على أي حال، هذا لا يلغي الحاجة إلى المقاومة أو الثورة النظرية التي دعا إليها فيورباخ والتي تقوم على استرجاع الصفات الإنسانية من الله. وهذا يحصل عبر تأويلات متجدّدة للكتب الدينيّة باتخاذ اللاهوت وعلم الكلام وما يوازيهما في الأديان الباقية كعلوم تأويلية يتجدد عبرها الفكر الدينيّ، وليس كأدوات تعليمية لترسيخ العقائد بمعزل عن الفكر النقديّ. وفي هذه الحالة، إذا كان الله موجودًا، سوف يتمكّن من كشف ذاته المستورة تحت صفاتنا المُغتربة عنّا.

نرشح لك: فهم العالم: الماركسية والحرية، لماذا لا يزال يتردد صداه

المراجع

Ludwig Feuerbach, The Fiery Brook: Selected Writings, Zawar Hanfi, Verso, 2012

Karl Marx, Theses on Feuerbach, W. Lough, Progress Publishers, Moscow, USSR, 1969

Sigmund Freud, Civilization and Its Discontents, David McLintock, Penguin Books - Great Ideas, 2004

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مارك شوفاني

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تدقيق علمي: عصام أسامة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا