هل الاقتصاد هو مصدر العلوم؟

التجريدات الواقعية عند كارل ماركس

تقوم العلوم والفلسفة على أفكارٍ مجرّدةٍ من المادة، أمّا علم الاقتصاد، كما قدّمه كارل ماركس، لا يقومُ على أفكارٍ مجردة من المادة، ولا على المادة بمعناها الحرفي الضيّق. الاقتصاد حسب كارل ماركس يقوم على “التجريدات الواقعية” كما عرّفها ألفرد سون ريثيل في كتابِه “العمل الفكري واليدوي” (Intellectual and Manual Labour). بعد أن أُوضّح هذه التعابير، سوف أقدّم قراءتي لماركس ونقدي لسون ريثيل بهدف مناقشة ما إذا كانت نشأة العلوم ووجود تجريداتها الفكرية نتيجة للتجريدات الماركسية الاقتصادية الواقعية.

التجريدات قبل كارل ماركس كانت ترد في الفلسفةِ على أنّها تحصل في فكر الإنسان الذي يرى العديد من الظواهر، يجرّدها من خصائصها، ويجمع المشترك فيما بينها بمفهومٍ عام ومجرد. مثلًا، مفهوم العدالة الذي يحاول المفكّر تعريفه ليشمل الأساسات لجميع الأعمال العادلة على أنواعها. هذه العملية هي عملية تجريد، وهذا التجريد يحصل في وعي الإنسان وفكره قبل أن يؤثّر على عالمِه الاجتماعي.

في نقدِه للاقتصاد السياسي، أوجَدَ ماركس تجريدًا مختلفًا عن هذا التجريد التقليدي، تجريد لا يحصل في الوعي الإنساني أولًا، بل في الحياة الاجتماعية عبر العمل الإنساني الذي لا يعتمد على الوعي. مثلًا، المال كقيمة، وليس كعملة نقدية، هو تجريدٌ لجميع أنواع السّلع في المجتمع الرأسمالي، ينبع من عملية التبادل السّلعي، ويتعلّم الإنسان استعماله قبل فهم ماهيّته. المالُ لا يَعتمد على وعي الإنسان حتّى يؤثر على حياته؛ فالمال يشكّل حياة الإنسان بمعزِلٍ عن مفهومِه الواعي للمال، فواقعيّة هذا التجريد وموضوعيّته تجعلانه لا ينتظر الفكر الإنساني، بل يسبقه.

المثال الآخر والأهم للتجريدات الماركسية هو العمل المجرَّد الذي ينبع من عملية اختزال لجميع أنواع العمل في المجتمع الرأسمالي في عملٍ بسيط، عام، ومجرَّد من خصائص هذه الأنواع، لكي يصبح تبادل السّلع ممكنًا. فتبادل السّلع هو فعليًا تبادل لجميع أنواع العمل التي أنتجت هذه السّلع. حاول أرسطو قبل ماركس أن يدرسَ عمليّة تبادلٍ بين منزل وخمسة أسِرَّة، لكنه قال بأن الأعمال التي أوجدت السرير مختلفة بأنواعها عن الأعمال التي أوجدت المنزل، ولا يمكن أن نعادل هذه الأنواع المختلفة، فما من مفهوم كَميّ يربط بينها. علَّقَ ماركس على أرسطو بأنه محقٌّ؛ فلم يكن ممكنًا في أيامه ما أصبح ممكنًا في مجتمعٍ رأسماليّ، حيث التبادل يحصل بين جميع السّلع لأنّ هناك قيمة موحّدة لجميع أنواع الأعمال من خلال التقييم العالمي لكل الأنواع حسب وقت العمل، ممّا يجعل تبادل أنواع العمل ممكنًا.

تفسير سون ريثيل لكارل ماركس

الماركسي ألفرد سون ريثيل جعل من مفهوم “التجريدات الواقعية” مفتاح لفهم النقد السياسي الاقتصادي الذي قدّمه كارل ماركس -علمًا بأنّ ماركس لم يستعمل هذا التعبير في كتاباته- وهذا حين اعتمد عبارةَ “التجريدات الواقعية” للدلالة على تجريدات ماركس الاقتصادية، كالمال، والعمل المجرَّد، والتبادل السّلعي، بمقابل التجريدات الفكرية (Thought abstractions) كالمحبة، والعدالة، والجمال، والتي تعتمد على الوعي. لكن قام سون ريثيل بتوسيع مفهوم التجريد الماركسي إلى ما قبل الرأسمالية، وأعطى الفكر الماركسي بُعدًا تاريخيًا لم يقصده ماركس، وذلك بقوله أنّ هذه التجريدات موجودة بمجتمعات ما قبل الرأسمالية، وبدأت في اليونان عام 680 ق.م. حيث عرِف العالمُ أوّلَ عملةٍ نقدية.

إعلان

أي أن التجريدات الواقعية الاقتصادية ليست محصورة في المجتمع الرأسمالي، بل تتخطّاه. ثم ربطَ هذا الحدث التاريخي لظهور العملة النقدية ببدء الإنسان بالتفكير المجرّد ونشوء الفلسفة، فما من فلسفة قبل هذا الحدث. لذلك، هو يؤكّد بأن التجريدات الواقعية اللاواعية هي سبب تشكيل التجريدات الفكرية الواعية التي تمثّل العلم والفلسفة، أي أن النشاط الاقتصادي هو المسؤول عن الازدهار الفكري الإنساني ونشأة العلم والفلسفة.

اعتمد سون ريثيل على تفسيرِه الخاطئ لماركس، زاعمًا بأنّه يؤكّد أن عملية التبادل هي مصدر التجريدات الواقعية، بمعنى أن التبادل هو السبب الذي يجعل تكافؤ جميع أنواع الأعمال ممكنًا، يستند بتفسيره هذا على عدة نصوص لماركس، أبرزها المقطع التالي:

“لذلك، فإنّ الناس لا يربطون منتجات عملهم ببعضهم البعض كقيم؛ لأنهم يرون هذه الأشياء مجرد غلافٍ مادّيٍ للعمل البشري المتجانس، والعكس هو الصحيح، فمن خلال مساواة منتجاتهم المختلفة ببعضها البعض في التبادل كقيم، فهم يساوون بين أنواع عملهم المختلفة كعملٍ بشري، ويفعلون ذلك دون أن يكونوا على وَعيٍ ودرايةٍ به” (رأس المال ١٦٦).

وكان تعليق سون ريثيل على هذا المقطع كالآتي:

“حتى عندما يُعتَبر شكل القيمة مرتبطًا بالعمل، فإنّ غالبًا ما يتم تقديم هذه العلاقة على أنها تأثيرٌ ناتجٌ عن الخصائص الشكلية للتبادل” (سون ريثيل 32).

لكن هذا تفسيرٌ خاطئ من خلال التشديد على دور التبادل كما لو كان له الأسبقية على تجريد العمل. ما يعنيه ماركس هو أن الناس لا يدركون أن تجريد العمل، أي اختزال أنواع مختلفة من العمل إلى عملٍ مجرد، يتم عندما يتبادلون السلع. يعرف الناس أنهم يقومون بتبادل بين البضائع، لكنّهم لا يعرفون أنهم من خلال القيام بذلك يساوون جميع أنواع عملهم، أي أنهم يقومون بعملية اختزالٍ لجميع أنواع العمل بعملٍ واحدٍ مجرّد. لذلك، أظنُّ أنّ سون ريثيل خاطئٌ في أنّ عملية التبادل هي مصدر التجريدات الواقعية؛ لأن ماركس يَعتَبِر أن عملية تجريد العمل من خلال الاختزال لأنواع العمل هي عملية أساسية لجعل التبادل ممكنًا، ولهذا السبب أعتقد أن الاختزال هو مصدر التجريدات الواقعية.

انطلق سون ريثيل من أنّ التجريدات الواقعية تأتي من عملية التبادل، ليقولَ بأن هذه التجريدات كانت موجودة ما قبل الرأسمالية -في اليونان مثلًا- لأن عملية التبادل كانت قائمة حينها، لكن عدا عن أن عملية التبادل ليست مصدر التجريدات، سون ريثيل يعتقد أن نتيجةً لظهور العملة النقدية أصبح التبادل هو الذي يشكل الحياة الاجتماعية، أو ما يسميه سون ريثيل بالتوليفة الاجتماعية “social synthesis”، وهذا أمرٌ مثير للجدل؛ لأنّ ما يشكّل العلاقات بين الناس في مجتمعات ما قبل الرأسمالية هو الانتماء للدين أو للملك، وهذا هو التغيير الأساسي للرأسمالية، بأنها جعلت التبادل السلعي يشكّل حياتنا الاجتماعية. لذلك، حتى وإن كان هناك عمليات تبادل تُعتَبر أساسيّة إلى حدٍّ ما، لكنها لم تكن تشكّل حياة المجتمع كما يفترض سون ريثيل.

نشأة تجريدات الرياضيات

إنّ التجريدات الفلسفية شبيهة بتجريدات الرياضيات التي هي أيضًا تجريدات فكرية، فلكي يصل سون ريثيل إلى مبتغاه ويؤكد أن التجريدات الواقعية -كالمال- هي التي أنتجت التجريدات الفكرية العقلانية (بمعنى أنها أكثر عقلانيةً من تجريدات الأساطير)، كان عليه أن يعتبر أن كل المحاولات السابقة لعام 680 ق.م. في الرياضيات لم تكن علمًا عقلانيًا قائمًا بحدِّ ذاته ومنفصلًا عن الأعمال اليدوية كما هو الحال في الرياضيات اليونانية مع طاليس وفيثاغورس وغيرهم.

هناك أعمال في الرياضيات تعود للعصر البرونزي في مصر لعام 1850 ق.م. وعام 1550 ق.م. واعتمد سون ريثيل على عمل اسمه “بردية ريند الرياضية”  (The Rhind Mathematical Papyrus)، العائد لعام 1550 ق.م. المحفوظ في المتحف البريطاني. اعتبر سون ريثيل أن الرياضيات المصرية ليست سوى طريقة تعبيرية لعملٍ يدوي بالقياس القائم على طريقة شد الحبال، وشدّدَ على الجهة الهندسية (Geometry)، وغضَّ النظر عن الحسابيات (Arithmetic).

إنّ الرياضيات المصريّة كانت منفصلة عن العمل اليدوي، على عكس ما يدّعي سون ريثيل، فالتمارين الهندسية كانت ترتكز على الحسابيات وليس على الحبال، وهذه الحسابيات وَصلَ تطوّرها لحد بناء المتواليات العددية (Suites arithmétiques) وغيرها من الموضوعات الرياضيّاتيّة التي ما زلنا نتعلّم تقنياتها حتى يومنا هذا في المدارس والجامعات. وهكذا، يمكننا رؤية أن الرياضيات المصرية كانت منظومة تجريدات فكرية لا تختلف بهذا عن الرياضيات في اليونان.

نقد نظرية سون ريثيل المادية

بما أن عملية التبادل ليست مصدر التجريدات الواقعية في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، فلا يمكن لها أن تكون مصدر للتجريدات الفكرية، كتجريدات الفلسفة والرياضيات؛ ذلك لأنّ حجة سون ريثيل قائمة على أن التجريدات الواقعية النابعة من عملية التبادل هي السبب وراء التجريدات الفكرية العلمية، وبالتالي نشأة الفكر العلمي العقلاني. لكن، إذا افترضنا أن هناك إمكانية لعملية التبادل أن تكون سببًا للتجريدات الفكرية بدون أن يصدُرَ عنها تجريدات واقعية مسبقًا -فهذا الاحتمال غير وارد؛ نظرًا لوجود التجريدات الفكرية في الرياضيات في مصر قبل وجود التبادل السلعي. فكما يفسر سون ريثيل، في العصر البرونزي كان المجتمع المصري يعطي ما ينتجه للفرعون لكي يتصرف به كما يشاء، أي أن التبادل لم يكن قائمًا حينها.

إذًا، لا أعتقد أن ظهور العملة النقدية، ومعها التبادل السلعي، هو سبب عَقلنة التجريدات الفكرية ونشوء العلم والفلسفة، وبما أن التجريدات الواقعية ليست موجودة إلّا في المجتمعات الرأسمالية، فإن إمكانية حدوث جدليّة ما بين التجريدات الواقعية والفكرية غير واردة قبل الرأسمالية. أخيرًا، لقد جادلت بأن التبادل ليس مصدر التجريدات الواقعية ولا الفكرية، لكن هذا لا يلغي إمكانية وجود سببٍ مادّي اقتصادي آخر لنشأة العلوم والفلسفة.

References:

Chace, Arnold Buffum, et al, The Rhind Mathematical Papyrus, Vol. 1, Mathematical Association of America, Ohio, USA,1927

Marx, Karl, Capital, A Critique of Political Economy, Volume One, Ben Fowkes, Penguin Books, London, 1976

Sohn-Rethel, Alfred, Intellectual and Manual Labour, A Critique of Epistemology, Humanities Press, Atlantic Highlands, New Jersey 1978

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مارك شوفاني

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا