السيرك الليلي .. عندما ينبض السحر بالحياة

صدر مؤخرًا عن دار عصير الكتب ترجمة رواية السيرك الليلي، تأليف الكاتبة الأمريكية إيرين مورجينسترن، وترجمة الكاتب والمترجم المصري محمد الدواخلي مؤلف رواية الغول الأحمر الأخير. صدرت الرواية بالإنجليزية سنة 2011 ونُشرت بعدها بلغات أخرى عديدة، وهي الرواية الأولى للكاتبة، وحازت عنها على جائزة لوكس المخصصة للخيال العلمي والفانتازيا فئة أفضل رواية أولى سنة 2012، وجائزة أليكس في العام ذاته.

الرواية تنتمي لأدب الفانتازيا، وتدور أحداثها في لندن في العصور الفيكتوري، ولكن حبكتها لا تسير بشكل خطي بل تنتقل ذهابًا وإيابًا في الأحداث بين سنوات عديدة، وتتحدث بشكلٍ أساسي عن سيرك يسمى “سيرك الأحلام” أو “Le Cirque des Rêves” وهو سيرك يتميز بصفة عجيبة وهي أنه لا يفتح أبوابه إلا في الليل، من غروب الشمس وحتى شروقها، ومن ثم فهو السيرك الليلي. ولكن هذا ليس هو أغرب ما في السيرك، فما بداخل السيرك يفوق الخيال. التيمة الرئيسية للرواية هي أن السحر الحقيقي موجود، وليس مجرد خفة يد وألعاب حواة. فهناك ساحر حقيقي يحمل لقب بروسبيرو ـ على اسم الساحر الشهير في مسرحية العاصفة من تأليف شكسبير ـ لديه القدرة على ممارسة السحر الحقيقي، ولكنه يؤدي عروض سحرية في المسارح متظاهرًا بأنها مجرد خفة يد. يبدأ بروسبيرو في تدريب ابنته سيليا على السحر لتصير مثله مؤدية عروض مسرحية. وفي الوقت ذاته يظهر هذا الرجل الغامض المدعو أ. هـ. ليدخل هو وبروسبيرو في تحدٍّ غريب من نوعه، مبارزة فريدة، بين سيليا، وبين التلميذ الذي سيختاره أ. هـ. وهو الطفل الذي سيتبناه من دار الأيتام ويحمل لاحقًا اسم ماركو أليسدير، وساحة هذه المباراة السحرية العجيبة ستكون لاحقًا السيرك الليلي، سيرك الأحلام.

أجمل ما في هذه الرواية هو قدرة الكاتبة على خلق عالمٍ فانتازي غريب، الذي يرتكز بشكلٍ رئيسي على هذا السيرك، ويمتد فيما وراءه إلى العالم الواقعي حيث توجد إشارات مبهمة هنا وهناك على أن السحر شيء حقيقي، ولكنه مبهم خفي عن عيون الأشخاص العاديين الذين لم يُمنحوا هبة ملاحظته أو الشعور به. أبدعت الكاتبة في وصف السيرك وخيامه المتعددة، فقد خلقت مكانًا ينبض بالحياة، بمواعيد عملٍ غير معتادة، وجدول ترحالٍ أكثر غرابة، فينتقل من مكانٍ لمكان، ويظهر دون سابق إنذار، كما أنه يتميز باللونين الأبيض والأسود، لا ألوان السيرك الزاهية المعتادة. ما إن تدلف إليه حتى تصل إلى أنفك روائح الكراميل والشوكولاتة والحلوى المختلفة، سترى النار ذات اللون الأبيض غير المعتاد، الخيمات المختلفة التي تحوي كل واحدة منها شيئًا يفوق الخيال، ساحرة تؤدي سحرًا حقيقيًّا، بهلوانة تصنع بجسدها أشكالًا مستحيلة، لاعبي أكروبات يؤدون عروضًا خطيرة للغاية بلا شبكات حماية، قارئة طالع بأوراق تاروت حقيقية، حديقة من الثلج، متاهة من الغيوم، خيمة من الأوهام، وأشياء أخرى عديدة أبدعت الكاتبة في وصف كل شيء منها، بلغة جميلة ساحرة، وعذوبة فائقة.

هناك العديد من الأشخاص الذين تنتقل أحداث القصة فيما بينهم، فبجانب سيليا وماركو الشخصيتين الرئيسيتين والساحر بروسبيرو والآخر الغامض أ. هـ.؛ هنالك العديد من الشخصيات الأخرى مثل، بيلي الفتى القروي البسيط الذي نرى السيرك من خلال عينيه ونستكشفه معه وننبهر بانبهاره به، والسيد فريدريك صانع الساعات الذي صنع ساعة فريدة من أجل السيرك وأحس ناحيته بإعجاب شديد فكتب عنه مقالات أدت لتأسيس طائفة الحالمين، هؤلاء الذين يرتحل بعضهم معه حيث ارتحل، ويتابع الآخرون كل تفاصيله بشغفٍ شديد، وهنالك التوأمان ويجيت وبوبيت اللذان قد ولدا في افتتاح السيرك بشعرٍ أحمر غريب وقدرات سحرية أكثر غرابة، والبهلوانة تسيكوكو ذات التاريخ الغامض، وقارئة الطالع إيزوبيل التي تقع في حب ماركو، وشاندرش مالك السيرك، وغيرهم من الشخصيات التي تلعب كلها دورًا هامًّا في أحداث رواية السيرك الليلي.

إعلان

المأخذ الوحيد لديَّ هو أن الكاتبة استغرقت كثيرًا في بناء العالم الفانتازي الخاص بها، بينما الشخصيات ـ على كثرتها ـ لم يولَ معظمها الاهتمام الكافي، وكنت أتمنى لو عرفت الكثير عنها، وخصيصًا بروسبيرو وخصمه أ. هـ. وتاريخهما السحري الغامض. ولكن وصف العالم كان مبهرًا وأرى أنه في حد ذاته كافيًا للولوج إلى هذا العالم السحري والتعرف عليه. الحبكة كانت فريدة ومميزة، الصراع لم يكن صراعًا سحريًّا معتادًا أو صراع قوى خارقة وتعاويذ، ولكنه بالأحرى صراع أفكارٍ ومشاعر، إلا أن الحبكة في أجزاء منها كنت أشعر ببعض التطويل في أحداثها، ولكن هذا لم يمنعني من التهام صفحات الكتاب.

الترجمة جاءت جميلة وسلسة، واستطاع المترجم ـ وهو كاتب فانتازي مخضرم ـ أن ينقل لنا هذا العالم السحري الغريب إلى اللغة العربية بعباراتٍ وأوصافٍ لا تقل جمالًا عن مثيلتها في اللغة الأصلية.

الترجمة ممتعة وفريدة ولا يجب أن يفوتها أي محب للفانتازيا والعوالم الخيالية الفريدة، أو حتى أي محب للسيرك ويرغب في أن يراه من خلال عدسة سحرية مميزة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد صلاح المهدي

تدقيق لغوي: محمود المهدي

اترك تعليقا