الختم السابع ورقصة الموت

وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ السَّابِعَ حَدَثَ سُكُوتٌ فِي السَّمَاءِ نَحْوَ نِصْفِ سَاعَةٍ.

-رؤيا يوحنا.

بهذه البداية من رؤيا يوحنا التي تنذر بخراب العالم يبدأ بيرغمان تحفته الفنية. هذا وإن كانت البداية قوية مدوية، فإنَّ كل تفصيلة في فيلم الختم السابع لن تقلَّ قوة عنها، حتى وكأنها تصفع المشاهد وتستثير حواسه، من ظهور تجسيد الموت ليقبض روح البطل في أوَّل مشهد، إلى التباين الواضح بين الأبيض والأسود طوال الفيلم.

وجد أنطونيوس معنى لحياته في خدمة الرب عشر سنين ضمن الصليبيين في الأرض المقدسة، بعيدًا آلاف الأميال عن وطنه. لكنه الآن وبعد فشل الحملة الصليبية وفي طريق عودته إلى وطنه، يجد أوروبا كاملة قد ضربها الطاعون. تروِّعه الأهوال والآلام التي يعانيها المصابون، لكن ما يروِّعه أكثر هو أنَّه قد قابل الموت نفسه، في وقت ينازع فيه أسئلة تلحُّ عليه. عشر سنوات قضاها أنطونيوس في خدمة الرب، لكنه الآن وفي طريق عودته يتشكك في وجود الرب ذاته. أيُّ إله يبقى صامتًا في وجه كل هذه الصلوات والبكاء والنحيب والآلام؟ و«لماذا عليه أن يبقى مختبئًا خلف وعود مبهمة ومعجزات خفية؟» هكذا يتسائل أنطونيوس.

الختم السابع
مشهد من الفيلم

لكن أنطونيوس يتحدَّى الموت في مباراة شطرنج، يعرف مسبقًا أنه سيخسرها. لماذا؟ لأنَّه يريد مزيدًا من الوقت ليصل فيه إلى المعرفة، المعرفة لا الإيمان كما قال. فيسأل فتاة حكموا عليها بالحرق حية لأنَّها ساحرة وسبب الطاعون كما قال القسيس، يسألها عن الشيطان وهل رأته حقًا، لكنه يدرك أنَّها مصابة بالجنون لا أكثر. ويسأل أنطونيوس الموت نفسه، لكنه يفاجأ بأن الموت نفسه لا يملك إجابة.

الختم السابع
جونار بچورنستراند في دور يونز

على الجانب الآخر نرى مرافقه يونز قد فقد إيمانه بالفعل. فبينما نجد أنطونيوس مؤمنًا لديه أسئلة، نجد يونز ملحدًا لديه إجابات. فالحياة بالنسبة إلى يونز لا معنى لها، وإن كان لها معنى فهو معنى نخلقه بأنفسنا، ولا نولد به مقدرًا من الإله. فبينما أمسك أنطونيوس رأسه وبادر بدعاء الرب أن يرحمه حين أتى الموت ليقبضه، أجاب يونز: «ليس هناك أحد ليسمع توسُّلاتك، أو تحرِّكه معاناتك. جفف دموعك واغمر نفسك باللامبالاة. كان من الممكن أن تساعدك أعشابي على التخلص من قلقك من الأبدية، ولكن الآن فات الأوان. الآن استشعر بالانتصار الأكبر في هذه اللحظة الأخيرة التي يمكنك فيها تحريك عينيك وأصابع قدميك». وعندما قيل له أن يسكت، قال: «سأسكت ولكن وأنا أعترض». هنا نطقت الفتاة البكماء: «لقد قُضي الأمر»، وهي آخر كلمات السيد المسيح على الصليب.

الختم السابع
جونيل ليندبلوم في دور الفتاة البكماء

يعرض لنا الفيلم أيضًا الزوجين “يوف” و”مِيا” اللذين يبدوان في سعادة وحبور واستمتاع بتمثيلهما رغم ما يحيط بهما من أهوال، ويرى يوف رؤى للسيدة العذراء وللسيد المسيح باستمرار، ويخبر بها زوجته التي لا تصدِّقه بأيِّ حال. الرؤى التي تمنَّى أنطونيوس أن يرى شيئًا مثلها يثبت إيمانه لكن ذلك لم يحدث.

إعلان

يوف وميا

ويتقابل أنطونيوس مع الزوجين ويدعوانه إلى تناول الغداء معهما، ويستمتع بذلك كثيرًا، ويخبرهما أنه لن ينسى هذه الذكرى طوال حياته، ويصطحبهما معه إلى الطريق داخل الغابة. المفارقة هنا أن أنطونيوس الذي سأل الجميع -حتى الموت نفسه- عن الإله والشيطان أو أي شيء يحل زعزعة إيمانه، لم يسأل يوف الذي كان سيخبره بالرؤى التي يراها دائمًا.

“يبدأ الإيمان حقا حين نكف عن التفكير”
— سورين كركيغور، خوف ورعدة

تأخذنا حالة يوف وميا إلى فكرة «فارس الإيمان» التي طرحها الفيلسوف سورين كركيغور في كتابة «خوف ورعدة». يخبرنا كركيغور أنه في مواجهة أزمات الحياة ينقسم الناس إلى نوعين: فرسان الاستسلام الأبدي، وفرسان الإيمان. فبينما يستسلم النوع الأول عندما يبدو للعيان أنَّه لا أمل من الاستمرار، يستمر النوع الثاني في إيمانه دونما تفكير، تمامًا كما فعل إبراهيم عندما أمره الله أن يذبح ولده. لقد أطاع الأمر رغم ما يحيط به من لا معقولية تمامًا. كذلك يفعل يوف وميا، فبالرغم ما يحيط بهما من دمار وموت وطاعون، فإنهما يستمتعان بحياتهما ومؤمنان لأقصى درجة ولا يشغلان عقليهما بمعنى الحياة أو وجود الرب أو الشيطان.

يوضِّح لنا تسلسل الختم السابع كيف أنَّ الإيمان نزعة شخصية تمامًا. فإيمان أنطونيوس الذي ساقه من السويد إلى الأرض المقدَّسة ثم تزعزع لدى عودته يختلف عن إيمان يوف وميا اللذين لا يشغلان بالهما بمعنى الحياة أو الإله أو الشيطان، وكذلك يختلف عن إيمان الكهنة الذين روَّعوا الناس واسترهبوهم ليعيدوا إليهم إيمانهم، وعن إيمان الكهنة الذين حكموا على فتاة غير عاقلة بأنَّها ساحرة، وحكموا عليها بالحرق حية. فكل فرد منهم متفرِّد في إيمانه، وفي حالة يوف، في عدم إيمانه.

يزخر الفيلم بإشارات عديدة، ربما أهمها رقصة الموت التي ظهرت عندما كان يرسمها فنان على جدار الكنيسة كنوع من التذكير بالموت، وفي نهاية الفيلم والموت يجرّ أنطونيوس وأصدقاءه في رقصة موت حقيقية. شاعت رقصة الموت في العصور الوسطى على جدران الكنائس، وفي الكتب والرقائق كنوع من التذكير بقصر الحياة وحتمية الموت، خاصة مع انتشار الطاعون الذي كان يحصد في أرواح الناس.

 

الموت يجرّ أنطونيوس وأصدقاءه في رقصة موت أخيرة.

إذًا ما هي إجابة الختم السابع عن الأسئلة التي تناولها؟ إنْ سألت هذا السؤال فأنت لم تستفد منه شيئًا حقًا. فالفيلم يشتبك مع أسئلة أرَّقت العقل البشري لقرون، وانقسم حولها الناس حسب ما يعتقدون، لكن رسالة مؤكَّدة يبعثها الفيلم، وهي أنه لا إجابة على الإطلاق. فالإله نفسه لا يجيب على التوسُّلات ويختبئ خلف وعود مبهمة كما قال أنطونيوس، والإنسان في حيرته يبتغي إجابة عند غيره، فيفاجَأ أن الجميع حيارى مثله تمامًا أو قد أصابهم الجنون، بل إنَّ الموت نفسه لا يعرف إجابة. ويشتبك الفيلم أيضًا مع قضية الصمت الإلهي، لكنه بكل تأكيد لا يقدم حلولًا.

مشهد من الفيلم

كذلك فنهاية الختم السابع لا تدعو المُشاهِد إلى تبنِّي موقف معيَّن، ولا يدعوك الفيلم في نهايته أن تكرِّس حياتك للإجابة عن أسئلة الكون الكبرى مثلما فعل أنطونيوس، ولا للتخلِّي عن إيمانك كما فعل يونز، ولا يدعوك ألا تشغل بالك بكل ذلك وأن تكون فارس إيمان كما فعل يوف وميا، فلا وصاية أخلاقية هنا. هذه هي النماذج ولتختر ما شئت.


كثيرة هي الأفلام والكتب والروايات التي تناولت أزمات الإنسان المعاصر الوجودية في فترة «موت الإله» كما أسماها نيتشه. فبينما نرى دوستويفسكي في الجريمة والعقاب يحاول الارتداد بالإنسان لفترة سابقة و«إحياء» الإله والقيم الدينية، وبينما نرى كركيغور من قبله في خوف ورعدة يدعو إلى أن نكون فرسان إيمان في مواجهة أزمات الحياة وألَّا نبالي بلامنطقيتها، وكذلك بينما يقدِّم ألبير كامو في الغريب وأسطورة سيزيف مبدأ العبث واللا معنى المتجذِّر في الحياة، نجد بيرغمان يقدم في الختم السابع كل هذه التوجُّهات وأكثر في عمل واحد وصراعها جميعها في مواجهة الموت، لكنه يذهب خطوة أبعد بتمثيل الموت وفي جعله حتمية لا يعرف حتى أجوبة على تساؤلات الإنسان، وإنَّما لا يعرف غير أنَّه لن يهرب منه أحد.

في النهاية تَشارَك الجميع بمختلف توجُّهاتهم في شيء واحد، وهو أنَّهم جميعا شاركوا في رقصة الموت وهو يجرُّهم كلهم دون مبالاة مهما كان اعتقادهم، وهل اعترضوا أم تساءلوا أم لم يبالوا، فالموت يوحِّد في رقصته بين الجميع. وتبقى الأسئلة!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله عرفة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا