كيف تُفسِّر القبائلية العَالَم؟

البشر، كباقي الرئيسيَّات، حيوانات قبائلية، إذ نحتاج إلى أن ننتمي إلى مجموعةٍ، ولذلك نُشجِّع الفِرَق والأنْدِيَة. فبمجرَّد أن يتصل الناس في مجموعةٍ، ترتبط هُويَّتهم بها بقوة، ويسعون إلى مساعدة أعضاء هذه المجموعة حتى وإن لم يَعُد عليهم ذلك بالنفع، كذلك سيُنزِلون العقاب بالدخلاء على المجموعة دون مقابل. كما أنهم قد يقدِّمون التضحية أو يُقتلون أو حتى يموتون من أجل المجموعة.

قد يبدو الأمر بديهيًّا. غير أنه من النادر مناقشة قوة القبائلية في أمور السياسة والعَلاقات الخارجيَّة خاصة في الولايات المتحدة. ففي سعي مُحَلِلي الولايات المتحدة وصانعي القرار لتفسير السياسات الدُّوليَّة، فإنهم يُركِّزون على دور الآيدولوجيا والاقتصاد عادة ويميلون إلى اعتبار الدُّول على أنها الكيانات التنظيميَّة الأهم. بذلك يقلِّلون من أهمية الدور الذي تلعبه هُويَّة المجموعة في تشكيل السلوك البشريّ. كما أنهم يتغاضون أيضًا عن حقيقة أن الهُويَّة الأهم –في كثيرٍ من الأحيان- التي سيضحي الناس بنفسهم لأجلها ليست هُويَّة وطنية، وإنما قَبَليَّة أو دينيَّة أو عشائريَّة. لقد ساهم الفشل في فهم هذه الحقيقة في بعض من أسوأ النكبات في سياسة الولايات المتحدة الخارجيَّة في الخمسين سنة الماضية: خاصة في أفغانستان والعراق وأيضًا في فيتنام.

تُؤثِّر الغَفْلة في قوة القبائلية على رؤية الدُّول لبعضها ولعَلاقاتها الخارجيَّة. من السَّهل للناس في المجتمعات المتقدِّمة، وخاصة في المُدُن الكبرى، أن يعتقدوا أننا نعيش في عَالَمٍ قد تخطَّى القبائليَّة. يُوحي مصطلح “قَبِيلة” نفسه بشيءٍ بدائيٍّ ومتخلِّفٍ، بعيد كل البُعد عن التقدُّم في الغَرْب. حيث تخلَّى الناس عن الدوافع البدائيَّة لصالح الفردانيَّة الرأسماليَّة والمواطنة الديمقراطيَّة، لكن القبائلية ما تزال قوة فاعِلَة في كل مكانٍ، وإن كانت قد خَفَّت صوتها مؤخرًّا لصالح الديمقراطيَّة الليبراليَّة في العَالَم المتقدِّم. لفهم أعمق للعَالَم اليوم وإلى أين يتجه، علينا أن ندرس قوة القبائلية.

القبائلية غريزة أساسيَّة

إن غريزة الإنسان في أن ينتمي إلى مجموعةٍ شيءٌ ثابتٌ فيه، وقد أثبتت التجارب مرَّة بعد مرَّة أنها تظهر مبكرًا في حياة الإنسان. ففي دراسة حديثة، قام فريق من علماء النَّفس بتوزيع مجموعة من الأطفال بين عمر الرابعة والسادسة في مجموعتين زرقاء وحمراء وألبسوهم قُمصانًا بلون فريقهم. بعد ذلك أظهروا لهم صورًا لأطفالٍ يلبسون قُمصانًا زرقاء وحمراء لا يعرفون عنهم شيئًا وسألوهم عن رأيهم. ورغم أنهم لا يعرفون عن الأطفال الآخرين شيئًا، إلا أنهم أقروا بأنهم يحبون من يرتدون نفس لونهم أكثر. كذلك أظهروا تشوهات في ذاكرتهم عندما حكى المراقبون لهم قصصًا عن الأطفال في الصور، إذ تذكَّروا الأفعال الخيِّرة للأطفال الذين يلبسون لونهم نفسه، وتذكَّروا الأفعال السَّيِّئة للأطفال من اللون المختلف. خلص الباحثون إلى أن إدراك الأطفال للأطفال الآخرين في الصور كان “مشوهًا بسبب الانتماء إلى جماعة فقط”.

تؤكِّد دراسات عِلْم الأعصاب أن هُويَّة المجموعة قد تُنتج مشاعر رضا فعلية. إذ يبدو أن رؤية أعضاء المجموعة ينجحون تُنشِّط مراكز المكافأة في الدماغ حتى وإن لم يَعُد ذلك علينا بأي فائدة. كذلك فإن مراكز المكافأة في دماغنا تنشط أيضًا عندما نرى أعضاء من جماعةٍ أخرى تفشل أو تعاني، خاصة إن كانت جماعة تخشى الأخرى أو تحقد عليها، على سبيل المثال، عندما يكون هناك تاريخ طويل من المُنَافسة والكَرَاهِيَة.

إعلان

هذا هو الجانب المُظلِم من غرائزنا القبائلية. إذ تُؤدٍّي روابط المجموعة إلى رفع مستويات الأوكسيتوسن الذي يدفعنا إلى مزيد من شيطنة الآخر واعتباره غير بشريٍّ، وهو ما يخدِّر التعاطف الذي كنا سنشعر به إزاء مُعَاناة الآخر. تظهر هذه التأثيرات مبكرًا في الحياة. لندرس دراستين للأطفال العَرَب واليهود في إسرائيل. في الدراسة الأولى: طُلِبَ من الأطفال اليهود رَسْم رجل يهوديّ نموذجيّ ورجل عربيّ نموذجيّ. وَجَدَ الباحثون أنه حتى الأطفال الذين لم يدخلوا المدرسة بعد، قد رسموا العربيّ في صورةٍ سلبيَّةٍ وأكثر عُنْفًا من اليهوديّ. في الدراسة الثانية: طُلِبَ من طلَّابٍ عَرَب في مدرسة ثانوية التعليق على وفاة طفل عربيّ ووفاة طفل يهوديّ لأسبابٍ عادية كالصعق الكهربائيّ. أبدى أكثر من 60% منهم حزنًا على وفاة العربيّ، بينما لم يحزن سوى 5% منهم على وفاة الطفل اليهوديّ. كذلك أبدى 70% منهم فرحًا بموت الطفل اليهوديّ.

الهُويَّة بدلًا من الآيديولوجيا

لم يلتفت صُنَّاع القرار في الولايات المتحدة لأهمية هُويَّة الجماعة في العَلاقات الخارجيَّة إلا نادرًا. إذ عادة ما يَنظر صُنَّاع القرار الأميركيون إلى العَالَم في صورة دُول تتصارَع فيما بينها صِراعًا سياسيًّا وآيدولوجيًّا: الرأسماليَّة ضِدّ الاشتراكيَّة، الديمقراطيَّة ضِدّ الديكتاتوريَّة، “العَالَم الحُرّ” ضِدّ “محور الشَرّ”. تُساهِم هذه الرؤية في إخفاء قوة هُويَّة الجماعة البدائيَّة، وهو ما أدى إلى ارتكاب واشنطن لعِدَّة أخطاء خارجيًّا.

يمكننا القول: إن حرب فيتنام كانت الهزيمة الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة. لم يخطر ببال أحد في وقتها أن قوة عظمى قد تخسر ضِدّ ما أسماها الرئيس الأميركيّ ليندن جونسون: “دولة فلاحين تافهة”، أو لنكون أكثر دِقَة، ضِدّ نصف هذه الدَّولة. من الواضح الآن أن صُنَّاع القرار الأميركيين، ولنظرتهم إلى فيتنام عبر مُنْظَار الحرب الباردة فقط، قد أخطأوا في تقدير دافع الشعب الفييتناميّ في الشمال والجنوب ورغبتهم العارمة في الاستقلال، وليس لانتمائهم الآيديولوجيّ للماركسيَّة، ولكن حتى اليوم لا يفهم كثيرون البُعْد القَبَليّ للقوميَّة الفييتناميَّة.

نظر صانعو القرار الأميركيون إلى فيتنام الشماليَّة على أنها بَيْدَق الصين، مجرَّد ذريعة لبكين لوجودها في جنوب شرق آسيا. كان هذا خطأً فادحًا. نعم قبلت هانوي الدَّعم العسكريّ والاقتصاديّ من بكين، لكنه كان تَحالُفًا يُحقِّق المصالح المشتركة. في النهاية فقد كَرِه معظم الفيتناميين الصين وخافوا منها لأكثر من ألف عام. لقد تعلَّم كل طفلٍ فيتناميٍّ التضحيات البطوليَّة التي قدَّمها أجداده ليتحرَّروا من الصين التي غزت فيتنام في 111 ق.م واستعمرتها لألف عام. في 1997 قابل روبرت مكنمارا (وزير الدفاع الأميركيّ وقت حَرْب فيتنام) نغوين كو تاش (وزير الخارجيَّة الفيتناميّ السابق). يذكر مكنمارا أن تاش قال:

من المؤكَّد أنكم لم تقرأوا كتاب تاريخ أبدًا، لأنه إن فعلتم ستعرفون أننا لم نكن أبدًا بَيَادِق للصينيين. ألا تفهمون أننا قاتلنا الصينيين لأكثر من ألف عام؟ لقد كُنَّا نُقاتِل من أجل استقلالنا، وكُنَّا سنُقَاتِل إلى آخر رَجُلٍ فينا، ولم يكن أي قدرٍ من القصف أو الضغط الأميركيّ سيوقِّفنا عن القتال.

وبالفعل بعد سنواتٍ قليلة من انسحاب القوات الأميركيَّة من فيتنام، اندلعت الحَرْب بين فيتنام والصين.

ولأن الولايات المتحدة فشلت تمامًا في إدراك البُعَد القبائلي للصِرَاع، لم تدرك أن كل خُطْوَةٍ تأخذها الولايات المتحدة نحو الرأسماليَّة في فيتنام ساعدت في تأجيج مشاعر السُّكَّان المحليين ضِدّ الولايات المتحدة. لقد أدت سياسات الولايات المتحدة وقت الحَرْب إلى زيادة تركيز الثَّرْوة والسُّلْطة بيد الأقلية ذات العرقيَّة الصينيَّة. في حقيقة الأمر، فإن النظام الذي أقامته الولايات المتحدة في سايغون كان يطلب من الفيتناميين الجنوبيين أن يُقَاتِلوا ويموتوا –ويقتلوا إخوانهم الشماليين- للحفاظ على العرقيَّة الصينيَّة في السُّلْطة. إذا كانت الولايات المتحدة تسعى لإفشال أهدافها في فيتنام، فإنها لم تكن لتجد طريقة أفضل.

قُوَّة الباشتون

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى أفغانستان للقضاء على القاعدة ولإسقاط حكومة طالبان. نظرت الولايات المتحدة إلى الحَرْب من عدسةٍ واحدةٍ فقط، هي عدسة “الحَرْب على الإرْهَاب” مع التركيز على دور الأُصُوليَّة الإسلاميَّة، ولكنها أهملت مُجددًا الدور المحوريّ للهُويَّة العِرْقيَّة.

أفغانستان هي موطن لشبكة مُعقَّدة من المجموعات العِرْقيَّة والقبائلية بينها تاريخ طويل من المُنَافسة والكَرَاهِيَة. لأكثر من 200 عام، حكمت الباشتون، كأكبر مجموعة عِرْقيَّة، البلاد. غير أن إسقاط ملكية الباشتون في 1973، وغزو السوفييت في 1979، والحَرْب الأهليَّة التالية كلها أمور أضعفت من سَيْطرة الباشتون. في 1992، استولى على الحُكْم تحالُف من عِرْق الطاجيك والأوزبك.

بعد سنواتٍ قليلة، ظهرت طالبان ضِدّ الوضع القائم. لم تكن طالبان حركة إسلاميَّة فقط، وإنما حركة عِرْقيَّة أيضًا. لقد نشأت الجماعة استجابة لتهديد سَيْطرة الباشتون.

لم يول الاستراتيجيون الأمريكيون وصانعو القرار أي أهمية إلى هذه الحقائق العِرْقيَّة. عندما وقع الغزو الأميركيّ في أكتوبر 2001 وسقطت طالبان في 75 يومًا فقط. كانت الولايات المتحدة جنبًا إلى جنب مع التحالُف الشماليّ الذي يقوده أُمراء الحَرْب الطاجيك والأوزبك المُعادون للباشتون. بعد ذلك أقامت الولايات المتحدة حكومة اعتبرها الباشتون أنها تُهمِّشهم. وعلى الرَّغم من أن حامد كرزاي الذي اختارته واشنطن على رأس حكومة أفغانستان كان من الباشتون، إلا أن الطاجيك قادوا معظم الوزارات المهمة في الحكومة. كذلك دعَّمت الولايات المتحدة الجيش الأفغانيّ الذي كان 70% من قادته من الطاجيك رغم أنهم يشكِّلون 27% فقط من الأفغان. ومع تنامي ثَرَوات الطاجيك مع ضربات الولايات المتحدة الجويَّة على مناطق الباشتون، انتشرت مقولة بين الأفغان الباشتون عن الطاجيك: “لهم الدولار، ولنا الرصاص”. لذا وعلى الرَّغم من كراهية كثير من الباشتون لطالبان، إلا أنهم لن يدعِّموا حكومة تقودها عِرْقيَّة مُنَافِسَة لهم.

يُدْرِك عديد من الأكاديميون والسياسيون اليوم التعقيدات العِرْقيَّة لأفغانستان، لكنه إدراك متأخِّر بمحورية هُويَّة المجموعة، لذا فلم يُحقِّق نتيجة مرجوة منه.

لأن الأشْيَاء تَحْدُث

كذلك أدى سوء تقدير التأثير السياسيّ لهُويَّة المجموعة إلى إفشال حَرْب الولايات المتحدة في العراق. لم ينجح مخططو وداعمو غزو العراق في 2003 في رؤية عُمْق الانقسامات بين العراقيين السُّنة والشِّيعة والكُرْد، وكذلك محورية الانتماءات القِبَليَّة والعشائريَّة في المجتمع العراقيّ. كما فاتهم أيضًا شيء أكثر دِقَة: وجود أقليَّة مُتحكِّمة في السُّوق.

لقد سيطر السُّنة على العراق لقرونٍ، أولًا تحت الحُكْم العُثمانيّ، ثُمَّ تحت حُكْم بريطانيا التي حكمت حكمًا غير مباشرٍ عبر القادة السُّنة، ثُمَّ تحت حُكْم صدام حسين. لقد آثر صدام السُّنة خاصة المنتمين إلى عشيرته، واضطهد بشدة الشِّيعة والكُرْد. قبل غزو العراق، سيطر السُّنة العَرَب الذين شكَّلوا 15% من العراقيين على الدَّولة اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا. على النقيض، شكَّل الشِّيعة الغالبية العظمى من فقراء الدَّولة وساكني عشوائيَّاتها.

في ذلك الوقت، حذَّر كثيرون أنه، وفي هذه الظروف، سيؤدي التحوُّل السريع إلى الديمقراطيَّة إلى زعزعة الاستقرار في العراق. حذَّر كثيرون أن الانتخابات في 2003 لن تقود إلى عراق موحَّدة، وإنما حكومة شِيعيَّة تسعى للانتقام من السُّنة، وهو ما سيقود إلى صعود مشاعر الكَرَاهِيَة لأميريكا وظهور الحركات الأُصُوليَّة. للأسف فقد حَدَثَ ما حذَّروا منه تمامًا: فبدلًا من تحقيق السَّلام والازدهار في العراق، أدت الديمقراطيَّة إلى حَرْبٍ عشائريَّة أدت في النهاية إلى ظهور ما يُسمَّى بالدولة الإسلاميَّة، وهي حركة سُنيَّة إسلاميَّة تهدف إلى قتل الشِّيعة “المُرْتدين” وإلى قتل الغربيين “الكُفَّار”.

لقد غَادَرنا الغَابَة بالكَاد

يخبرنا علم النفس التطوري أننا حيواناتٌ تفاعُليَّة ضمن الرئيسيَّات، لا يُميِّزها عن غيرها الكثير، وأنه لا سيارة فارهة ولا أي قدرٍ من التقدُّم التقنيّ بمقدوره تغيير هذه الحقيقة. ربما تغيَّرنا كثيرًا منذ أن غادرنا الكَهْف وهبطنا من الأشجار. وربما تكون الحياة المدنيَّة الحديثة قد ألبستنا قناعًا يوحي بالتعامل المدنيّ العقلانيّ الراقي، ولكنه ما إن تسوء الأمور حتى تسقط الأقنعة ونعود كما نحن -وليس كما كُنَّا- حيوانات تفاعُليَّة تنتمي إلى قبيلتها وتحتمي بها. فَهْم هذه النقطة قد يُفسِّر الكثير من السياسات الخارجيَّة لدُوُلٍ كبرى.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله عرفة

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا