حرب بوتين على التاريخ: صراع الألف عام على أوكرانيا

في مساء 21 فبراير 2022 وقبل ثلاثة أيام من بدء القوات الروسية أكبر غزو أرضي على القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابًا تلفزيونيًا غاضبًا أظهر فيه استياءه من توسع الناتو شرقا، ومن الاعتداء الأوكراني المزعوم، ومن وجود الصواريخ الغربية على حدود روسيا. ولكن معظم سبابه انهال على شيء آخر: التاريخ الأوكراني. أشار بوتين إلى أن “أوكرانيا ليست دولة مجاورة لنا فحسب، وإنما جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وامتدادنا الروحاني”. أكد بوتين كذلك على أن حدود أوكرانيا لا معنى لها سوى تقسيمات إدارية سابقة للاتحاد السوفيتي: “لقد استحدثت روسيا أوكرانيا الحديثة بكاملها”.

بدت الادعاءات الروسية غريبة الوقع على الآذان الغربية، لكن الغرب لم يلقِ لها بالا إذ لم تكن بدعة جديدة للأزمة الحالية، وإنما أصبح ادعاء بوتين بأن أوكرانيا كانت جزءًا لا يتجزأ من روسيا علامة مميزة لرؤية بوتين للعالم. شهدت انتفاضة مايدن الشهيرة في كييف في 2013-2014 ادعاء بوتين بأن قادة تلك الانتفاضات فاشيون مدعومون من الغرب في محاولة لنزع أوكرانيا من جذورها التاريخية. (في واقع الأمر، فقد فاجأت الانتفاضات الغرب، وعلى الرغم من وجود هامشي لليمين المتطرف، إلا أنه لم يكن هناك فاشية).

شهد يوليو 2021، قبل حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية بكثير، نشر الكرملين لمقالة من 7000 كلمة بقلم بوتين نفسه تحت عنوان “عن الوحدة التاريخية للروس والأوكران”. تؤكد المقالة على أن كلا من الروس والأوكران لا تجمعهم اللغة والدين فحسب، وإنما يجمعهم مصير تاريخي مشترك. أصبحت المقالة منذ نشرها جزءًا من المنهج لكل القوات المسلحة الروسية بما في ذلك الجزء الذي يقاتل في أوكرانيا الآن. يرى بوتين أن كل التقسيمات بين روسيا وأوكرانيا هي أعمال القوى الغربية. من بولندا في القرن السادس عشر إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية في القرن التاسع عشر إلى ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، كلهم أرغموا أوكرانيا أو أضلوها الطريق. طبقا لهذه النظرة، فإن نظرة أوكرانيا الموالية للغرب في العقد الماضي هي آخر صور هذه التدخلات الخارجية –على يد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هذه المرة- بهدف تقسيم روسيا ضد نفسها. كتب بوتين أن “التغيير الجبري لهوية أوكرانيا شبيه باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضدنا”. “نا” في قصد بوتين في كلمة “ضدنا” تشمل الروس والأوكران معا. بعبارة أخرى فإن أوكرانيا والأوكران ليسوا مجرد جزء طبيعي من روسيا، وإنما لا وجود لهم أصلا.

يظهر نوع آخر لكون أوكرانيا غير موجودة في توكيد الكرملين على أن أوكرانيا فشل محتوم. يشير هذا الرأي إلى أن أوكرانيا وبسبب جغرافيتها وتاريخها السياسي ستمزقها الانقسامات الداخلية دائما أو سيمزقها جيران أقوى. مثّل ذلك السرد جزءًا محوريا من دعاية بوتين في آخر مرة غزا فيها أوكرانيا، عندما اقتطع القرم ودونباس بعد انتفاضة مايدن في كييف. بعدها انبرت وسائل الإعلام الروسية مؤكدة على أن أوكرانيا دولة فاشلة سيطرت عليها عصابات النازيين الجدد وأن القوات الروسية هرعت لمساعدتها. كرر مستشار بوتين المقرب فلاديسلاف سوركوف هذا السرد مشبها أوكرانيا “بالأنسجة الرخوة” بين عظمتين والتي إن مُزقت ستسبب آلاما حادة. كان سوركوف أكثر وضوحا مع الصحفيين الروسيين قائلا “تكمن الطريقة الوحيدة التي أثبتت فاعليتها في أوكرانيا في إجبارها على علاقة أخوية”.

غير أن الوحدة والمرونة الاستثنائية التي أظهرها الأوكران في الحرب الحالية أظهرت أن هذه الادعاءات الروسية محض هراء. يشبه القول بأن أوكرانيا لا وجود لها في سخافته القول بأن أيرلندا لا وجود لها لأنها ظلت طويلا تحت الحكم البريطاني، أو أن النرويجيين هم مجرد سويديين. وعلى الرغم بأن الأوكرانيين حصلوا على استقلالهم قبل 31 عامًا فقط، إلا أنهم يتمتعون بتاريخ وطني طويل يعود إلى قرون مضت. كذلك فإن الادعاء بأن الأوكرانيين أضعف من أن يدافعوا عن أنفسهم هو ادعاء أبطلوه تماما في ميدان المعركة في هذه الحرب. كذلك يُكذّب ادعاء النازيين الجدد أن الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زلنسكي يهودي، وأن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2019 شهدت فوز حزب سفوبودا اليمين المتطرف بأقل من 3% من الأصوات. ومع انحراف أوكرانيا في مخيلة بوتين بعيدًا عن أوكرانيا الواقع، أصبح من الصعب الدفاع عن هذه الكذبة. ولكن بدلا من تعديل مخيلته لتطابق الحقيقة، لجأ بوتين إلى القوة العسكرية والرقابة الاستبدادية في محاولة عبثية لتقريب الحقيقة من الكذبة. ربما تعلم بوتين الآن أنه من الصعب مجابهة الحقيقة: فكلفة التاريخ السيء كوارث في الحاضر.

إعلان

تجميع روسيا

يرى بوتين أن الغرب ولقرون

يسحب أوكرانيا بعيدًا عن روسيا

يمكن تتبع هاجس بوتين بتاريخ أوكرانيا إلى فاجعة انهيار الاتحاد السوفيتي. فحتى عام 1991 كان معظم أوكرانيا الحالية تحت الحكم الروسي لأكثر من 300 عام، أي أكثر بقليل مما حكمت إنجلترا اسكتلندا. وبعدد سكان يساوي عدد سكان إسبانيا اليوم، كانت أوكرانيا أهم الدول السوفيتية -بجانب روسيا- بلا منافس. أو كما أشار بريزيزينسكي (المستشار الأمريكي السابق لشؤون الأمن القومي) بأنه “بدون أوكرانيا لا تصبح روسيا إمبراطورية”. هذا ليس صحيحًا تماما إذ إن روسيا اليوم إمبراطورية متعددة الإثنيات، تشغل 3000 ميل من شمال آسيا وتشمل أكثر من دستة من الشعوب الآسيوية، من 5.3 مليون من التتار على نهر فولغا إلى عدة آلاف من التشوكشي عند مضيق بيرنغ. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، فقدت موسكو غربها.

يرى بوتين أن الإمبراطورية الروسية الأوروبية مهمة للغاية. فعلى الرغم من المسحة الغريبة لرؤية روسيا لنفسها، إلا أن روسيا دائما ما اعتبرت نفسها قوة أوروبية لا آسيوية. كان لمؤلفيها العظام وكتابها وفنانيها ميل أوروبي، كما جعلتها انتصاراتها العسكرية التاريخية (ضد نابليون وهتلر) لاعبا محوريا بين “الأمم الأوروبية”. لذا فإن دفع روسيا بعيدًا إلى غابات الصنوبر القاتمة، بعيدًا عن الأماكن القديمة ذات الوقع على الأذن كأوديسا وسفاستوبول، فإن خسارة أوكرانيا مثلت جرحا غائرًا في الهوية الروسية.

إذا ففي قلب الأزمة الروسية الأوكرانية حرب على التاريخ. المعركة الأولى على متى بدأت القصة. تقليديًا بدأت القصة بالقائد الأسطوري القروسطي فولوديمير العظيم الذي كان من نسل الغزاة والتجار الشماليين من سكندنافيا، والذي أسس أول شبه دولة في كييف في نهاية القرن العاشر: إقطاعية كبيرة اسمها روس مرتكزة حول كييف وتغطي بيلاروس الحالية وشمال غرب روسيا ومعظم أوكرانيا. منح فولوديمير روس أسسها الروحانية كذلك بأن حول ديانة مملكته إلى المسيحية الأورثوذكسية.

على الرغم من اتفاق الروسيين والأوكران على أهمية فولوديمير، إلا أنهم يختلفون فيما حدث بعد انهيار مملكته، ففي القرنين الحادي العشر والثاني عشر انقسمت مملكته إلى ممالك صغيرة متحاربة، وفي القرن الثالث عشر اجتاحهم المغول بقيادة باتو خان. يرى الروس بأن السكان -ومعهم هوية روس الحقيقية- هربوا من العنف ناحية الشمال الشرقي إلى موسكو ونوفغورود. بينما يرى الأوكران بأن ثقافة روس ظلت متركزة على أوكرانيا وأن ما نشأ في موسكو كان هوية جديدة منفصلة. يرى القراء الغربيون بأن القضية تافهة: كما لو اختلف الألمان والفرنسيون حول ما إذا كان شارلمان (مؤسس الإمبراطورية الكارولنجية في القرن التاسع) ينتمي إلى فرنسا أم ألمانيا. إلا أن الأوكران يعون جيدًا أهمية الادعاء الروسي.

في واقع الأمر فإن أوكرانيا ولسبعة قرون بعد حكم فولوديمير ظلت خارج حكم موسكو. فمع ضعف حكم المغول في القرن الثالث عشر، امتُصت أراضي أوكرانيا الحديثة داخل دوقية ليتوانيا العظمى الناشئة والتي اتحدت مع بولندا بالزواج، لذا فقد حُكمت أوكرانيا لقرنين ونصف القرن من كراكوف. في النهاية صُبغت حتى الديانة الأوكرانية بصبغة غربية، إذ أدى الاتحاد بين بريست وليتوفسك في 1596 إلى نشأة الكنيسة الكاثوليكية اليونانية كتسوية بين البولنديين الكاثوليك والأوكران الأورثوذكسيين الذين اعترفوا بالبابا لكنهم احتفظوا بشعائرهم الأورثوذكسية وسمحوا للقساوسة بالزواج. سمحت هذه التسوية بين الديانتين إلى صبغ الأوكرانيين بصبغة بولندية، وهي جزء مما يسميه بوتين النمط الغربي لسحب أوكرانيا بعيدًا عن وطنها الأورثوذكسي.

لم تدخل موسكو الصورة بالعنف إلا في نهاية القرن السابع عشر. فقدت أدت سلسلة من ثورات الكوزاك الأوكرانيين (مجموعة مسلحة متركزة حول أعلى نهر دنيبر) إلى إضعاف المملكة اللتوانية البولندية، وبعد حرب طويلة مع بولندا نجحت موسكوفي في ضم كييف في 1686. اعتبر الأوكرانيون الموقف أنهم خرجوا من حفرة ليسقطوا في بئر، فقد تبع الحكم البولندي حكم موسكوفي بديل أشد قسوة. ولكن بوتين يرى هذه اللحظة بداية “لتجميع العالم الروسي” مستخدمًا هذه العبارة العتيقة التي أحياها من جديد ليبرر حربه على أوكرانيا اليوم. بعد قرن قسّمت بولندا نفسها بين النمسا وبروسيا وروسيا، لتستولي روسيا على بيلاروسيا الحالية ووسط أوكرانيا متضمنة كييف، وتستولي النمسا على غرب أوكرانيا متضمنة لفيف.

دولة الكفاح

بدأت الحركة الوطنية الأوكرانية الحديثة في 1840 والتي قادها الكاتب الأوكراني الكبير تاراس شيفشنكو الذي حث الأوكرانيين على التخلص من العبودية الروسية وشجب الأوكرانيين الذي اعتبروا أنفسهم روسيين من أجل تسلق السلم الاجتماعي الاقتصادي. أدت آراؤه هذه إلى قضائه عشر سنوات في سيبيريا. أصبح الحكم القيصري أكثر قمعا خاصة بعد اغتيال الفوضويون للقيصر ألكسندر الثاني في 1881. تبع مئات الأوكرانيين الشيوعيين شيفشنكو إلى سيبيريا، كما حُظر التعليم والكتابة باللغة الأوكرانية.

في هذه اللحظة تحول انقسام أوكرانيا شرقا وغربا إلى ميزة (للأوكرانيين في الغرب على الأقل) لأنه في الغرب الذي تحكمه النمسا تمكن الأوكرانيون من التمتع بثقافة أكثر حرية بدأت تتشكل في أوروبا، فنشروا صحيفتهم الخاصة في لفيف وأسسوا منظمات واتحادات وأندية رياضية. وعلى الرغم من حرمانهم من حق التصويت، إلا أنهم أسسوا حزبهم السياسي وأرسلوا ممثلين إلى مجلس مقاطعة لفيف.

حظيت أوكرانيا على سمعتها بأنها أرض ملعونة بجغرافيتها السياسية في النصف الأول من القرن العشرين. فعندما انهار النظام القيصري فجأة في 1917، أعلن البرلمان الأوكراني حكومته في كييف، ولكنها سُحقت بعد أشهر قليلة على يد ميليشيا البلاشفة ثم على يد الجيش الألماني الذي احتل أوكرانيا بموجب معاهدة برست ليتوفسك في مارس 1918. بعدها انسحب الجيش الألماني بعد وقف إطلاق النار في نوفمبر مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تاركا الجيش الأحمر والجيش الأبيض الروسي الرجعي والجيش البولندي والجيش الأوكراني لملء الفراغ. في الحرب الأهلية التالية كان اليهود أكثر المتضررين إذ ضحى بهم الجميع ليُقتل منهم 100000 في 1919 في سلسلة من المذابح غير المسبوقة منذ القرن السابع عشر. عقد الروس والبولنديون معاهدة جديدة لتقسيم أوكرانيا استولت فيها روسيا على الشرق والوسط، واستولى البولنديون على الغرب، بينما انضمت بوكوفينا وترانسكارباثيا إلى دولتي رومانيا وتشيكوسلوفاكيا المستقلتين حديثا.

نحو الغرب أو نحو الخلف

مثّل مسار أوكرانيا السياسي في ثلاثة عقود منذ الاستقلال كل مخاوف روسيا. في البداية بدا أن روسيا وأوكرانيا يسيران في مسارين متوازيين في فترة ما بعد الحرب الباردة. كانت الدولتان تعانيان من أزمات اقتصادية شديدة مع بعض الحريات السياسية، كما لم تهتم أي منهما بالماضي. ففي أوكرانيا لم يهتم أحد بإسقاط تمثال لنن أو إلغاء اسمه من الشوارع، كما بدا أن الطبقة الحاكمة في روسيا مهتمة فقط بجني الأموال بدلا من بناء الإمبراطوريات. كان منطقيا أن نتوقع نمو الدولتين في مسارين مختلفين: ككندا والولايات المتحدة أو النمسا وألمانيا.

استمر هذا الوهم السعيد لسنوات قليلة، إذ ظهرت لحظتان فارقتان في تاريخ أوكرانيا بعد الاستقلال وكلاهما من الكرملين. شهد عام 2004 محاولة بوتين وضع السياسي الموالي له من دونيتسك فكتور يانكوفيتش على رأس دولة أوكرانيا، وهو ما دفعه لتسميم منافسه المائل إلى أوروبا فكتور يوششنكو. إلا أنه بعد نجاته من الحادثة، تعرضت الانتخابات لتزوير فج ما دفع الشعب للتجمع في الشوارع والبقاء فيها حتى صدر قرار بإعادة الانتخابات، وفيها فاز يوششنكو. يرى بوتين أن الاحتجاجات المعروفة باسم الثورة البرتقالية كانت مؤامرة من الغرب.

شهد عام 2010 انتصار يانكوفيتش أخيرًا بعدما انقسم الموالون للغرب، واستغل السنوات الأربع التالية في نهب أموال أوكرانيا، ولكنه خطا خطوة زائدة غير محسوبة في نوفمبر 2013. فبينما كانت أوكرانيا على وشك الانتهاء من صفقة تجارية انتظرتها طويلا مع الاتحاد الأوروبي، ألغاها فجأة وأعلن –تحت ضغط من بوتين- إبرام صفقة أخرى مع روسيا بدلا منها. بالنسبة للأوكرانيين ولبوتين، لم يكن الأمر مرتبطا بالخيار الاقتصادي الأفضل وإنما بهوية أوكرانيا نفسها: بدلا من الميل غربا وربما في يوم ما الانضمام للاتحاد الأوروبي، كان لا بد من إجبار أوكرانيا على العودة في مدارها حول روسيا. انطلقت الحشود الغاضبة إلى ميدان مايدن في وسط كييف واستمروا هناك في احتجاجات دائمة. في يناير 2014 اصطدمت بهم قوات الشرطة لتخلف حصيلة 94 قتيلا و17 شرطيا. وعندما رفض المحتجون المغادرة، هرب يانكوفيتش إلى موسكو لتظهر محتويات قصره بالغة الثراء وتُعرض في متحف أوكرانيا للفنون. في الفراغ الذي خلفه يانكوفيتش، أعلن بوتين غزو القرم ثم –عبر عصابات موالية- المدن الحدودية الشرقية ونتسك ولوهانسك.

أسعدت الأراضي الجديدة الروس، ولكن إن كانت رغبة بوتين جذب الأوكرانيين نحوه فإن فعتله أدت إلى النقيض. أدت انتخابات رئاسية جديدة إلى فوز بترو بوروشنكو الذي يميل إلى أوروبا. تصاعدت المطالب بين الأوكران للانضمام إلى الناتو وفي يونيو 2014 وقعت أوكرانيا اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي. كان الشيء الأكثر رمزية –ولبوتين الأكثر مكرًا- منح الاتحاد الأوروبي في 2017 بزفي وهي سماح بالسفر لتسعين يومًا في منطقة الشنغن دون فيزا. على الروسيين طلب فيزا مسبقا وهي عملية مكلفة ومتعبة. استحال التباين مزعجا: لم يتخلى الأخ الأصغر عن أخيه الأكبر فحسب، بل صار بإمكانه السفر أفضل كذلك.

عظام الروس في أرض الأوكران

لا يخفى على أحد وضع أوكرانيا السيء قبل الغزو حيث يتحكم الأوليغارك المشبوهون من خلف الستار، كما تعاني الدولة من فساد شديد (يضع مؤشر الشفافية العالمي لمقياس الفساد في 2021 أوكرانيا بجانب المكسيك وزامبيا في الفساد ولكن أقل فسادًا بقليل من روسيا). ولكن على الرغم من كل مشاكل أوكرانيا، إلا أنه ومنذ استقلالها تمتعت الدولة بتغيير حقيقي في السلطة من خلال انتخابات حقيقية بين مرشحين حقيقيين يظهرون على وسائل إعلام حرة. لذا فإن نموذج أوكرانيا هو تهديد سياسي مباشر فماذا إذا بدأ الروس المطالبة بنفس الحريات؟ ففي مقالة “الوحدة التاريخية” يشرح بوتين أن الرؤساء الأوكران يتغيرون بموجب “نظام” وضعته “القوى الغربية المعادية للمشروع الروسي”، كما يوضح أن “الأوكران المؤيدين لروسيا” ليسوا ظاهرين لأنهم “مسجونون تحت الأرض” و”يتعرضون للاضطهاد لآرائهم” أو حتى “يُقتلون”. ليس من الواضح ما إذا كان بوتين يؤمن بذلك فعلا، لكن ذلك قد يفسر بعض التكتيكات العاجلة التي قام بها الجيش الروسي في أول أسبوع من حربه على أوكرانيا. يبدو أن بوتين اعتقد فعلا أن كتائب الدبابات الروسية ستلقى ترحيبًا كقوات تحرير.

كما حدث أثناء الثورة البرتقالية 2004 وفي انتفاضات مايدن 2013-2014 التي عُرفت لاحقا بانتفاضة الكرامة، فإن دفاع أوكرانيا المستميت اليوم هو دفاع عن القيم، لا عن هوية عرقية أو عن ماض مجيد سابق. في المقابل فإن هوس بوتين بالتاريخ هو ضعف في الحقيقة. فعلى الرغم من تكريره المستمر لعبارة “تجميع روسيا” في بداية رئاسته قد أكسبه شعبية، إلا أنه قد قاده اليوم إلى ما يمكن أن يكون نهايته المميتة. فمن منظور المساحة فقط، فإن أوكرانيا ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا نفسها، لذا فإن احتلالها باستمرار سيكون ذا تكلفة هائلة في المال والمعدات والقوات. كذلك فقد وحدت حرب بوتين الأوكران كما لم يتوحدوا من قبل، وسواء كانوا يتحدثون الروسية أو الأوكرانية، فإن مشاعرهم واحدة. ظهرت مقاطع مصورة بالفعل لجدات أوكرانيات  تخبر الجنود الروس أنهم سيتركون عظامهم في الأراضي الأوكرانية، ولجنود أوكران يهتفون مطلقين الصواريخ على الدبابات الروسية بلغة روسية فصيحة. ستستمر الحرب غالبا لفترة طويلة، كما أن نتيجتها النهائية غير معروفة. ربما تعلم بوتين أن التاريخ يكون معلمًا فقط عندما يكون تاريخًا حقيقيًا.

إعلان

اترك تعليقا