تفسير الأحلام وبيع الأوهام
تاة مخطوبة، وقبل الزفاف بيومين رأت في المنام سلة بيض فاسد، ففسر الشيوخ لها أن هذه رؤيا من الله لوقف هذه الزيجة!
ولا يخفى عليك شيوع ثقافة تفسير الأحلام، واعتبارها رسائل إلهية، والاعتماد عليها لاتخاذ قرارات مهمة كالزواج والسفر والتجارة!
وبعض المنتسبين للصوفية يعتبرون الرؤى كشفًا إلهيًا، حتى إن بعضهم يلتقون في منامهم بالله أو النبي أو شيخ ليسألهوهم عن مسائل ويعتبرون أجوبتهم كشوفات، ويلتقون بالنبي ليسألوه عن صحة أحاديث منسوبة إليه!
علميًا ..
تمر عملية النوم بعدة مراحل: تبدأ بالنوم السطحي والبطيء، ثم النوم العميق، ثم مرحلة “حركة العين السريعة” REM: Rapid Eye Movement التي تمتاز بازدياد نشاط المخ من حيث وظائف الذاكرة، بينما يقل نشاط المناطق المسئولة عن التفكير المنطقي. لذلك يتذكر النائم تفاصيل كثيرة وصغيرة ونادرة بوضوح، لكن لا تترابط بصورة منطقية ومألوفة.
وتتفاوت إجابات العلماء حول تفسير الأحلام:
1. فرضية الرغبات المكبوتة:
أشهر التفسيرات هو تفسير (سيجموند فرويد)؛ إذ يرى أن الأحلام تعبِّر عن دوافع مكبوته في اللاوعي، وتظهر في الحلم تحديدًا إذ يغيب أي رقيب، وتظهر رغبات المرء الحقيقية الدفينة التي ربما هو نفسه لا يعلمها(1).
وهو ما يحدث أحيانًا إذ يرى النائم شخصية عامة يحبها، أو يرى مُتوفَّى من العائلة، أو يحقق رغبة جنسية. لكن ينقد ذلك أن بعض الأحلام تكون مفزعة ومرعبة.
2. فرضية محاكاة الخطر:
يرى عالم الأعصاب الفنلندي (آنتي ريفونسو) أن أغلب الأحلام مرعبة ومقلقة، وهو ما يدعم المعتقد السائد بأن الأحلام تساعدنا على التخلص من مخاوفنا، كأن الأحلام عالم مفترض نتدرب فيه لنزداد صلابة في العالم الحقيقي.
وفي عام 2014، أجرت أخصائية الأمراض العصبية (إيزابيل آرنولف) بحثًا في جامعة السوربون حول الأحلام التي تراود الطلاب، ليتضح أن نحو ثلاثة أرباع هؤلاء الطلاب، البالغ عددهم 719، حلموا بخوضهم اختبارًا مرة واحدة على الأقل، وتضمنت أحلامهم العجز عن حل بعض المسائل أو عدم تمكنهم من الوصول إلى مركز الامتحان(2).
3. فرضية تنظيم الذكريات:
يقول (فرانسيس بيكون): “من طبيعة العقل البشري أنه يميل إلى افتراض نظام في العالم أكثر من الموجود فيه. ورغم وجود أشياء فريدة في نوعها وعديمة النظير فإن الذهن البشري يخترع لها أشباهًا وصِلات لا وجود لها”(3).
هذه الطبيعة العقلية تزداد قوة في النوم؛ إذ يحاول المخ تصنيف وتنسيق ذكرياته، فيبني نماذج مستقة تجمع كل هذه الذكريات.
فأحيانًا نرى تجميعة من الذكريات المتباعدة تمامًا في حلم واحد، فترى مثلًا مديرك الظالم يتعدى على أخيك الصغير، وينقذه بطل الفيلم الذي رأيته قبل النوم! العقل هنا حاول الجمع بين ظلم المدير، وسذاجة أخيك، وبطولة الفنان، فبنى هذه الحبكة.
وأحيانًا قد يجمع المخ في الحلم كل المعلومات التي تخص قضية تشغل النائم ويبني نموذجًا متسقًا، فيلهمه بحل لمشكلته.
فقد توصَّل (فريدريك كوكول) إلى البنية الكيميائية للبنزين في الحلم، وقد ساعد الحلم عالم الرياضيات (دون نيومان) في حل مسألة رياضية تؤرقه، وقد رأى (مندليف) ترتيب الجدول الدوري في الحلم(4).
وقد قام مجموعة من الباحثين في جامعة هارفارد عام 2015 بتجربة؛ إذ قدَّموا للمشاركين صورًا معقدة تعبِّر عن سقوط المطر وصورًا أخرى تعبِّر عن سطوع الشمس، وطلبوا من المشاركين توقع الطقس الذي يتسق مع الصور.
وكانت النتيجة: إن المجموعة التي نامت ورأت حلمًا استطاعت توقع الطقس المناسب للصور بشكل أفضل من المجموعة التي لم تنم ولم تحلم(5).
وهذا يثبت أن الأحلام تساعدنا على تكوين نماذج متسقة من الذكريات المحفوظة.
وهذا يفسر لماذا قد يرى البعض أحلامًا وتحدث في الحقيقة؛ لأن النموذج والحبكة التي بناها المخ في الحلم هي إحدى الاحتمالات الممكن حدوثها في الواقع، بل قل: هي إحدى الاحتمالات المتسقة التي يمكن أن تحدث، لذلك قد يحدث هذا الاحتمال في الواقع.
4. المؤثرات الخارجية:
بعض الأحلام لا تكتفي بالذكريات المخزنة في المخ، بل تتأثر بالمؤثرات الحسية الخارجية التي تؤثر على النائم، فيتداخل الواقع مع الحلم(6). فمثلًا حين ينام رجل يشعر بالبرد في الشتاء، فيرى أنه يسير تحت المطر. أو حين ينام رجل عطشان فيحلم بالماء. لذلك يقول المثل الشعبي: “الجعان يحلم بسوق العيش”.
ومن أوائل القائلين بهذه الفرضية: ابن سينا، فيقول: إن بعض الأحلام تحدث نتيجة تأثير بعض المؤثرات الحسيه التي تمس النائم سواء كانت من داخل البدن أو من خارجه. وقد أُجريت تجارب تثبت تأثر الحلم بالمؤثرات الخارجية، منها ملامسة ظهر اليد لمجموعة من النائمين بقطعة قطن، فحلم بعضهم أن بقرة تلحس يده، وحلم آخرون بكلب يلحس يده، وآخرون حلم بأن حبيبًا يمسك بيده.
وهذا يفسر أن الأحلام قد ترشدنا لمرض يعاني منه النائم؛ إذ تظهر أحد الأعراض على الجسم أثناء النوم، فيتأثر به المخ في الحلم.
شرعًا ..
قال النبي: “الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله”(7).
وقال: “الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان”(8).
إذن فالوحي يفرق بين نوعين مما يراهم النائم:
1. الحلم: وهو حديث النفس، والشائع والمعتاد، وهو ما ينشغل العلم بتفسيره كما رأينا.
2. الرؤيا: وهي حالة استثنائية وخاصة، فهو إلهام من الله يقذفه في عقل امرء في منامه.
وأمثلة الرؤى:
رؤيا إبراهيم بقتل ابنه:
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
هذه الرؤيا هي رسالة من الله تحمل أمرًا إلهيًا لنبي الله إبراهيم، وهي صورة من صور تبليغ الوحي للنبي.
رؤيا يوسف:
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
هذه الرؤيا هي نبوءة من الله، ألهم بها نبي الله يوسف، ليخبره أنه اصطفاه ليكون نبيًا، وألهم تأويل الرؤيا لنبي الله يعقوب، وقد تحققت النبوءة بالفعل.
رؤيا فتيان السجن
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
احتاج يوسف إلى معجزة لإثبات نبوته أمام فتيا السجن، فكانت معجزته هي إنبائهما بالغيب، فأخبرهما بالطعام قبل أن يأتيهما، وأراهما الله رؤيا في المنام، وأنبأهما يوسف بتفسيرها وما يحدث لهما في المستقبل. وسياق الآيات يؤكد أن تفسير يوسف للرؤيا كان ضمن إبلاغهما بالرسالة. كما أكد يوسف أن هذا التأويل جاءه عبر وحي إلهي، (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
رؤيا فرعون يوسف
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ..
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
هذه الرؤيا قذفها الله في عقل الفرعون، وألهم يوسف تأويل الرؤيا، وهذا بغرض إخراج يوسف من السجن وتمكينه من الحكم.
ولاحظ أن مجرد رؤيا الفرعون غير كافية للتفسير، لذلك امتنع الجميع عن تفسيرها، وفسرها يوسف اعتمادًا على وحي إلهي.
يقول محمد رشيد رضا: “هذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله، لا مقابل له في رؤيا الملك، ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل”(9).
رؤى النبي
قالت عائشة: “كان أول ما بُدِئَ به رسول الله الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح”(10).
كانت رؤى النبي هي إحدى الطرق لتبليغه بالوحي.
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).
كانت هذه الرؤيا هي إنباء النبي بالمستقبل لتكون معجزة لقومه لإثبات نبوته.
من كل ذلك نستخلص أنه يوجد بالفعل رؤى من الله يقذفها في عقل النائم، وهي حق وصدق، وتحمل بشرى من الله، أو نبوءة تتحقق في المستقبل، أو أمرًا إلهيًا. وقد يبعثها الله للمؤمن أو الكافر ويلهم النبي تفسيرها.
كيف نميز الرؤيا عن الحلم؟ ومن يفسر الرؤيا؟
الرؤيا هي رسالة إلهية موجهة إلى رسل الله، إما يرسلها الله لرسله مباشرةً، أو يرسلها لأحد، ويلهم النبي بتفسيرها.
وبالتالي فالرؤيا في النهاية هي وحي من الله يخاطب أنبيائه، ولا يملك القدرة على تمييز الرؤيا عن الحلم إلا نبي، ولا يستطيع تفسير الرؤيا يقينًا إلا نبي.
ومما يؤكد ذلك:
– لا يوجد أي معيار للتمييز بين الرؤيا والحلم. والأصل أن ما يراه النائم هو حلم، أما ادعاء أنه رؤيا من الله فهو ادعاء يحتاج إلى دليل من نبي.
– حتى إن ثبت أن ما رآه النائم رؤيا من الله، فلا يوجد أي قواعد لتأويل الرؤيا. وكل تفسيرات الأحلام لا تتجاوز الانطباعات الشخصية!
كما أن دلالات الرموز تختلف باختلاف الثقافات والأزمنة، مثلًا البيت بالطوب اللَّبِن في إحدى الثقافات يعبِّر عن بيوت السكن، وفي ثقافات وأزمنة أخرى يعبِّر عن القبور.
لذلك إن عرضتَ حلمًا واحدًا على عشر مفسرين ستجد عشر تأويلات، ولا يمكن أن يرسل الله رسائله ويتركها لهذا العبث والتفاوت في التفسير!
وأحد أشهر مفسري الأحلام قد أتاه رجلان كلاها يقول أنه رأى في المنام أنه يؤذِّن. فقال للأول: أنت تحج، وقال للآخر: أنت تسرق فتُقطع يدك!
فقيل له: كيف ذلك؟ قال: رأيت على الأول علامات الصلاح، فأولت قول الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا)، فهذا يحج، ورأيت على الثاني علامات الخبث، فأولت قوله تعالى: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). وهو كما ترى لصق لأي آية جوار أي رمز بناءً على الانطباعات الشخصية!
وقد دخل شريك بن عبد الله القاضي على المهدي، فقال المهدي: اعطوني سيفًا، فقد رأيتُ في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت مُعرِضٌ عني، فقصصتُ رؤياي على من عبَّرها، فقال لي: يُظهِر لك طاعة ويُضمِر معصية.
فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم، ولا أن معبِّرك بيوسف الصديق، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين(11)؟
– مما يثبت أن تأويل الرؤيا هو إلهام من الله يوحيه إلى أنبيائه فقط وليس علمًا مكتسبًا هو تأكيد يوسف في أكثر من موضع على تعلمه هذا التأويل من الله مباشرةً.
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
(ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي).
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
وقد كان تعليم الله ليوسف تأويل الرؤى أحد أكبر معجزاته الدالة على نبوته.
– أجمع الفقهاء على أن الرؤيا ليست مصدرًا للتشريع، فلا يمكن أن يرى نائم رؤيا بحكم فقهي ويلزم أحدًا به.
يقول الشاطبي: “ربما قال بعضهم: رأيتُ النبي في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها؛ مُعرِضًا عن الحدود الموضوعة في الشريعة. وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يُحكم بها شرعًا”(12).
ويقول النووي: “لا يجوز إثبات حكم شرعي بالمنام؛ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي، وقد اتفقوا على أن من شرط من تُقبَل روايته وشهادته أن يكون متيقظًا لا مغفلًا ولا سىء الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط، والنائم ليس بهذه الصفة، فلم تًقبل روايته لاختلال ضبطه هذا كله في المنام”(13).
ويقول محمد رشيد رضا: “قال أهل الشرع: إن الرؤيا لا تعتبر شرعًا في إثبات الأحكام أو نفيها. فلا يجوز لمن سمع من النبي في المنام شيئًا أن يعتد به على أنه من الدين”(14).
– ادعاء أن الرؤيا ستتحقق في الواقع هو ادعاء بالتنبؤ بالغيب، وهو معجزة لا تحدث إلا لنبي.
يقول الرازي: “الذي يُستفاد من علم التعبير (تفسير الأحلام) لا يكون أمرا مفصلا وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزا”(15).
– قال النبي: “الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة”(16)، إذن فالرؤيا هي وحي من الله يرسله إلى أنبيائه مباشرة، أو عن طريق أحد ويلهم نبيه التفسير.
وكان النبي يسأل أصحابه: “هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟”(17) ليفسرها هو.
وقد حكى رجل رؤيا على النبي وصحابته، وطلب أبو بكر أن يفسرها، وفسرها، فقال له النبي: “أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا”(18). فلا يوجد معيار منضبط للتفسير، وأبو بكر نفسه قد أصاب وأخطأ في التفسير، والضابط الوحيد أن يفسرها النبي بنفسه، أو على الأقل تُفسَّر أمامه ليرد الخطأ.
النتيجة:
كل ما يراه البشر في منامهم هي أحلام نابعة منهم، تعبِّر عن رغباتهم، أو تخوفاتهم، أو مؤثرات حسية، أو ترتيب المخ للذكريات، وليست رؤى إلهية، إلا لو فسرها نبي بأنها رؤيا من الله.
المصادر:
1. (مبادئ التحليل النفسي) ص109
2. http://bit.ly/3pKWxoR
3. (الأورجانون الجديد) ص31
4. http://bit.ly/3qXTyeo
5. http://bit.ly/3kitsQC
6. http://bit.ly/2Nphqcj
7. (صحيح البخاري) ج9 ص37 رقم (7017)
8. (صحيح البخاري) ج9 ص30 رقم (6984)
9. (تفسير المنار) ج12 ص264
10. (صحيح البخاري) ج6 ص173 رقم (4953)
11. (الاعتصام) ج1 ص334
12. (الاعتصام) ج1 ص331
13. (شرح النووي على مسلم) ج1 ص115
14. (مجلة المنار) ج7 ص611
15. (التفسير الكبير) ج3 ص507
16. (موطأ مالك) ج2 ص956 رقم (1)
17. (موطأ مالك) ج5 ص1393 رقم (3513)
18. (صحيح البخاري) ج9 ص43 رقم (7046)