العنف والعبث والعدمية: بين نيتشه وتارانتينو

أتيت من عالم العنف ، إنه يسري في دمي، كان والدي كذلك، ووالده من قبله، كان ذلك قدري. من هو البريء؟ هل أنت بريء؟ إنه مجرد قتل، كل الكائنات تفعل ذلك، بشكل أو بآخر.

الكلام على لسان الممثل الأمريكي ليوناردو دي كابريو في الدور المهم الذي قام به في فيلم المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو (Quentin Tarantino 1963) جانجو الطليق Django Unchained)(2012.

هذه الجملة ربما تكون المدخل الأهم لسينما هذا المخرج، الذي اختلف المشاهدون حول قبول أعماله بين متحمس لها بقوة يراها نقلةً مهمةً في تاريخ فن السينما، وكاره لها بشدة بدعوى أنها تحطم قوالب السرد التقليدية وبها من لمحات الجنون والعبثية ما لا يخفى على أحد. هذا الاستقبال الذي يتراوح بين القبول والرفض كان مُدركًا منذ البداية لدى تارنتينو ففي أثناء تسلمه لجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه العجيب خيال رخيص Pulp Fiction 1994 قال أنه لم يتوقع حصوله على الجائزة نظرًا لهذا الانقسام الذي أحدثه الفيلم بين جمهور السينما ونُقّادها.
الملمح الأهم في سينما تارانتينو تفسره مقولة دي كابريو السابقة. فالمتابع لأعماله سيصطدم بصريًا وشعوريًا من كم العنف الموجود في أفلامه (يتجاوز بكثير ما قدّمه مارتن سكورسيزي في أعماله). القتل الفج بدم بارد، الدماء الغزيرة الواضحة، روح الانتقام التي تتغلب على كافة المشاعر الأخرى… إلخ. هذا العنف لا تبرره ضرورات سردية داخل أفلام تارانتينو بل هو مقصود في ذاته، لهذا دائمًا ما يكون مدعاةً لإثارة تساؤل المُشاهد. لماذا القتل بهذه الفجاجة؟ لماذا كل هذه الدماء؟

نيتشه / تارانتينو وإنسان العصر الحديث

في نهايات القرن التاسع عشر كتب الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844- 1900) يقول في كتابه العلم المرح (Die fröhliche Wissenschaft 1882):

خلف سطح الحياة الحديثة المغلّف بالعلم والعقلانية تكمن قوى دافعة بربرية لا أثر فيها للرحمة.

مقولة نيتشه وفلسفته القائمة على مفاهيم النسبية والمصادفة تتقاطع وسينما تارانتينو، بحيث تبدو الأرضية واحدة ويبدو المؤلفان (تارانتينو هو من كتب أعماله أيضًا) كأنهما قادمان من نفس العالم. كان نيتشه يرى أن الجانب الشرير في الإنسان الحديث يتخفّى خلف قناع من الحكمة والعلم وأنّ التناقض الواضح بين ما يدّعيه من عقلانية وتنوير وبين دوافعه الشريرة وروحه الملوَّثة بالدماء، هو ذاته جزءٌ من أزمته. جزء من أزمة مشروع الحداثة الغربي وسببًا لمناداة البعض بأنه، أي المشروع، قد استنفد غرض وجوده.
إنسان العصر الحديث وما بعده، ذلك الإنسان الذي لا يملّ ولا يكلّ عن إظهار تحضّره في كافة السياقات، لكن خلف قناع هذا التحضّر يوجد ذلك القاتل بشكل أو بآخر؛ توجد تلك القوى الهمجية التي حدّثنا عنها نيتشه، والتي صرّح بها من قبله الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في عبارته الخالدة “الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان”.

وفقًا لنيتشه ليس ثمة تعاطف أو شفقة في عالم الإنسان، وإنْ كان فإنه لا يظهر إلا مع ما ينتمي إليه فقط (كانت هذه الفكرة أساسَ النقد العنيف الذي وجهه بعض المفكرين للمركزية الأوروبية). غير أن هذا التعاطف قد يختفي أيضًا إذا تم التأثير عليه أو تشتيته، وهو ما يعني أنه لا يعبّر عن حقيقة الإنسان ولا يعدّ جزءًا أصيلًا من تكوينه. هذا الكلام النظري أكّده الواقع العملي في أوروبا القرن التاسع عشر (قرن نيتشه) حيث المد الاستعماري الغربي، وحيث أوروبا التي بدأت معركتها مع ذاتها. وتبدو هذه الفكرة قريبةً من عالم تارنتينو أو أحد محفزات عالم العنف واللامنطق لديه.

إعلان

في فيلم أوغاد مجهولون Inglourious Basterds 2009 يضع تارانتينو المشاهد في تجربة نفسية لا يقدر على صناعتها سواه، حيث تُقتل في أول الفيلم، إبان فترة الحرب العالمية الثانية، أسرة يهودية فقيرة بطريقة بشِعة، وفي الوقت ذاته يشعر المشاهد بمتعة تصل حد الانتشاء من أداء الممثل العبقري كريستوف فالتز Christopher Waltz، متعة تجعل المرء يتقبل بسلاسة مشهد القتل المرعب، هذا الشعور المزدوج سببه الرئيس وجود مؤثر شعوري آخر بجوار الحدث الرئيس الذي يجسده المشهد.
أفلام تارانتينو بها هذا التلاعب النفسي بين الفكرة ونقيضها. وبها التصور القائل أن الإنسان لديه ذلك الاستعداد الفطري في طبيعته للإجرام والعنف، فقط باسم الحضارة يخفي كمية العنف التي بداخله. والتاريخ الغربي مليء بالوقائع التي تثبت مثل هذه الادّعاء، ويكفي قراءة تاريخ أوروبا وأمريكا في القرنين التاسع عشر والعشرين، لمعرفة الوجه الآخر لها الذي يتخفي خلف قناع العلم والعقلانية. وما الانقلاب الذي حدث في النموذج المعرفي الغربي من الحداثة إلى ما بعدها إلّا لهذا التناقض بين الشعارات البرّاقة التي ترفع راية العلم والعقلانية والقيم الإنسانية الرفيعة وبين الواقع الدموي العنيف الذي خلّف وراءه ملايين الضحايا.

العنف إذن في أفلام تارانتينو يكشف فساد الطبيعة الإنسانية عبر ميولها الدموية. وعادة ما يأتي هذا العنف بدافع الانتقام ومن أجله. والحال أن معظم أفلام تارانتينو وقودها الانتقام. لكن الانتقام لا يأخذ صورةً واحدة، بل عدة صور؛ صورة إجرامية واضحة كما في كلاب المستودع (Reservoir Dogs 1992)، صوره شخصية بحتة كما في “اقتل بيل” (Kill Bill 2003)، صورة سياسية كما في فيلمي “جانجو الطليق” و”أوغاد مجهولون”، وصورة اجتماعية كما في جاكي براون (Jacki Brown 1997).

وبرغم وجود ملامح مشتركة في بعض شخصيات أفلامه ووجود اختلافات في بعضها الآخر إلا أن تارنتينو برع بالفعل في أن يجعل الانتقام تيمةً حاضرةً ومحركًا رئيسًا لشخصياته وكأنها جزء رئيس من طبيعة التكوين الإنساني.

تيمة الانتقام

أراد تارانتينو، بعد فترة توقف دامت عدة سنوات، أن يجعل للانتقام احتفاليته الخاصة فعاد بفيلمه “اقتل بيل” بجزأيه الاثنين. الفيلم احتفالية بالانتقام، شخصياته عبارة عن منتقمين لحدث سابق، وأثناء انتقامهم يتولد انتقام جديد من داخلهم. يبدأ الفيلم ببطلة العمل التي تريد أن تنتقم بقتل أمام ابنتها وتنظر للطفلة الصغيرة وتقول لها إنها ستنتظرها حين تأتي لتنتقم منها مثلما فعلت هي مع أمها. عندها يبدأ الفيلم في سرد حكاية الأشخاص الذين تريد البطلة الانتقام منهم، وكيف بدأت كل شخصية منهم دائرة الانتقام الخاصة بها.
الفيلم، الذي يحتفي بالانتقام، يستدعي في صورته ومحتواه المجتمع الياباني بتقاليده الراسخة وتاريخه الثري؛ تاريخ الفن الياباني، أجواء الساموراي، الأزياء، الأساطير، الطعام… إلخ. وكعادة تارانتينو في استدعاء تاريخ الفن في أفلامه؛ صُممت بعض المشاهد المعقدة بطريقه أفلام التحريك اليابانية، كذلك جسّد الفيلم معارك الساموراي العنيفة جدًا ذات الحركات بالغة السرعة.

مع ما يجسده “اقتل بيل” من روح انتقامية تكشف الميول العدوانية في الطبيعة الإنسانية في حدها الأقصى، يجسد الفيلم حالةً عجيبةً من العبثية تجعل المشاهد يتقبل هذا العنف ويتعامل معه كنوع من الاستعراض الطريف، خاصة أن تارانتينو يعمد بطريقة ساحرة غير مرئية لكسر الإيهام في الفيلم، فهو يغلّف فيلمه، منذ البداية وحتى النهاية، بتلك الروح التي تجعل المشاهد يتعامل مع الفيلم بنوع من الخفة أو عدم الجدية في استقباله لمشاهد الحركة والقتل المفرطة، ولعل الإفراط الكبير في العنف والقتل ينقل الفيلم من المستوى الواقعي إلى المستوى الخيالي، ويجعل من الصعوبة التعامل معه وفقَ منطق الأحداث الطبيعية وقوانينها.

بالإضافة لذلك يسود الفيلم حالة من اللامنطق، ليس في أحداثه فقط، بل في هذا المزج العجيب واللامتجانس الذي أقامه تارانتينو داخل مكونات الفيلم. حيث يبدأ الفيلم في جزأه الأول بأغنية هادئة شهيرة، لا تناسب طبيعة موضوعه، لنانسي سيناترا، مع عبارة تبدو وكأنها أقرب إلى الحكمة (الانتقام وجبة يجب أن تقدم باردة). ثم مشهد جريمة طبيعي جدًا للبطلة وهي ملقاة ويحدثها بيل عن أنه ليس ساديًا وسيقتلها مرة واحدة، ثم فجاه تبدأ أحداث غير متزنة، غير متوقعه، ولا منطقية. كل شيء يقدمه تارانتينو بنوع من العبثية التي لا تخضع لقانون.

طريقة التصوير وزواياه، الانتقال من مشهد منطقي جدًا إلى مشاهد قتل عبثيه، ثم مشهد رسوم متحركة ياباني ومنه إلى موسيقى يابانيه مجنونه مصحوبة برقصات عبثية وأقدام حافية، كل شيء في الفيلم غير متزن ويفتقد للمعيار وهذا ينقلنا للخاصية الثانية التي تشترك فيها أفلام تارانتينو مع فلسفة نيتشه.

عبثية الحياة الحديثة وعدميتها

في القرن التاسع عشر، قرن نيتشه، سادت النزعات المادية بقوة وصاحب ذلك غياب التفكير الميتافيزيقي أو بمعنى أدق لم يعد له موطئ قدمٍ في وقت أعلن فيه ماركس أن المادة هي الإله. ثم جاء نيتشه ليزكّي هذه الروح من خلال إعلانه الشهير عن موت الفكرة الميتافيزيقية عن الإله، بحيث أنه لا يمكن اتخاذها إطارًا تفسيريًا لظواهر العالم الذي نعيش فيه. كان من نتائج ذلك سيادة النزعة النسبية اللامعيارية في كافة المجالات، حيث لم يعد هناك مركز يمكن الاستناد إليه أو الاحتكام لمعاييره، بل ثمة فوضى معيارية إن جاز التعبير وقد أكد نيتشه، على هذه النتيجة التي ترتبت على غياب فكرة الألوهية، في فقرته الشهيرة (القسم 125 من كتابه العلم المرح) عندما قال “”لقد محونا الأفق كله. لقد حررنا هذه الأرض عن شمسها.

لقد أرسلناها باستمرار إلى القاع، إلى الوراء، إلى الجنب، إلى الإمام، وفي كل الاتجاهات. ألا زال هناك أي شروق أو غروب؟ لقد أصبح عالمنا أكثر برودةً”. هذا العالم البارد سيسقط حتمًا في فضاء العدمية. والعدمية مصطلح يصف غياب المعنى والقيمة عن حياة الأفراد. فحينما لا يحل نظام جديد محل النظام التشريعي الأخلاقي المستمد من الدين، والذي ظل مسيطرًا على الفكر قرون عديدة، سيواجه الإنسان مزالق العدمية؛ حيث الظلمة المطبقة، ولا شيء له قيمة فعلية، لا معنى لحياتنا بعد الآن، وكل أساليب الحياة سواء؛ لأن لا معيار شامل تقاس عليه الأحكام.

فيلم تارانتينو خيال رخيص Pulp Fiction (1994) يجسد لمشاهديه هذه المعاني بوضوح. فهو عبارة عن سردية طويلة مقسمة إلى حكايا وسرديات قصيرة أعيد ترتيبها سويا بطريقة أحجية (Puzzle). فيلم عصابات حيث لا وجود فيه لشرطي واحد! شريط سينمائي من الشخصيات الغريبة، بدءًا من رجل عصابات يضع خلف رأسه الأصلع لصاقة جروح، إلى متخلفين منحرفين جنسيًا، ومن أتباع عصابات بالبدلات السوداء يخوضون حديثًا حول مسميات الأطعمة السريعة الأمريكية في أوروبا إلى حلال مشاكل يحضر حفلات العشاء في الصباح الباكر مرتديًا بزة رسمية. إذن، ما الذي يدور حوله الفيلم؟ بشكل عام، يمكن القول إن الفيلم يدور حول العدمية الأمريكية.

السيناريو شديد الحرفية يأخذه تارانتينو في شكل دائري، وهو الشكل الذي حقق للفيلم امتيازه الفريد. المشهد الافتتاحي بداية الدائرة ونهايتها؛ لصان غير متمرسان يخشيان من تعقد عمليات السرقة، وأن تجر عليهما ما لا يحمد عقباه، يدور بينهما نقاش طويل وشيق عن أفضل الأماكن للسرقة الآمنة. باختيار عبثي يقرران أنّ أفضل مكان للسرقة هو هذا المطعم الذي يجلسان فيه وأفضل لحظة للسرقة هي تلك اللحظة التي يتحدثان فيها. يشهران مسدسيهما لتبدأ الدائرة.

الفيلم مكون من ثلاثة سيناريوهات؛ ترى السيناريو الأول ويظهر بداخله لمحةٌ من سيناريو آخر، ثم تلف الدائرة على السيناريو الثاني، وترى لمحةً من الأول، وهكذا. إلى أن تصل الدائرة لنقطة البداية التي هي نقطة النهاية، في المطعم الذي قرر سرقته اللصان غير المتمرسان. في هذه الرحلة الدائرية التي استغرقت عدة ساعات فقط يلاحظ المشاهد أن تغيرات عديدة طرأت على لصّين آخرين وجدا مصادفةً في المكان ذاته، وفي ذات اللحظه العبثية التي قرر اللصان غير المتمرسان القيام بعملية السرقة فيها مع فارق أن هذين اللصين محترفين. أثناء لفة الدائرة يخرج تارانتينو المشاهد خارج الدائرة في مشهد بديع يحكي فيه قصة موت فيجا (جون ترفولتا) التي لا تعتبر ضمن أحداث الفيلم أساسًا، وليست في زمن حدوثه! لكنها لمحة عبثية شديدة الذكاء، تتماشى مع العبثية المحيطة بقصص كل الأبطال والأحداث غير المنطقية التي تحدث لهم.

التلاعب الأشهر لتارانتينو في هذا الفيلم هو الحقيبة التي يفتحها كل أبطال الفيلم تقريبًا، لا يرى المشاهد ما بداخل الحقيبة ولكنهم ينبهرون بما هو داخلها. البعض فسّر ما بداخل الحقيبة تفسيرات دينية، والبعض الآخر فسرها تفسيرات موسيقية، وآخرون تفسيرات تقليدية.

كما أشرت سابقًا، بشكل عام، يتناول الفيلم العدمية الأمريكية. وبشكل خاص، يتناول الفيلم تحولات شخصيتين هما؛ جولز (صمويل جاكسون) وبوتش (بروس ويلس). في مطلع الفيلم، يعود فينسنت (جون ترافولتا) من مكان إقامته في أمستردام، ويدور بينه وبين جولز حديث حول اسم البيغ ماك والكوارتر باوندر (أنواع من البرجر) في أوروبا، وفونزي Fonzie من مسلسل هابي دايز Happy Days، وأرنولد من مسلسل جرين آكرز Green Acres، وفرقة موسيقى البوب فلوك أوف سيجلز Flock of Seagulls، وكاين من فيلم كونغ فو Kung Fu،… إلخ.

هذه الإحالات السخيفة تبدو للوهلة الأولى نوعًا من الحكي الثقافي الناقد أو المؤيد لتلك الرموز. لكن الحقيقة أن هناك بعد أعمق من ذلك، فالفكرة هنا تتلخص في الطريقة التي ترتبط بها هذه الشخصيات بحياتنا؛ أيقونات ورموز الفن الشعبي والبرامج التليفزيونية الذين حلّوا في زماننا محل الدين، والذين يوفرون المعنى وتحديد قيمة الأمور من حولنا.

نقاط الإحالة هذه هي ما نفهم من خلالها أنفسنا والآخرين، نحن فارغون وفانون مثلهم بالضبط. أيقنة الفن الشعبي هذه تتجلى أكثر ما تتجلى حينما يزور فينسنت وميا (أوما ثورمان) جاك رابيت سيم (مطعم) حيث يتقمص المضيف شخصية إيد سوليفن (مذيع)، والمغني يتقمص شخصية ريكي نيلسن (مغني شهير)، والنادل يتقمص شخصية بادي هولي (مغني)، ومن ضمن النادلات مارلين مونرو (ممثلة) وجاين منسفيلد (ممثلة). رموز الفن الشعبي هذه تقف بشكل صارخ في مواجهة فقرة من العهد القديم، إيزاكيل 25:17 (في الواقع يبدو أن تارانتينو هو من ألفها بنفسه).

إن غياب أي نوع من الأساس يُستند إليه في الأحكام القيمية، والافتقار إلى معنى أكبر في حياتهم، يخلق لديهم نهمًا للسلطة. في ظل غياب أي معيار آخر ينظم حياتهم، يسقط الأفراد في هرمية السلطة، حيث مارسيلس والاس في أعلى الهرم وهم في أدناه كأتباع. وتبدأ الأشياء في اكتساب المعنى في حياتهم حينما يعلن والاس عن ذلك. ما يريد إنجازه، عليهم القيام به. وتكتسب الأشياء قيمتها بالنسبة لهم مما يريده والاس ويصبح بالتالي موجهًا لتصرفاتهم في الحال، إلى أن تكتمل المَهمّة بأي أسلوب كان.

وهذا متمثل بذكاء في الحقيبة الغامضة التي يطلب من جولز وفينسنت إعادتها إلى مارسيلس. هي غامضة لأننا لا نرى فعليًا ما فيها على الإطلاق، كما سبق وأشرنا، غير أننا نرى ردود أفعال أشخاص حيالها بوصفها غرضًا بالغ القيمة والأهمية. يبزغ السؤال دائمًا:

ماذا يوجد في الحقيبة الجلدية؟

ومع ذلك، فهذا السؤال خدعة. الإجابة في الحقيقة: لا يهم. وعندما سُئل تارانتينو عن محتوى الحقيبة، في حوار معه، رد قائلًا: “ما بداخل الحقيبة هو ما تخيله المشاهد“. فما يوجد في الحقيبة الجلدية لن يشكل أي اختلاف. كل ما يهم هو أن مارسيلس يريدها، وبالتالي لهذا الغرض أهمية. لو كان لدى فينسنت وجولز قاعدة للقيمة والمعنى في حياتهما، لكان بوسعهما تحديد ما إذا كانت الحقيبة الجلدية ذات قيمة نهائية، ولأمكنهما تحديد ما إذا كان كل ما بذلاه في سبيل استرجاعاها مبررًا. في ظل غياب هكذا، فإن الحقيبة الجلدية تصبح قيمةً نهائيةً في ذاتها ولذاتها، تحديدًا لأن مارسيلس يقول ذلك، وعليه فإن أي وكل سلوك بغرض حيازتها يصبح مبررًا (بما فيه، كما هو واضح، القتل).

بالإضافة إلى أيقنة رموز الفن الشعبي في الفيلم، فإن الخطاب المتعلق باللغة هنا مرتبط بتسمية الأشياء. ماذا يُدعى البيج ماك؟ وماذا يسمى الكوارتر باوندر؟ (فينسنت لا يعرف فهو لِمَ يذهب إلى مطعم برجر كينج). حينما ينادي رينجو (تيم روث) على النادلة ”جرسون”، تخبره أن: ”جرسون” بالفرنسية تعني “فتى”. وأيضًا، حينما تشير صديقة بوتش إلى وسيلة تنقله على أنها ”دراجة نارية”، ويصر على أن يصحح لها قائلًا: ”إنها ليست دراجة نارية بل تدعى المروحة” (نوع آخر من الدراجات النارية). ومع ذلك – وهنا يقع التباس- حينما تسأله سائقة أجرة لطيفة عن معنى اسمه، يجيب بوتش: ”هذه أمريكا؛ يا عزيزتي؛ أسماؤنا لا تعني شيئًا.” والفكرة واضحة: إنه غياب أي قاعدة دائمة للقيمة والمعنى، لغتنا لم تعد تشير إلى أي شيء عداها. أن ننعت أي شيء بالشرير أو الخير لا يعني أنه كذلك على نحو موضوعي، بالنظر إلى غياب سلطة عليا أو معيار للحكم على الأفعال.

إن هذا النوع من السلطة غائب كليًا عن حياة جولز وفينسنت. وفي غيابه، تغدو الثقافة الشعبية مصدرًا للرموز ونقاط للإحالة التي يتواصل من خلالها الإثنان ويفهمان بعضهما بعضًا. إن نقص أي نوع من السلطة العليا يصور في الفيلم من خلال الغياب الصريح لوجود رجال الشرطة. إنه فيلم عصابات حيث يقتل الناس بالأعيرة النارية، ويتعاطى آخرون المخدرات، ويقودون بتهور،… إلخ، ثمة حوادث سيارات، ومع ذلك لا يوجد هنالك شرطي واحد.

إن كل شيء في أفلام تارانتينو لا معنى له في ذاته، فما تفعله من الممكن جدًا أن يؤدي إما إلى النجاة أو الهلاك، وما تظنه ضعيفًا يمكن أن يفاجئك بقوته الكامنة فجأة ويصعقك بها، فالقوة والحق والحقيقة كلها أمور نسبية، والواقع بالمعنى الكلاسيكي لا وجود له، بل لدينا واقع آخر نخلقه نحن من خيالاتنا وأوهامنا ورغباتنا، والصدام الذي ينتج ما هو سوى نتاج لرغبتنا في تطويع الواقع لما نريده ونسعى إلى تحقيقه؛ المال والجنس والسلطة.

المراجع:
- استفاد الكاتب في عرضه من مقال
.Mark Conard, Symbolism, Meaning& Nihilism in Quentin Tarantino’s Pulp Fiction,1997

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بدر الدين مصطفى

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا