البانوبيتيكون الرقمي

عالمٌ يكون فيه السجين هو الجاني والضحّية

نحن نشهد نهاية الحقبة المنظورية لنظام مراقبة الكل (panoptic)، هكذا لاحظ جان بودريار في العام (1978). تتضمن حجته الإشارة إلى التلفاز بوصفه وسيطًا اتصاليًا:

«لم تعد عين التلفزيون مصدرًا للنظرة المطلقة، ولم يعد نموذج التحكم متمثلًا في الشفافية. حيث لا يزال يفترض هذا الأمر وجود مكان موضوعي (كالذي كان موجودًا ابّان عصر النهضة) والقدرة المطلقة للنظرة المحدقة»3.

عندما كتب بودريار هذه الكلمات، لم يكن يعرف بالطبع شيئًا عن الشبكات الرقمية. اليوم، وعبر هذا التوصيف الذي قدّمه بودريار، يجب أن نلاحظ أننا لا نواجه، في هذه اللحظة، نهاية نظام المراقبة الكلية؛ بل بالأحرى بداية لنظام منظوري للمراقبة الكاملة؛ نظام جديد على نحو تام، نظام مراقبة رقمية قادم من القرن الحادي والعشرين. وهو نظام لا يمارس عمله من نقطة مركزية محددة، أو من قدرة كلية على النظرة المحدقة. لقد اختفى تمامًا هذا التمييز بين المركز والمحيط، وهو الشرط الأساس في التصور الذي قدّمه بنتام لسجن البانوبتيكون4.

سجن البانوبيتيكون
سجن البانوبيتيكون

نظام المراقبة في سجن بنتام

الوظائف الرقمية لنظام المراقبة لا تتطلب أي بصريات منظورية، وهذا ما يضفي عليه فعالية بالغة. الافتقار إلى مركز منظوري هو نتيجة طبيعية لعملية الاختراق ومزيد من الفعالية التي تتفوق على المراقبة المنظورية؛ لأنه يعني إضاءة كاملة للكل من جميع النواحي، والتي يمكن لأي شخص القيام بها.

كان سجن بنتام ظاهرة من ظواهر المجتمع التأديبي:

كان مقترحًا من أجل التقويم؛ حيث خضعت السجون والمصانع والمؤسسات التابعة للدولة والمستشفيات والمدارس للسيطرة الكاملة. هذه هي المؤسسات النموذجية في المجتمع التأديبي، يتم ترتيب غرف السجن في دائرة حول برج المراقبة، وعزلها بشكل صارم عن بعضها بعضًا، ومن ثمّ يتعذّر التواصل بين من هم بداخلها، الجدران الفاصلة ترسّخ استحالة رؤية بعضهم بعضاً.

إعلان

ومن أجل التقويم، هكذا نقرأ عند بنتام، يتمّ عزلهم. لكن شخص واحد بإمكانه النظر إلى كلّ ركن من أركان الزنزانة دون أن يكون موضوعًا لرؤية أحد ممّن هم بداخلها، إنه مراقب السجن.

«تتشكل ماهيته، إذن، من مركزية المراقب مقترنة بالاشتقاقات المعروفة والأكثر فعالية لأن ترى من دون أن تكون مرئياً»5.

وبمساعدة من الأدوات التكنولوجية الماكرة، يتم تحقيق وهم المراقبة الدائمة في حلتها الجديدة، وهنا تكمن المنظورية التي ترسخ بنية السلطة والهيمنة. وبينما يدرك سكان سجن بنتام أن هناك من يقوم بمراقبتهم، وإن لم يكن في مجال رؤيتهم، فإن قاطنو نظام المراقبة الرقمي الجديد يعتقدون أنهم أحرار.

المراقَبون يبنون نظام مراقبتهم!

يمتلك مجتمع التحكم اليوم بنية متميزة للمراقبة الشاملة. على النقيض من شاغلي سجن بنتام، المعزول كل طرف منهم عن الآخر، يتواصل قاطنو شبكة المراقبة اليوم بشكل مكثّف. قبل كل شيء، تتمثل خصوصية نظام المراقبة الرقمي في أن قاطنيه يتعاونون بنشاط من أجل بنائه وحمايته، وذلك من خلال عرض أنفسهم على الشاشة، وتقديم ذواتهم على نحو دائم. إنهم يعرضون أنفسهم داخل سوق نظام المراقبة. ويُكمل كل منهم الآخر عبر تقديم أنفسهم للعرض البورنوغرافي تحت وطأة نظام المراقبة.

عندما يصنع المراقَبون نظام رقابتهم بأنفسهم

تتغذى الشبكة، بوصفها صورةً لنظام المراقبة الرقمي، على الفضائح وعلى عمليات التلصص، ويتحقّق لها الكمال عندما يقدم الأفراد أنفسهم طواعيةً للعرض، لا عبر الإلزام الخارجي، ولكن عبر الحاجة المولّدة ذاتيًا؛ أي عندما يتحول الخوف من التخلي عن المجال الخاص والحميم إلى رغبة في أن يعرض المرء نفسه على الشاشة دون خجل.

مجتمع شفّاف، من الجميع للجميع

في ضوء التقدم المتواصل لتكنولوجيا المراقبة، هرع ديفيد بريين، المتخصّص في علوم المستقبل، إلى المناداة بأن تكون المراقبة من الجميع للجميع، ما يعني إضفاء نوع من الديمقراطية على نظام المراقبة. وهذا الأمر يحمل وعدًا بـ «مجتمع شفّاف». يعلن بريين بحماس كبير عن حجّته قائلاً:

«هل سنقف مكتوفي الأيدي أمام عملية فحص كل ما هو معروض، لقد غدت أسرارنا مكشوفة، إذا حصلنا في المقابل على ما يمكن أن نضيء به ما نملكه، فهل سيكون بمقدورنا أن نكتسب مكانةً أعلى من أي شخص آخر؟»6.

تستند المدينة الفاضلة لبريين على تأسيس «مجتمع شفاف» قادر على المراقبة غير المحدودة؛ حيث من المفترض في هذا المجتمع أن يتمّ التخلص من المعلومات اللا-متجانسة؛ المعلومات التي تنتج علاقات القوة والهيمنة.

ما يدعو إليه بريين، إذاً، هو الكشف الكامل المتبادل؛ حيث لا يتم النظر فحسب إلى الأسفل ممّا هو قائم أعلاه؛ بل العكس أيضاً. يجب على الجميع أن يقوم بتقديم الكلّ إلى مجال الرؤية والتحكّم؛ وهو الأمر الذي يتوجّب تطبيقه على المجال الخاص أيضاً. إن مثل هذه المراقبة الشاملة تهوي بـ«المجتمع الشفّاف» ليغدو مجتمعاً لا إنسانياً يسيطر عليه الجميع؛ الجميع يسيطر على الجميع.

الشفافية والسلطة

الشفافية والسلطة لا ينسجمان على نحو جيد؛ فالسلطة تنشد الكتمان لحماية نفسها، وتعد آليات التخفي إحدى التقنيات التي تستخدمها السلطة على الدوام، في حين تعمل الشفافية على تفكيك هذا المجال الخفي للسلطة. ومع ذلك، لا يمكن تحقيق الشفافية المتبادلة إلا من خلال المراقبة الدائمة، التي تتخذ دائمًا أشكالًا تتطور على نحو مفرط. هذا هو منطق مجتمع المراقبة. التحكم الكامل يدمر حرية العمل، ويؤدي في نهاية المطاف إلى الإقصاء (Gleichschaltung). ليس من الممكن ببساطة استبدال الثقة، التي تُفسح الطريق أمام مجالات العمل الحر، بالتحكم:

«على الناس أن يؤمنوا ويثقوا بحاكمهم. فعندما يثقون به، يمنحونه قدراً من الحرية في التصرف دون محاسبة، مراقبة، ترصد. وبسبب افتقاره إلى هذا الحكم الذاتي، لم يكن بإمكانه في الواقع أن يخطو خطوة واحدة»7.

تقع الثقة في منطقة وسط بين المعرفة واللا-معرفة، وهي في معناها تشير إلى إقامة علاقة إيجابية مع الآخر، حتى مع وجود الجهل؛ حيث تظل القدرة على تقييم الأمور قائمة، على الرغم من قلّة المعرفة.

إذا كنت أعرف كلّ شيء بشكل مسبق، فليس ثمّة حاجة إلى الثقة. تشترط الشفافية إزالة كل عائق أمام المعرفة. لهذا، حيثما تسود الشفافية لا يوجد مجال للثقة. وبدلاً من أن يذهب المرء إلى القول إن «الشفافية تفضي إلى خلق الثقة» يتوجب عليه القول «إن الشفافية تفضي إلى تفكيك الثقة». وكلما غابت الثقة كلما زاد الصوت علوًا مطالبًا بالشفافية. فالمجتمع القائم على الثقة لن يبدي إلحاحًا بتدخل الشفافية. إن مجتمع الشفافية هو مجتمع قائم على انعدام الثقة والشكّ.

نموذج أخلاقي جديد

تشير دعوات ستريدنت (Strident) إلى مجتمع الشفافية إلى حقيقة بسيطة، مفادها أن الأساس الأخلاقي للمجتمع هو أساس قاصر على نحو تام؛ حيث تفقد فيه القيم الأخلاقية، مثل الصدق والصراحة، معانيها أكثر فأكثر. وهنا، انطلاقاً من كونها ضرورة اجتماعية جديدة، يمكن للشفافية أن تحلّ محلّ النموذج الأخلاقي؛ حيث يمكن أن تفضي إلى أرضية جديدة.

قبل كلّ شيء، كان لمشروع المراقبة الكلية دافعاً أخلاقياً أو بيو-سياسياً. وفقًا لبنتام، إن النتيجة المرتقبة والمتوقعة من السيطرة على النظام البصري تتمثل في تقديم «إصلاحات أخلاقية»8، إضافةً إلى ما تشتمل عليه من «حفاظ على الصحة» و«وفرة في التعليم»؛ «العقدة المستعصية المتمثلة في نقص القوانين لن يتم قطعها؛ بل ستنحل»9.

لكن الشفافية القهرية، اليوم، لم تعد لها ضرورة أخلاقية أو بيو- سياسية واضحة؛ فهي، قبل كل شيء، تتبع الحتمية الاقتصادية. الناس الذين يجعلون من أنفسهم ميداناً شفافاً يستسلمون تماماً للاستغلال، الشفافية هي الاستغلال. كما يحدّ الإفراط في تعرية الذوات الفردية من الكفاءة الاقتصادية.

العميل الشفاف هو ذلك السجين الجديد في الواقع، المسجون المقيد داخل سجن المراقبة الرقمي. عمليات التواصل والتجارة، والحرية والتحكم، تحلّلت جميعها داخل شيء واحد. إن فتح علاقات الإنتاج مع المستهلكين يوحي بالشفافية المتبادلة؛ ومع ذلك تتحول، في نهاية المطاف، إلى نوع من الاستغلال الاجتماعي. حيث ينحلّ الاجتماعي إلى عنصر وظيفي في عملية الإنتاج، ويصبح خاضعاً للتشغيل؛ إنه يعمل على تحسين علاقات الإنتاج. تفتقر حرية المستهلكين المتوهمة إلى أيّ سلبية، فقد تم تدجينهم داخل النظام، ولم يعد بمقدورهم أن يشكّكوا فيه.

استبدال الروابط الاجتماعية بمجموعات الصدفة

لا يمكن لأي مجموعات ذات روابط اجتماعية، بالمعنى القوي لهذا الوصف، أن تتشكل داخل مجتمع الشفافية. بدلاً من ذلك، تظهر مجموعات الصدفة (Ansammlungen) أو الحشود (Vielheiten) المكوّنة من أفراد معزولين، أو أولئك الذين يتجمّعون دون اتفاق مسبق؛ تجمعهم المصلحة المتبادلة أو الالتفاف حول خط من خطوط الإنتاج («تجمعات العلامة التجارية»). هذه المجموعات، التي تفتقر إلى الروح،10 تختلف عن التجمعات الأخرى، التي قد تكون قادرة حتى الآن على العمل السياسي المتبادل، وتشكيل «النحن».

إن تلك المجموعات، مثل مجموعات العلامات التجارية، تؤسس تشكيلاً مضافاً عددياً دون أن يكون لها أيّ كثافة داخلية. يسلم المستهلكون أنفسهم طواعية إلى المراقبة الكلية التي توجّه احتياجاتهم وتفي بها. في هذا المستوى، لا تختلف وسائل التواصل الاجتماعي بأي قدر عن آلات المراقبة.

لقد وقع العالم بأسره، اليوم، في قبضة نظام المراقبة. وقد غدا هذا النظام شاملاً؛ حيث لم يعد ثمة جدار يحيط به من الخارج، إذ لم يعد هناك خارج. إن محرك البحث جوجل (Google)، وشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم نفسها بوصفها مساحاتٍ مفتوحةً للحرية،11 يوفرون أشكالاً من هذا النظام. في عالمنا اليوم لا تعدّ المراقبة هجوماً على الحرية، فبدلا من ذلك، يستسلم الناس طواعية لنظرة المراقبة. يتعاونون، عن قصد، داخل هذا النظام الرقمي للمراقبة عبر تعرية أنفسهم وعرضها. إن السجين في هذا النظام الرقمي هو الجاني والضحية في الوقت ذاته. ها هنا نجد تلك الشوائب التي لا زالت تذكرنا بديالكتيك الحرية، ليتضح في النهاية أن الحرية هي شكل من أشكال السيطرة.

اقرأ أيضًا الأخ الأكبر يجمع بياناتك

المصادر
1 هذا الجزء ترجمة لـ Byung- Chulhan, The Transparency Society, translated by Erik Butler (Stanford, California: Stanford University Press, 2015) pp. 45- 50. 
2 Jean Baudrillard, Simulacra and Simulation, trans. Sheila Faria Glaser (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1994), 29.
3 Ibid.
4 بانوبتيكون (Panopticon): (opticon) تعني مراقبة،(Pan) الكل؛ هو نوع من السجون قام بتصميمه الفيلسوف الإنكليزي والمنظّر الاجتماعي جيريمي بنتام في عام (1785). فكرة التصميم تعتمد على السماح بمراقبة جميع السجناء دون أن يكون المسجونون قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبون أم لا. وصفه بنتام بانوبتيكون بأنه «طريقة جديدة لتحقيق سيطرة العقل على العقل». وفي وقت لاحق، ألهمت فكرة البانوبتيكون، بوصفها رمزاً للسلطة غير المرئية، مفكرين وفلاسفة، مثل ميشيل فوكو، ونعوم تشومسكي، وزيغمونت بومان، وظهرت في أعمال الأديب البريطاني جورج أورويل. وسيحدثنا عنها المؤلف تفصيلاً في الفصل الأخير من هذا العمل. المترجم
5 Jeremy Bentham, Panopticon Writings (London: Verso, 1995), 43.
 6 David Brin, the Transparent Society (Boston: Addison-Wesley, 1998), 14.
7 Sennett, Respect in a World of Inequality, 122. 
8 Bentham, Panopticon Writings, 31 [Preface].
9 Ibid.
 10 Cf. Hegel, Phenomenology of Spirit, 110: 
»على هذا النحو، تتجسد الروح أمامنا بالفعل... حيث تكون "الأنا" هي "النحن"، وحيث "النحن" يكون هو "الأنا».
11 في هذا يمكن مراجعة كتاب: Juli Zeh und Ilija Trojanow, Angriff auf die Freiheit: Sicherheitswahn, Überwachungsstaat und der Abbau bürgerlicher Rechte (Munich: Deutscher Taschenbuch Verlag, 2010).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بدر الدين مصطفى

تدقيق علمي: دعاء أبو عصبة

الصورة: مريم

اترك تعليقا