Dark عندما يستعرض مسلسل فكر أمة بأكملها..!

مَنْ منّا لم يسأل نفسه في لحظات الأرق التي تسبق النوم أحيانا أسئلًة وجوديًّة عن طبيعة الحياة والموت والزمن والإرادة والخير والشر؟ مَنْ منّا لم يشعر برجفة تسري في تلابيب عقله عندما يفكر في مفاهيم مطلقة يعجز إدراكنا المحدود عن تصوّرها كفكرة اللّانهاية وصورها المتعددة كالأزلية والأبدية؟!
إذا كنت ممّن يعانون دائمًا من مثل هذا الأسئلة، أرشح لك مشاهدة مسلسل Dark الذي صاغ كل الأسئلة التي قد تكون دارت بخلدك أو لم تخطر بعقلك من الأساس، صاغها المسلسل في قالب درامي شيق وغامض أبعد ما يكون الغموض، لكن عليك في البداية أن تتقبل ضريبة هذا الكم الهائل من الغموض والإثارة، هذه الضريبة هي إنهاك فكرك وإرهاق عقلك إذا تجرأ على وضع إطار منطقيّ لهذا الكَمّ من الأحداث غير المنطقية.

نبذة عن مسلسل Dark :

مسلسل Dark هو مسلسل خيال علمي ودراما ألماني من إنتاج شبكة نتفيلكس مكون من ثلاثة مواسم بدأ عرض الموسم الأول عام 2017م وتمّ عرض الموسم الآخير في نهاية شهر يونيو الماضي.

تبدأ الأحداث في زمننا الحاضر في مدينة فيندن الخيالية باختفاء محيّر لبعض الأطفال يتبين اقتران لحظات الاختفاء بظواهر غريبة في صورة ضجيج وإنقطاع التيار الكهربائي عن المدينة ونفوق الطيور وسقطوها من السماء كأنها قطرات مطر في مشهد غريب ومحيّر للجميع، بعد البحث المضني يتّضح تكرار نفس الظواهر واقترانها مع حالات اختفاء مشابهة حدثت منذ 33 عامًا في نفس المدينة ولأشخاص على صلة بالمختفين الحالين، ومن هنا تدخل الأحداث في خطوط وحلقات زمنية متشابكة ومترابطة في أزمنة وعوالم مختلفة.

الحياة متاهة البعض يتجولون داخلها حتى موتهم، بحثًا عن طريق للخروج ولكن يوجد طريق واحد فقط يقود إلى الأعماق عندما يصل المرء إلى المركز عندئذ سيفهم.

يطرح مسلسل Dark العديد من الأفكار والقضايا الفلسفية كفكرة العلّة الأولى ووحدة الوجود ونظرة الفلسفة للكون بدايةً من الاسئلة الفلسفية البدائية وانتهاءً بالعدمية، كما يناقش الفرضيات العلمية المشتقة عن النسبية وميكانيكا الكم بصورة ضمنية، كنظرية الانفجار الكبير والإنسحاق العظيم والأوتار الفائقة “الأكوان الموازية” والمادة المظلمة ويتناول أيضًا مفاهيم ومباديء عقلية كمبدأ الحتمية والسببية.

لكن قبل أن نناقش بعض هذه القضايا يجب الإشارة إلى وجود مفارقة تدعوا للدّهشة وهي أن أغلب ما طرحه مسلسل Dark من نظريات علمية وأطروحات فلسفية تنتمي بصورة مباشرة لمفكّرين وفلاسفة وعلماء ألمان، فالمسلسل بمثابة منتج ألماني خالص من أقل تفاصيله بساطة إلى أكثرها تعقيدًا، ابتداء من الحبكة بالغة التعقيد والجمل الحوارية التى تذكرنا بديالكتيك الفيلسوف الألماني هيجل، ومرورًا بنظرية نيتشه المحورية التي اعتمد عليها المسلسل وهي نظرية “العود الأبدي” كذلك نظرة الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدجر للزمن وعلاقته بما أسماه بالكينونة في كتابه الشهير “الكينونة والزمن”، هذا إلى جانب النظريات العلمية التي ناقشها المسلسل ضمنيًا كمبدأ الريبة الذي وضعه العالم الألماني هايزنبرج وهو أحد أعمدة ميكانيكا الكم التي تدور أحداث المسلسل في فلك فرضياتها وتجاربها واستنتجاتها ومنها التجربة الفكرية الشهيرة “قطة شرودنجر” التّي استهلّ بها صناع مسلسل Dark الحلقة السابعة من الموسم الثالث في إشارة لنظرية الأكوان الموازية، وانتهاء بفكرة الإرادة الحرة وعرّابها الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور.

إعلان

عندما نحلل المسلسل من هذا المنطلق يتضح لنا صحة ما قيل في سياقه مرارًا بأن كل شيء مترابط، ويؤكد أيضًا قيمة هذا العمل ومدى إبداع العقل الألماني قديمًا وحديثًا.

عجلة القدر تدور وتستمر بالدوران في دائرة، كل مصير مربوط بالأخر خيط أحمر كالدم يربط كل أفعالنا.

العود الأبديّ:

فكرة العود الأبدي ـــ الذي أعاد إحيائها ــ الفيلسوف الألماني نيتشه منذ ما يزيد عن قرن ونصف وهي فكرة يرجع أصلها للمعتقدات الهرمسية والغنوصية، ترى بإيجاز أن كمية المادة في الكون محدودة مهما بلغت عظمتها. وبافتراض أن الزمن لا نهائي باعتبار أن الزمن مفهوم فيزيائي ابتكره البشر لقياس الحركة في العالم، ومن هذا المنطلق فلا شيء يحد الزمان لأنه بالإمكان أن يمتد إلى مالانهاية، وبإمكان الزمان أن يستمر بالامتداد ــ افتراضيًا ــ حتى بعد توقف الحركة، ولكن تنتفي الحاجة له عندئذ، وبما أن حوادث الكون هي عبارة عن تشكلات مختلفة للمادة وفق تعاقب معين فإن هناك زمنًا كافيًا ــ لأن الزمن لانهائي ــ لكي يستنفد الكون كافة التشكيلات الممكنة والاحتمالات التي تصنع الأحداث، وعندما يستنفد الكون هذه الاحتمالات ويبقى الزمن ممتدًا بلا نهاية، تعود هذه الصيرورات لتكرر نفسها نظرًا لعدم وجود صيرورات جديدة، وهكذا تبقى الأحداث في حال تكرار دائم ويصبح العالم في حاله عودة أبدية لا شيء يوقفها.

هذه الدوائر الزمنية التي أرد يوناس بطل مسلسل Dark كسرها حتى لا يتكرر عذابه بفقدان والده الذي انتحر في بداية في الموسم الأول، ثم سعيًا لتجنب فقدان حبيبته مارثا في الموسم الثالث من خلال سفره عبر الماضي والمستقبل ثم السفر عبر عالمين مختلفين مستخدمًا في البداية فجوة زمنية داخل كهف بالمدينة يمر أسفل مفاعل نووي دفن به مخلّفات مشعة تسببت في خلق تلك الفجوة، ثم مستخدمًا آلة الزمن فيما بعد والتي تعتمد على المادة المظلمة وهي تسمح له بالسفر عبر كونين مختلفين، وذلك لإيجاد طريقة ما تمكّنه من تحطيم هذه الدوائر بغلق تلك الفجوة الزمنية في البداية أو الوصول لما أسماه الأصل في الموسم الثالث، وهنا تجدر الإشارة إلى أن اسم يوناس لم يتم انتقاؤه جزافًا من كاتب العمل فهو يرمز ليانوس وهو إله البوابات والانتقالات في الميثولوجيا الرومانية وهو إله يعرف بأن له وجهين، وجه ينظر للمستقبل ووجه ينظر للماضي. وهذا دليل آخر يوضح مدى الإتقان في أدق تفاصيل هذا العمل القيّم.

“إنّ التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل مجرد وهم وعناد مستمر”.
– ألبرت أينشتاين

قطة شرودنجر والأكوان الموازية:

قد يبدو مجرّد التّفكير في وجود أكوان موازية ضرب من ضروب الخيال العلمي الذي يروج له حديثًا تزامنًا مع التقدم العلمي والتكنولوجي، لكن في الحقيقة أن تناول هذه الفكرة ليس بالأمر الجديد، فقد تناولتها ميكانيكا الكم منذ ما يزيد عن قرن من الزمن بل وقد وضع عالم فيزياء الأمريكي “هيو إيفرت” إثباتًا رياضيًا على وجود العوالم المتعددة لكن إلى الآن لم يجد العلماء دليل مادي يؤكد صحتها.

تبدأ الحلقة السابعة من المسلسل علي محاضرة تشرح تجربة “قطة شرودنجر” نسبة للعالم النمساوي الأصل إرفين شرودنجر الذي قضى جزءًا من حياته بألمانيا وينتست للحركة العلمية الألمانية منذ بداية الربع الثاني من القرن الماضي حتى صعود النازية. أجرى شرودنجر تجربةً ذهنية قام فيها بحبس قطة داخل صندوق مزود بغطاء، وكان مع القطة داخل الصندوق عداد غايجر – وهو أحد أدوات إكتشاف الأشعاعات–  ومادة سامة وكميةٌ ضئيلةٌ من مادة مشعة بحيث يكون إحتمال تحلل ذرة واحدة منها خلال ساعة ممكنًا لسرعة تحلل المواد المشعة كما هو معلوم للجميع. إذا تحللت الذرة فإن عداد غايجر سوف يطرق مطرقةً تكسر بدورها زجاجةً تحتوي على المادة السامة التي تسيل وتقتل القطة. والآن يقف المشاهد أمام الصندوق المغلق ويريد معرفة هل القطة حية أم ميتة؟ من المنطقي أن نقول بأن القطة إما حية أو ميتة. لكن (من وجهة نظر ميكانيكا الكم: توجد القطة بعد مرور الساعة في حالة مركبة من الحياة والموت). أي أن القطة حية وميتة في نفس الوقت وبمجرد فتح الغطاء ورصد حالة القطة يكون الراصد قد أثّر في حالتها إما بالحياة أو بالموت، وهذا ما يسمي بالتراكب، فميكانيكا الكم ترى وجود فضاء واسع من الاحتمالات فيما يخص سلوك الجسيمات فاحتمال تحلل ذرات المادة المشعة داخل الصندوق لا حصر له، لهذا وضع العالم الألماني هايزنبرج مبدأ الريبة الذي ينص أختصارًا على عدم التوصل لنتيجة يقينية فيما يختص بسلوك الجسيم وتحديد موضعه، هذه المبادئ التي قامت عليها ميكانيكا الكم لاقت اعتراض آينشتاين وجعلته يقول جملته الشهيرة: “إن عقلي لا يستطيع أن يتصور أن الله يلعب النرد بهذا الكون” فهو يرى أن الكون نظام دقيق يسير وفق مبادئ ثابتة لا هو أحتمالي ولا فوضوي، لكنْ هناك جسرٌ منطقيٌّ يربط بين مبادئ ميكانيكا الكم العصية على الفهم هذه وبين آينشتاين، هذا الجسر هو ما تناوله مسلسل Dark وهي فكرة الأكوان المتعددة التي تفترضها نظرية “الأوتار الفائقة”، فبعض العلماء يعتقدون أن الحالة المركبة للمادة تلك والطبيعة المزدوجة للجسيم لا تجتمع في عالم واحد، فقطة شرودنجر قد تكون حية داخل الصندوق في عالم وميتة في نفس الصندوق في عالم آخر وفي نفس الوقت، ونرى هذا جليًا في أحداث المسلسل فنرى إيفا-مارثا  “بطلة المسلسل” ميتة في عالم يوناس لكنها تسافر من عالمها إلى عالم يوناس لتنقذه من الموت!

الإرادة عند شوبنهاور:

إن الفكرة السائدة لدي الفلاسفة أن جوهر العقل هو الفكر والإدراك، لكن شوبنهاور عزم على رفض هذا التصور، لأن الإدراك في آخر المطاف مجرد قشرة سطحية لعقولنا، ونحن لا نعي شيئا عمّا في داخل هذه القشرة، وعلى هذا الأساس يرى شوبنهاور أن سلطة العقل على الإرادة لا يبقى لها أي وجود، بل يصبح العقل خادمًا يقوده سيده، وبالتالي فالإرادة هي الرجل الأعمى القوي الذي يحمل العقل على كتفيه باعتباره رجلًا كسيحًا ومبصرًا – على حد وصفه – وبالتالي فنحن لا نريد شيئا لأننا وجدنا أسبابًا عقلانية له، ولكن نجد أسبابًا له لأننا نريده.

فيقول بأن العالم بأسره بكل مافيه من ظواهر هو تجسيد لإرادة واحدة خفية كما يصفها جوته الأديب الألماني العظيم أيضًا بقوله “إن لأرواحنا طبيعة تستعصى على الفناء، وإن فاعليتها تمتد من الأزل إلى الأبد. إنها كالشمس التي تبدو غاربة لأعيننا الأرضية، ولكنها في الحقيقة لا تغرب أبدًا وتضيء بلا إنقطاع” ويضيف شوبنهاور بأننا أجزاء من حقيقةٍ واحدة، ولكن وجودنا في زمانٍ ومكان يظهرنا بمظهر الكائنات المنفصلة، فليس الزمان والمكان إلا نقابًا وهميٍّا يخفي عن أعينِنا اتحاد الأشياء، إذ ليس في واقع الأمر إلا نوع واحد، أو قل: حياة واحدة، أو إن شئت فقل إرادة واحدة.

مما أسلفنا تتضح لنا نظرة شوبنهاور عن الإرادة وأنها المحرك الحقيقي للعقل وبالتالي لها اليد العليا على أفعالنا، وبالعودة للمسلسل نجد الحلقة الأولى من الموسم الثالث تبدأ مباشرة بمقولة آرثر شوبنهاور التي تختصر ما نريد قوله هنا “يمكن للمرء أن يفعل ما يشاء لكنه لا يستطيع أن يريد ما يشاء” وهي تشير صراحةً لمناقشة مفهوم حرية الإرادة في هذا الموسم فقد أتاح المسلسل مساحة واسعة لمناقشة هذا المفهوم وهو بالتأكيد لا يناقشه من المنطلق الذي بدأ منه شوبنهاور ولا بأدواته الفلسفية ولكن نستطيع أن نلاحظ أعادة صياغة آراء شوبنهاور في السياق الدرامي للأحداث.

ومنها هذه الجملة الحوارية التي قيلت على لسان إيفا ليوناس في الحلقة الثالثة من الموسم الثالث وهي مطابقة تمامًا لرأي شوبنهاور سالف الذكر “الخطأ في تفكيرنا، نحن نصدق أنفسنا بأننا كيانات مستقلة، نفس بجانب أنفس أخرى لا حصر لها.. بينما في الواقع نحن مجرد كسور في شيء كامل لانهائي”.

مسلسل Dark وجبة فكرية دسمة تحتاج لعقل شغوف بالعلم والمعرفة، هو أشبه بأحجية تنكشف خيوطها المتشابكة تباعًا، نظن أحيانًا أننا توصلنا لحقيقة ما يدور بالمسلسل، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الأعتقاد وتتضح حقيقة أنه لا يعدو كونه متاهة بالغة التعقيد تسبق مخيلتنا بخطوة تارة وبأميال تارة أخرى، كذلك هو الكون من حولنا عندما نتوصل لكشف سر من أسراره يتضح أن هناك ما لا حصر له من الأسرار والمجاهيل الخفية عنا نحن البشر، أو كما قيل بالمسلسل:
“ما نعرفه قطرة وما لا نعرفه محيط”.

المراجع:-
- كتاب قصة الفلسفة الحديثة د.زكي نجيب محمود وأحمد أمين
- نظرية العود الأبدي
- مسلسل Dark  موقع IMDb
- كتاب النظرية النسبية مقدمة قصيرة جداً
- شرح تجربة قطة شرودنجر 
- الإرادة عند شوبنهاور

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ٍسيد محمد

اترك تعليقا