شرودنجر … ما بين نظرية الكم وسر الحياة.

قطط ونساء وبصيرة نافذة.

في شهر يناير من كل عام تحل ذكرى وفاة العالم الكبير (إرفين شرودنجر)، ذلك الرجل الذي ارتبط اسمه مع (فيرنر هايزنبرغ) بواحدة من أشهر النظريات العلمية في القرن العشرين؛ “نظرية الكم“، وباعتبارهما من الآباء المؤسسين لميكانيكا الكم، كان للعلمين الكبيرين (إرفين شرودنجر) و(فيرنر هايزنبرغ)، العديد من السمات والإنجازات المشتركة؛ منها الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي لعبه كل منهما في الثقافة الشعبية.

اشتهر (هايزنبرغ) بمبدأ عدم اليقين؛ بينما جابت شهرة (شرودنجر) وقطته الآفاق. بالإضافة إلى ذلك، كان للرجلين إسهامات كبيرة في مختلف فروع الفيزياء، بالإضافة إلى إسهاماتهم الكبيرة فيما يتعلق بالتفسيرات الفلسفية لنظرية الكم. ومع ذلك، انفرد شرودنجر وحده بدوره الملهم والثوري، والذي لم ينل حقه من الشهرة في علم الأحياء؛ حيث توقع (شرودنجر) وجود “رمز وراثي” يفسِّر انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء، قبل عشر سنوات من اكتشاف كل من (واطسون) و(كريك) لتركيب الحمض النووي DNA.

شرودنجر شخصية مثيرة للجدل!

في 1926، طوَّر (شرودنجر) أثناء إحدى غزواته الغرامية في جبال الألب السويسرية، صيغة بديلة لنظرية الكم الأصلية لـ(هايزنبرغ) 1926، صيغة لخَّصتها المعادلة الموجية الشهيرة “معادلة شرودنجر”، التي تصف ببراعة الأنظمة الكمية؛ مثل الذرات والجزيئات، تلك المعادلة التي يعتبرها البعض أهم إنجازات العلم في القرن العشرين، فكان أهلًا  للحصول  على جائزة نوبل في الفيزياء التي نالها عام 1931، بعد سنة واحدة من حصول (هايزنبرغ) عليها.

ومن بعدها اتخذت حياة كلا العالمين مسارات منفصلة؛ فمع تصاعد موجة العداء للسامية في ألمانيا، مع تولي الحزب النازي بقيادة (أدولف هتلر) مقاليد الحكم في البلاد، غادر (إرفين شرودنجر) ألمانيا، متوجهًا إلى عاصمة الضباب لندن، لتحتضنه جامعة (أكسفورد) البريطانية على الفور، إلّا أن شخصيته المتحررة لم تنسجم تمامًا مع المجتمع البريطاني المحافظ؛ حيث اعتاد الرجل على العيش تحت سقف واحد بين زوجته (آن ماري) وعشيقته (هيلدا مارش)، بالإضافة إلى العديد من العلاقات العابرة، وما أن غادر (شرودنجر) لندن حتى بدأ جولة كبرى في جامعات الولايات الأمريكية واسكتلندا والنمسا. وفي عام 1939، دعاه رئيس الوزراء الإيرلندي (إيمون دي فاليرا) للانضمام إلى معهد الدراسات والأبحاث المتقدمة في دبلن بإيرلندا، وتولي رئاسة كلية الفيزياء النظرية هناك.

إعلان

شرودنجر ومصير القطة المسكينة.

في 1935، وبعد العديد من الرسائل المتبادلة مع (أينشتاين)، شهدت توافقًا كبيرًا بين الرجلين على رفض ما جاء به (بور) و(هايزنبرغ) في إطار تفسيرهما لنظرية الكم والذي اشتهر باسم “تفسير كوبنهاجن”، ليخرج علينا (شرودنجر) بتجربته الفكرية الشهيرة “قطة شرودنجر”، والتي حاول من خلالها إثارة قضية التناقض الذي يظهر عند محاولة تطبيق نظرية الكم على واقع حياتنا اليومية؛ فمن خلال طرح حالة كمية، تكون فيها القطة المحبوسة مع المادة المشعة وقارورة السم “ميتة وحيَّة في نفس الوقت”، ألقى (شرودنجر) حجرًا كبيرًا في بحر نظرية الكم المضطرب بطبيعته، وما زال مصير قطته المسكينة إلى اليوم مرهونًا بتفسيراتٍ فيزيائيةٍ وفلسفيةٍ متنوعة، تتردد أصداؤها في معاهد العلم في شتَّى أنحاء العالم.

ما الحياة؟

في بداية الحرب العالمية الثانية، استقر (شرودنجر) و(هيلدا مارش) في دبلن، وفي فبراير 1943 قدَّم سلسلة من المحاضرات غيَّرت إلى الأبد طريقة دراسة علم الأحياء، نظر (شرودنجر) إلى ظاهرة الحياة من وجهة نظر فيزيائية، محاولًا تفسير عمليات الوراثة، في وقتٍ كانت فيه أُسس علم الوراثة غير ناضجة.

كان الحمض النووي DNA قد تمَّ التعرف عليه سابقًا (منذ 1869)، لكن العلماء لم يكونوا قد تعرَّفوا بعد على بنيته أو دوره الوراثي. وبعد أن أمضى علماء الأحياء عقودًا في البحث عن المادة الوراثية، جاء (شرودنجر) بالقول الفصل: “لابدَّ من أن تكون المادة الوراثية جزيئًا معقدًا، يحتفظ هيكله الجزيئي بالمعلومات الوراثية في نوع من التعليمات البرمجية التي من شأنها أن تحدِّد تطوُّر وأداء الكائنات الحية”. كان (شرودنجر) أول من اقترح بوضوح فكرة الشيفرة الوراثية ووضع علامة على طريق العثور عليها. كان له فضل الحدس والبصيرة النافذة، اعتقد أن هيكل هذا الجزيء يجب أن يكون منتظمًا وليس مكررًا، تمامًا مثل الحمض النووي.

وكان كتاب “ما هي الحياة؟” 1944، الذي جمع تلك المحاضرات من (شرودنجر)، مصدر إلهام كبير لـ(جيمس واتسون) و(فرانسيس كريك)، اللذين اكتشفا تركيب الحمض النووي 1953، وكان اكتشاف ذلك الهيكل الحلزوني المزدوج بواسطة (واتسون) و(كريك) مقدمة لثورة الوراثة الجينية التي بلغت ذروتها في الستينيات، عندما تمكَّن العلم لأول مرة من فك شيفرة الجينات بفضل علماء مثل: الإسباني (سيفيرو اوتشوا)، والأمريكي (مارشال نيرينبيرغ)، والهندي (هار غوبيند خورانا).

وهنا نسوق بشرى هامة لقراء العربية وهي صدور الترجمة العربية للكتاب، عن دار هنداوي للنشر، وقام بالترجمة الدكتور أحمد سمير سعيد، الكاتب العلمي المعروف. ويمكن تحميل الكتاب مجانًا من الموقع الإلكتروني لدار النشر.

كتاب “ما الحياة” شرودنجر

فشل في نهاية المطاف.

اليوم نعرف أن الحياة هي الكيمياء، إن الحياة هي المعلومات. لقد تمكَّن العلم من كشف هذا السر بفضل حدس (إروين شرودنجر) والدفعة التي أعطاها لعلم الأحياء، بفضل طريقته المختلفة للنظر في ذلك العلم الذي لم يعد قاصرًا على علماء الأحياء وحدهم.

وفي حين أن جيلًا جديدًا من العلماء اتبع الطريق الذي اقترحه (شرودنجر)؛ إلا أنه كالعادة كان على موعد انعطاف جديد في مسيرته العلمية، حين أرادت  الأقدار التي فرَّقت بينه وبين (هايزنبرغ)، أن تجمعهما على درب الفيزياء مرة أخرى؛ حيث أمضى كلاهما  السنوات الأخيرة من مسيرتهما العلمية في العمل على تطوير نظرية المجال الموحد  “نظرية كل شيء”، التي من شأنها توحيد الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية. أعلن كلاهما عن نجاحه قبل الأوان، وكان الفشل في نهاية المطاف هو مصير تلك الجهود.

صورة شرودنجر على عملة الألف شلن النمساوية

توفي (إرفين شرودنجر) بعد صراعٍ مع مرضٍ عضال، في مسقط رأسه فيينا بتاريخ 4 يناير سنة 1961، ودفن في مقبرة تجمع رفاته ورفات زوجته (آن ماري)، وقد سطر على شاهد المقبرة معادلته الموجية الشهيرة، وما زالت صورته تتصدر حتى اليوم عملة الألف شلن النمساوية. نعم انتهت حياة واحد من أهم علماء الفيزياء الذين أحدثوا ثورة كبيرة على الصعيد العلمي؛ لكن  حلم  الوصول إلى نظرية كل شيء ما زال قائمًا، فهل نحن بحاجة إلى (شرودنجر) جديد؛ يكون لحدسه الفضل في توحيد نظريات الفيزياء؟

قد يعجبك أيضًا:  جائزة نوبل للفيزياء 2018

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2 مصدر3
فريق الإعداد

إعداد: زكريا أحمد عبد المطلب

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا