الفيروس الشرقي … الأبعاد الفلسفية وراء أشهر نظريات المؤامرة حول نشأة فيروس كورونا

في أيار/مايو 2020، انضمت جميع الدول الغربية، وبعض الدول الأخرى، إلى جوقة تطالب منظمة الصحة العالمية بإجراء تحقيق في كيفية ومكان نشأة فيروس كورنا. والآن دعمت الصين ذلك الطلب رسميا، جاء ذلك في إطار تداول العديد من النظريات حول نشأة فيروس كورونا ، جعلت الخيال الشعبي واثقا من تورط الصين في الأمر بطريقة أو بأخرى، من هذه النظريات  ما ادعى أصحابها أن الفيروس قد نشأ في الأسواق الرطبة لتداول الحيوانات البرية في ووهان؛ في حين ذهب أصحاب النظرية الأخرى أبعد من ذلك بادعائهم أن فيروس كورونا الذي انتشر في تلك الأسواق لم يكن طبيعيا، بل هو من صنع علماء صينين يعملون في المختبرات العلمية في ووهان. على الرغم من التباينات بين نظريتي “السوق الرطب” والفرضيات “التسرب التجريبي “إلا أن كلاهما ساهم في إضفاء الصبغة الشرقية على الفيروس” بحسب ما جاء في مقال  سوميابراتا تشودري علي موقع الصالون الفلسفي The philosophical salon

السر في المناعة

ذلك السياق الذي يعود بأصل الفيروس إلى أسواق الحيوانات في ووهان، يضعنا أمام إمكانية ظهور نوع مهم من البحوث التاريخية: تمسي فيه الأسواق مسرحا لعملية غامضة وطويلة، من اللقاءات البطيئة التي لا يمكن تجنبها بين أنواع من الكائنات البرية والمستأنسة ما كان لها أن تلتقي إلا هناك، ويبقي سؤال المناعة، هذا الفيروس الذي ينتقل من خلال الأنواع “البرية”، إذن كيف يتحايل على أجهزة المناعة في الأنواع المختلفة. لماذا لا تظهر أعراض المرض على الخفافيش، على عكس البشر؟ ولا شك أن تعزيز لغز المناعة يؤكد الحاجة إلى الدراسة المنهجية للمناعة المقارنة بين الأنواع.

Coronavirus Cradle? Inside China's Controversial 'Wet Markets'

أما لو كان فيروس كورونا من صنع الإنسان كما تدعي النظرية الثانية _ وهو ما تم نفيه مؤخرا _ فان ذلك يجعل مناعتنا البشرية أمام تحد أشد خطورة، ناشئ عما يمكن أن نسميه مشروع الوعي العلمي، وعي يفترض أن يكون سمة مميزة الجنس البشري، يضع في اعتباره زيادة القدرة المناعية لهذا النوع بالذات. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاضطراب الموجه ذاتيا، وهذا الضرر الذاتي يمكن أن يكون القصة المحزنة النموذجية ليس لتطور الأنواع، ولكن لتاريخ أنشطة النوع الإنساني بكل تناقضاته ومآزقه. في هذه الفرضية المعقدة على التاريخ. لا شيء يواجهنا بشكل صارخ وغير مُنَتقَد عند عتبة التاريخ سوى الهشاشة البيولوجية للحصانة البشرية.

الفيروس الشرقي

يري الكاتب أن دعاوى نشأة الفيروس في الأسواق الرطبة في ووهان وانتقاله من الحيوانات “البرية” إلى البشر تجعل العالم في مواجهة الأشباح الثقافية الصينية الماثلة في تلك الأسواق -أشباح ماثلة في فكر شعب وحضارة، لا زالت تحافظ إلى اليوم على اتصال مباشر ومستمر مع الطبيعة البرية البكر، هذا هو شبح يزعج الاتساق والحداثة لعالم يبدو مهددا من قبل عدو فيروسي مشترك. إذا كان هناك جزء ثقافي غير متناسق من هذا العالم – جزء له “خصائص صينية” – ملوثة جدا بالعدوى الحيوانية المعممة، فإن الفيروس المحدد يكاد يصبح “صينيا ” بشكل عام. وها تنجح النظرية الأولى في إضفاء الطابع الشرقي على الفيروس.

إعلان

Coronavirus 2019-nCoV Blood Sample. Corona virus outbreaking. Corona Virus in Lab. Scientist hold a tube with Blood Test awith the Virus. New Epidemic Corona Virus - Buy at rcfotostock this photo and

أم النظرية الثانية لها كما جاء في مقال “سوميابراتا تشودري” تتخذ مظهر الحداثة المنحرفة والساخرة، إذا كانت الصين قادرة على إنتاج فيروس قاتل في ظروف معملية اصطناعية وإطلاقه، -عمدا أو غير ذلك- فإن مثل هذا العمل لابد أنه قد تمت المصادقة عليه من قبل المشروعية المنقوصة للعلم الحديث، لا من قبل ثقافة عفا عليها الزمن. لكن الأمور لم يتم النظر إليها بهذا الشكل، فالعديد من الدول التي تؤيد نظرية فيروس صيني الصنع رسمت أيضا سيناريو أكثر سوءا لمؤامرة سياسية صينية من بنات أفكار طاغية شرقي. هذا الطاغية يمكن أن يكون رئيس الحكومة الصينية أو الحزب الشيوعي نفسه.

الاستبداد الشرقي الذي يؤرق العالم الحر يبدو متمتعا بصورة غامضة، باستغلال القوة السياسية لدولة حديثة، لكن المثير للاهتمام بنفس القدر أن هذه الشخصية الذي لا تكل عن الحديث عن “فيروس صيني” وتعزيز نظرية الفيروس المصنع في المعامل الصينية، هو شخص لا تزال نزواته وملذاته غامضة في الكثير من العالم المعاصر. إذا كان هناك مثال واضح على “الطاغية الشرقي” اليوم، حتى لو تم انتخابه ديمقراطيا، فهو دونالد ترامب الذي لم يجد صعوبة في ,وصف الفيروس بأنه “صيني“.

كيف رد ترامب على فضيحة تهربه عن دفع الضرائب لسنوات؟ | الميادين

الشرقي المستبد

يقترح الكاتب الفرنسي آلان غروسشار أن خيال الاستبداد الشرقي يدعمه في الواقع أولئك الأشخاص الذين يتخيلون وجود مساحة نقية وفارغة من السلطة مليئة بالمتعة وخالية تماما من المعرفة، يشغلها ذلك الوزير كلي السلطات الذي يطالعنا من خلال حكايات ألف ليلة وليلة، هذه البنية الاستشراقية نشأت تاريخيا في أوروبا التنويرية من خلال علاقتها المتشابكة مع الآخر الإسلامي والتي تشمل المشرقين الآخرين في عصرنا.

وفي عالم رأسمالي معولم، تجري كل وجهات النظر الاستشراقية على نفس المستوى. لذا، يمكننا أن نلاحظ، بشيء من السخرية والكثير من النفور، أن دونالد ترامب يندمج في الهياكل الغربية الموروثة للاستبداد الشرقي، كما بدا من خلال رد فعله الغريب على الآراء المهنية المتخصصة للدكتور أنتوني فاوتشي، الممثل الرئيسي لفرقة العمل المعنية بفيروس كورونا في البيت الأبيض.

وبعبارة أخرى، فإن شخصا ما في مركز السياسة العالمية يناشد خيال “الاستبداد الشرقي” الذي يهندس الوباء، بينما يظهر هو نفسه سمات هذا الطاغية المتخيل. وإلى هذا الحد، فإن نموذج الوعي العلمي الغربي الذي يتسق مع السياسة الديمقراطية قد أصبح مشوشا بالفعل بشكل لا رجعة فيه من خلال تدخل ترامب ودوافعه المستشرقة الغامضة. وهذا يقودنا إلى استجابة بديلة لمسألة منشأ الفيروس ووجهته: عتبة الاستجابة الأوروبية.

أوروبا الحائرة

بادئ ذي بدء، يتعين على المرء أن يدرك أنه بعد ظهوره في الصين، ضرب الفيروس ضربته الجماعية المحسوسة في أوروبا. كلمة “الجماعية” هنا لا تسمى ببساطة التأثير الجسدي التراكمي للمرض، ولكن أيضًا تأثيره على الوعي العام. هذا الوعي لا يفهم فقط من خلال الحياة البيولوجية فقط، بل من خلال النظر إلى أفق التشابك الذي لا ينفك قائما بين تلك الحياة والأنماط التاريخية للوجود العام الجماعي. ذلك الأفق التجاوزي الذي يُنَظَّر أن هذا التاريخ الأوروبي يصلح عالمياً لكل الوجود بغض النظر عن التفاوت الذي تمثله البنية التحتية البيولوجية لكل مجتمع على حدة.

ايمانويل كانط - ويكيبيديا

ألقى “إيمانويل كانط” بكلمة الافتتاح لهذا الأفق الأوروبي المتعالي حين صاغ أوروبا كعلامة محورية، على درب يسير فيه التاريخ قدما نحو أفق عالمي يسع البشر بكل أطيافهم، ولا سيّما من خلال فكرة «القانون الكسموسياسي» (القائم على مواطنة عالمية) الذي يسمح ببلورة ضرب من “الضيافة الكونية”، وفي الوقت نفسه، وكعلامة تاريخية لهذا الأفق العالمي، صنع اسم “أوروبا” مسافة هرمية بينها وبين بقية العالم، وتحديدًا في ذلك الوقت الذي كان فيه شخص مثل كانط يُنظر لجدارتها.

أوروبا في مواجهة الفيروس الشرقي

تظهر لنا هذه الضربة البيولوجية أن نموذج الوعي الأوروبي هو بناء أيديولوجي ينمو على تربة تاريخية. وهذا يعني أنه ليس في تجاوزا للواقع كما عند كانط، هي ضربة مؤلمة للدستور الفكري لأي “أوروبية Europeanism“، وبدا ذلك واضحا في استجابة الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن الفريدة والشجاعة والمحيرة للخطوات الأولى التي اتخذتها الحكومة الإيطالية في إغلاق البلاد في فبراير/شباط 2020.   انتقد أغامبن بشدة إعلان الحكومة عن حالة الاستثناء باسم الفيروس التاجي، واعتبر أن الحكومة كانت تُدخل الأزمة على  نحو يطبع “الاستثناء”، من خلال منح نفسها سلطة سياسية استثنائية، في حين أن الأزمة لم تكن -في رأيه- بتلك الخطورة وهو ما يراه سوميابراتا تشودري مثالية أوروبية معينة –أو وعيّا إيديولوجيا– كامنة في النزاهة المثالية لردّ فعل أغامبن على السياسة الحكومية التي ضربت بعرض الحائط ذلك الأفق العالمي المتعالي لـ “الأوروبية Europeanism“. وفي هذا الصدد، بدا أن أغامبن يتمسك بالوهمية المتمثلة في الخلود المحايد لأوروبا كمجتمع.

مأزق الحرية

إشكالية أخرى يثيرها سوميابراتا تشودري في مقاله، تتمثل في أزمة التناقض بين منهجية التعامل مع الفيروس من خلال فرض الحكومات الأوروبية لقيود على حركة الجمهور وفرض إجراءات تنظيمية صارمة على السكان وفقا لمعايير “المسافة الاجتماعية”، وبين مفهوم الحرية، واضعين في اعتبارنا أن أساس “الانضباط” ذاته، كما تكوّن تاريخيا داخل المجتمعات النموذجية، هو الحرية ذاتها، وهنا يقول البعض أن سعي الحكومات إلى تفعيل هذه الحرية في مجال الانضباط، والجمع بين الاستقلالية الذاتية والمجتمع المقيد كان أمرا اقتضته المطالب الصارمة لأزمة طارئة، وهو الأمر الذي لا يتفق معه جورجيو أغامبن.

ولكن فرضية الحرية هي في جوهرها مسكونة بالمغامرة. وفي إطار منطق حرية الإنسان، فإنها في ممارستها الاجتماعية، لن تتبع قسوة الطبيعة أو الجماعة، بقدر ما هما مظهران مكانيان. الحرية كما تعرف عليها الجميع تعيش في أفعال زمنية، ولطالما تجاوزت الرموز المكانية المعطاة مسبقا، وبدا واضحا للجميع أن القدرة على تجاوز الحدود الطبيعية والمجتمعية هي أمر جوهري في تطور الحرية التاريخي.

How to prepare for another Covid-19 lockdown — Quartz

والمفارقة هنا أنه في حالة الأزمة البيولوجية، يتطلب التنشيط الحكومي للحرية منعها من ارتكاب الأخطاء، والمفارقة هنا أن ارتكاب الأخطاء هو روح الحرية التي تعادي دوما صرامة الطقوس. لم يكن مفاجئا إذن أن اقترح طبيب (من الولايات المتحدة وليس من أوروبا بالمناسبة) على شبكة “سي إن إن”  أننا “نتطلع نحو الشرق”  بحثا عن نموذج من الطاعة الصارمة لإملاءات الإغلاق والابتعاد الاجتماعي، وهنا بدا واضحا أن التمسك بنموذج شرقي للسلوك الجماعي في هذه الحالة يقودنا إلى القطب الآخر من السلسلة الاستشراقية: إذا كان “الاستشراق” الترامبي في أحد القطبين يتكون من التمتع الغامض (والكارثي) باستبدال الحرية بالإغلاق الصارم -وفي الوسط تكمن أوروبا، لا تزال تحاول الاحتفاظ بتقديرها الذاتي المتعالي والعالمي بعيدا عن مستوى التجسيد الترامبي لـ “الفيروس الصيني”- ، ثم القطب الآخر في أقصى الشرق الذي يبدو راغبا في توليف الفرضية الغربية للحرية مع الثقافة الشرقية من الصرامة.

وعلى هذه التضاريس الاستشراقية، تحول النقد السياسي للبنية الشمولية للديكتاتورية الحزبية في الصين إلى إعجاب ثقافي بالانضباط الذي لا يلقي بالا للحرية. وأخيرا فإن إكساب الفيروس هوية شرقية على نطاق عالمي هو علامة واضحة على إكساب العالم بأسره تلك الهوية، وبما أن هناك عالما واحدا فقط اليوم، عالم غامض ذو هوية شرقية رأسمالية، فإن أي تنبؤ بحرب باردة جديدة لا يقوم على أساس المواجهة بين “عالمين” بل كمشهد لحرب أهلية باردة جديدة.

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زكريا عبدالمطلب

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا