وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ: كَيْفَ ضَلَّ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ؟ – تَأْوِيلٌ صُوفِيٌّ

قال تعالى: “وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ” [الضحى: 7]

وجد الله محمَّدًا؛ فأقام بنيانه بكلتا يديه، وصنعه على عينيه؛ وجده ضالًّا، فأوجده مَهْدِيًّا. كان وحده في غياهب العالَم؛ فخلَّصه الله وأخلصه، وأخرجه من ظلمات وجوده إلى أنوار وجوده وعلَّمَه. كان عليه أن يتوه حتى يجدَه الله، وتيهه وقوفٌ على إنسانِ الإنسانِ منه. أوقفه الله في إنسانيَّتِه، ثم أوقفه بعدُ على محمَّديَّتِه؛ فتحقَّق وتخلَّص.

حَيْرَتُه ضلال

كيف ضلَّ محمد وعند قدميه ينتهي الوهمُ والزَّيف؟ ما كان عليه إلا أن يضلَّ حتى ينعمَ بالهداية، وضلالُه حيرتُه وذهوله عن الله بالله؛ فمعرفة الحقِّ تعنى أن تحتار فيه! يقول ذو النون: “أَعْرَفُ النَّاس بالله، أشدُّهم تَحَيُّرًا فيه”.

لم يكن ضلالُه -صلَّى الله عليه وسلم- اتِّباعًا للباطل، حاشاه! ما هي إلا حيرته في قومه القائمين في ضلالٍ. ولأنَّ العارفَ واقف، والمُتَحيِّرَ يسير، أوقفَه الله على ما أراد من إنكارٍ عليهم، ونفى عنه الحيرةَ باليقين وحقَّقه، وكحَّل عينيه برؤية عينه حتى أدركه به بعد ذهوله عن الإدراك، وأراه حالَ قومِه مرذولا غير محمود، وألقى في نفسه طلبَ الوصول، فَأَوْصَلَه إليه.

ولمَّا هداه وأوصله؛ ضلَّ مرة أخرى عن البيان، فلم يُخَلِّه لنفسه، ولم يُوَدِّعْه، بل اشتمله ببيان طريق البيان لرهطه؛ فوعى، وأحسن البلاغ عن الله بالله لله! ثم ما لبث أنْ ضلَّ عنه قومُه؛ فهداهم إلى معرفتِه بمعرفتِه إياه؛ فتعرَّف الخلقُ على الحقِّ بالحقِّ القائم في نفس محمد!

عِشْقُه ضلال

سُئِلَ جعفر الصَّادق: ما العشق؟ قال: ضلال!

العشق نوع من الضلال، لأنَّه مجاوزة الحد في المحبَّة؛ نفي المعيَّة والحضور إلا للمعشوق وحده! يرى بعض المفسِّرين أنَّ الضلال كان ضلالا حقيقيًّا في شعاب مكَّة؛ فتكلَّفوا المعانيَ والأسباب. لعله ضلَّ فعلا، وتاه حقًّا، ولكن.. هل يستحقُّ الأمر أن يعدِّد الله عليه تلك النعمة؟!

إعلان

ضلَّ محمد في طريق العشق ودروبه، لا في مكة وشعابها، إلا إنْ كانتْ مكةُ هي أرض محبة محمدٍ ربَّه! ولأنَّ العشق كما يقول نجم الدين كبرى: “نار تحرق الحشا والكبد، وتطيش بالعقل، وتُعْمِي البصيرة، وتُهَوِّنُ ركوب الأهوال، وتُضَيِّق الحَلقَ حتى لا يعبُرَ فيه إلا النَّفَس“؛ لم يهتدِ العاشقُ الولْهانُ في طرقاتِ عشقه إلى سبيل يرضيه بالقرب؛ فانقلب غاضبًا يمتلئ بالوَجد؛ فلما رآه محبوبُه في مقام الوَلَه حزينًا، تجلَّى عليه أنْ لا تحزن، وأوقفه في مقام السَّعادة، وألبسه رداءَ الفَرَح؛ أنا ما ودَّعتُك، وما قليتُك، ولا يرضيني ولهُك وإن كان في عشقي ومحبتي… يا محمدُ أنا أحبك أمثالَ حبك، وأعشقكَ أضعافَ عِشْقِك، ولستَ يا حبيبي إلا مَظْهَرِي ومُظْهِري لعالم الوجودِ المَوجُودِ بكَ لك، المُنْعَدِمِ لي بي.

قال إخوة يوسفَ ليعقوب: “تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ”، ما ضلاله القديم؟ إنّه ضلال لا أول له؛ تَسَاقَطَ فيه بعشقه ومحبتِه يوسفَ؛ مِثال مثاله، وحقيقة سرِّه؛ فأضحى بقلبه تائهًا في بحار الشَّوق والعشق والمحبة؛ لا يرى من كلِّ ناحية إلا جمال معشوقه، ولا يستنشقُ من جميع الجهات إلا نسيمَ محبوبه، يخبر حالُه عن وَلَه المحبين، وضلال العاشقين! هذا حال يعقوب في عشقه يوسف، فكيف حالُ محمد في عشق الله؛ ذات ذاته، وحقيقة حقائقه، ومركز دوائره؟!

استغرق محمد في فعل المحبة؛ حتى غمضت عنه دقائقُها؛ فهداه الله بلُطفه؛ أنْ ألقى على عينيه قميصَه، كما ألقى البشيرُ قميصَ يوسف على عَيْنَيْ عَيْنِ يعقوب؛ فرأى بعد أنْ كان لا يرى!

إنَّ العاشق الهائم ينتظر لقاءَ الحقِّ، فيذهب نورُ عينِه بطول الوَجْد والحزن، ويجتمع عليه ضلال العمى والحيرة. عندئذ يظهرُ المعشوق بأُنسه؛ فينفي عن المُحِبِّ عَمَاءَ البصر والبصيرة، ويذيقه لذَّة التجلِّي والحضور، ويأتي عليه بنفحاته ونسائمه، ويشمله بأنفاسِه، وينفخ فيه بوقَ قيامتِه، ويطبِّب أسقامَه، ويُطيِّبُ خاطرَه بالهداية إليه به!

يقول روزبهان: “وحكمةُ إلقاء القميص على الوجه؛ أنَّ قميصَ الحبيب لم يكن له موضِع إلا وجه العاشق، وفي موضع يضع العاشق ترابَ أقدام المعشوقين على عيونهم؛ كيف لا يضعون قميص الأحباب على وجوههم؟ “.

ذهوله عن مقامه ضلال

يقول ابن عربي على لسان الله: يا محمد، إنَّ مُبْتَدأَ قدمِك، مُنْتَهى أوهامِ الخلائق!

أمسكَ اللهُ يدَ محمد في الطريق إليه حتى اهتدى، وما أنْ وقف في مقام الهداية حتى ضل عن قدره ومقداره، وذُهِلَ عن مكانته ومنزلتِه. هكذا يظلُّ المحبُّ ضالًا في عيني محبوبه ما دام قائما في الحب.

رآه الله ضالا عن نفسه؛ فقال: ما أنتَ؟

فقال محمد: أنا عاشق نورِك.

قال الله: كذبتَ وما عرَفْتَنِي؛ لا تحبّني ما دمتَ تراني غيرَك، طهِّر نفسك يا محمدُ من نفسك، ولا ترَ في الوجود إلا وجودي، ألم أقل: “كُلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ”؟ أنتَ شأن!

قال محمد: أنت أنا يا رب، وأنتَ العارف المُطْلَق، وأنا أتعرَّف بك.

قال الله: هذا مقامك، ولقد رفعتُك من كَتْم العدم إلى ظهور ظهوري! ومن ناسوتِ ناسوتِك إلى لاهوت لاهوتي، يا محمد، ما عرشي إلا عرشك، ولا إله إلا الله، تعني محمد رسول الله!

قال السِّري: لا تَصْلُحُ المَحَبَّةُ بَيْنَ اثنينِ، حتى يقولَ الواحدُ للآخر: يا أنا.

ويقول نجم الدين كبرى: “والاستهلاك أثر المحبة؛ فأوَّل المحبة طلبُ المحبوب للنفس، ثم بذل النفس، ثم نسيان الاثْنَيْنِيَّة، ثم الفناء في الوحدانيَّة”.

قول فصل

وجدك ضالَّا عن نفسك؛ فهداك إليك. ووجدك ضالًّا عن ربك، فعرَّفك به، ووجدك ضالا عن البيان؛ فأبانَ لك، ووجدك ضالا في دروب عشقه؛ فألقى عليك قميصَه. وجدك! من وجد من؟ وجد الله نفسَه على الأرض، ووجد محمد نفسه في السَّماء.

قال الله: ستظلُّ ضالًّا يا محمد ما دمتَ في كَنفي وتحت رعايتي.

قال محمد: ضلالي فيك اهتداء.

حقِّقْنا اللهمَّ بحقائقِ أهل القرب، واسلكْ بنَا مسالِك أهلِ الحُبّ.

قد يعجبك أيضًا: رسائلُ للفُرسان: معالم الطريق في سورةِ الكوثر

إعلان

مصدر صورة المقال
فريق الإعداد

إعداد: عبد العاطي طلبة

اترك تعليقا