نبذة عن العقد في القانون المدنيّ المصريّ

عندما تُطلَق كلمة “العقد” يتبادر إلى الذهن تلك الوثيقة الهامة المُحاطة بإطارٍ متين من الحماية القانونيّة، والتي تُقدَّم كحجةٍ قاطعةٍ إذا ما ثار نزاعٌ ما. لكن هل تتخيّل أنك لو ذهبت إلى الماركت واشتريتَ عددًا من السلع أنك بذلك أبرمتَ عقد بيع بصفتك مشتريًّا من غير أن تحرّر تلك الوثيقة المُقدّسة؟ ذلك أن العقد أساسه التراضي بين أطرافه، به يتحقق ويرتّب آثاره، ما لم يخصّ القانون عقدًا ما بالكتابة كشرط لانعقاده من الأساس، أي بدونها لا ينعقدُ العقدَ أصلًا، أو أن يجعل الكتابة وسيلةً لإثبات العقد، ما مفاده أن العقد قد أبرمَ بتراضي أطرافه، لكن لا دليل عليه في نظر القانون سوى الكتابة.

تتعدد مصادر الالتزام المدني في القانون المدنيّ المصريّ، وهي العقد والعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والإرادة المنفردة ونص القانون. ويظلّ العقد مصدرًا رئيسًا لنشأة الالتزام ونقله وتعديله وإنهائه. وفي تناول القانون للعقد تفاصيل وفروع لا يسعها المقام وقد أغنت بذلك المراجع، لكن في إطار الهدف من هذا المقال –وهو إعطاء القارئ غير المتخصص في القانون نبذة عن العقد – سوف أُلقي القليل من الضوء على أركان العقد وعلاقة الكتابة به وشروط صحته وزواله في القانون المدنيّ المصريّ.

أركان العقد وشروطه:

   للعقد أركان ثلاثة لا يقوم بدونها، هي التراضي والمحل والسبب، ولكلِّ ركن شروط صحة.

  • الركن الأول: الرضا: 

     تنص المادة ٨٩ من القانون المدني على :” يتم العقد بمجرّد أن يتبادل طرفان التعبيرَ عن إرادتين متطابقتين، مع مراعاة ما يقرّره القانون فوق ذلك من أوضاع معيّنة لانعقاد العقد”.

     وللتراضي عنصران، هما إيجابٌ يصدر من أحد المتعاقدين يوافقه قبول مُطابق له من المتعاقد الآخر. وفي صدور الإيجاب والقبول وتطابقهما وما إذا كان المتعاقدان في مجلس واحد أم جرى الأمر بين غائبين تفاصيل وإشكاليات ليس هنا مقام ذكرها. لكن ثمة ثلاث مسائل شديدة الصّلة بالواقع العملي أود الإشارة إليها. 

إعلان

     أولها أن هناك فرقًا بين الإيجاب ومجرّد المفاوضات التي تسبق الإيجاب، كأن يعرض الشخص التعاقد دون أن يحدّدَ أركانه، مثل أن يعرضَ شخصٌ منزلًا للبيع أو الإيجار دون ذكر الثمن أو الأجرة. (أ.د. عبد الرزاق أحمد السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني – المجلد الأول – دار النهضة العربية – الطبعة الثالثة – ١٩٨١ – ص٢٦٢) فهذه المفاوضات لا يتحقق بها الإيجاب عنصر في ركن التراضي.

     والمسألة الثانية هي فكرة القبول في عقود الإذعان. وعقود الإذعان هي العقود التي تنصب على خدمات ضرورية للجمهور يحتكرها طرفٌ قوي احتكارًا قانونيًا أو فعلياً مثل التعاقد مع شركات الغاز والتليفون. ويتحقق الإجاب هنا في صيغة موحدة تتضمن شروط التعاقد إلى الناس كافة، ويتحقق القبول بإذعان المستهلك – لهذا سميت بعقود الإذعان – إلى تلك الشروط وقبوله التعاقد بها. (أ.د. عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص ٢٩٣ وما بعدها).

     أما المسألة الثالثة، فهي مسألة العربون. والعربون وفقا لنص المادة ١٠٣ من القانون المدني ليس تعاقدًا نهائيًا، فيجوز العدول عنه ما لم يتّفق على غير ذلك، فإذا عدل من دفعه فقده، وإذا عدل من قبضه ردّ ضعفه حتى ولو لم يرتب العدول ضررًا.

التراضي والكتابة:

     قدّمنا أن الأصل في انعقاد العقود هو التراضي، فالعقد يبرم بتطابق إرادة المتعاقدين دون حاجةٍ إلى الكتابة. وقد تشترط الكتابة لإثبات العقد لا لوجوده كما هو الأمر بالنسبة لتصرفات معيّنة على التفصيل الوارد في قانون الإثبات، ما مفاده أن العقد قد ظهر إلى الوجود بمجرد تراضي أطرافه، لكن إذا ثار نزاعٌ في شأنه فلا يعتد في الإثبات إلا بالكتابة، وهذا أمرٌ مستقل عن وجود العقد. لكن قد يتشدّد القانون فيوجب كتابة عقود معيّنة حتى تنعقد، ففي هذه الحالة لا ينعقد العقد بمجرد التراضي، وإنما لا بد من إفراغه في ورقة رسميّة حتى يعتبر موجودًا مثل عقد هبة العقار.

شروط صحة التراضي:

أولا: صدور التراضي من ذي أهلية: (انظر أ.د. عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص ٣٤١ وما بعدها).

      يجب التمييز بين أهلية الوجوب وأهلية الأداء. وأهلية الوجوب هي صلاحية الشخص لأن تكون له حقوق وعليه واجبات، وهي تثبت للإنسان من وقت ميلاده حتى وفاته، ومن ثم تنتفي عن الجنين الذي ولد ميتًا، والميت بعد سداد ديونه، والشركة بعد تصفيتها. أما أهلية الأداء فهي صلاحية الشخص لاستعمال الحق. وكل من لديه أهليه أداء تتوافر فيه أهلية الوجوب، والعكس ليس صحيحا.

والعقود من حيث الأهلية أربعة أنواع:

  • عقود اغتناء يغتني من يباشرها دون أن يدفع مقابلًا كعقد الهبة بالنسبة للموهوب له.
  • عقود إدارة لاستغلال الشيء مثل الإيجار بالنسبة للمؤجر.
  • عقود تصرف ترد على الشيء للتصرف فيه بمقابل كالبيع بالنسبة للبائع والمشتري.
  • عقود تبرع يتصرف بها المتعاقد في الشيء بدون مقابل كالهبة بالنسبة للواهب.

     وتثبت الصلاحية في مباشرة جميع هذه الأنواع لمن توافرت فيه الأهلية الكاملة، فإذا نقصت الأهلية كان الشخص صالحًا لمباشرة بعضها فقط، أما إذا انعدمت الأهلية تنتفي عن الشخص صلاحية مباشرة جميع الأنواع. وسأضرب المثال على نقص الأهلية وانعدامها.

  • نقص الأهلية: مثل الصبي المميز الذي بلغ السابعة ولم يبلغ سن الرشد، فوفقا لنص المادة ١١١ مدني يجوز له إبرام التصرفات المالية النافعة نفعًا محضًا مثل قبول الهبة، بينما تبطل تصرفاته الضارة ضررًا محضًا مثل أن يهب من ماله. أما التصرفات الدائرة بين النفع والضرر مثل عقود الإدارة والتصرّف فيباشرها عنه الولي أو الوصي بضوابط معينة.
  • انعدام الأهلية: مثل الصبي غير المميز الذي لم يبلغ السابعة، فلا يستطيع إبرام أيّ عقد حتى لو كان من عقود الاغتناء، وتكون الولاية على ماله للولي أو الوصي. كذلك المجنون والمعتوه تبطل تصرفاتهما المبرمة بعد تسجيل قرار الحجر، أما قبل تسجيله فلا تبطل إلا إذا كانت حالة الجنون أو العته شائعة وقت التعاقد أو كان الطرف الآخر على بينة منها وفقا لنص المادة ١١٤ مدني.

ثانيا: أن تكون إرادة المتعاقدين غير مشوبة بعيب:

     وعيوب الإرادة هي الغلط والتدليس والإكراه والاستغلال.

  • الغلط الجوهري: ومن الأمثلة عليه الغلط في صفة جوهرية في الشيء مثل بيع شيء على أنه قديم مع أنه مجرّد تقليد للقديم. وكذا الغلط في شخص المتعاقد، كالغلط في شخص الموهوب له، والغلط في صفة من صفاته مثاله التعاقد مع أحد الفنيين مع الاعتقاد بأنه يحمل شهادة معينة ثم تبيّن أنه لا يحملها.

(انظر أ.د. عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص ٣٨٢ وما بعدها، وقد عرض أيضًا الغلط في قيمة الشيء والغلط في الباعث والغلط في الواقع والقانون).

  • التدليس: ومن الأمثلة عليه: الشركات والجمعيات التي تتّخذ لها من مظاهر الإعلان ما لا يتفق مع حقيقتها لتخدع الناس في أمرها، والأفراد الذين يظهرون بمظهر اليسار أو السعة أو يتخذون لأنفسهم صفات منتحلة. وكذا من يخفي المستندات، ومن يصطنعها، ومن يزور فيها حتى يحمل الغير على التعاقد معه وفق ما يريد. (أ.د. السنهوري – المرجع السابق – ص٤٢٥).
  • الإكراه: ويتحقق حسبما قضت محكمة النقض بتهديد المتعاقد بخطر جسيم يحدق بالنفس أو المال أو باستعمال وسائل لا قبل له باحتمالها أو التخلص منها ويؤدى إلى قبول المتعاقد ما لا يقبله اختيارًا. مثال الإكراه المبطل للرضا: يتحقق – وعلى ما جرى به قضاء محكمة النقض – بتهديد المتعاقد المكره بخطر جسيم محدق بنفسه أو بماله أو باستعماله وسائل ضغط أخرى لا قبل له باحتمالها أو التخلص منها، ويكون من نتيجة ذلك حصول رهبة تحمله على الإقرار بقبول ما لم يكن ليقبله اختياراً”.

(الطعن رقم ٩٦٤ لسنة ٤٦ق – جلسة ٢٥/١١/١٩٨١ – س٣٢ – ج٢ – ص٢١٠١)

  • الاستغلال: تنص المادة ١٢٩/١ مدني على: “إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الآخر، وتبيّن أن المتعاقد المغبون لم يُبرِم العقد إلا لأن المتعاقد الآخر قد استغل فيه طيشًا بيّنًا أو هوىً جامحًا، جاز للقاضي بناءً على طلب المتعاقد المغبون أن يُبطِل العقد أو أن يُنقِص التزامات هذا المتعاقد”.
  • الركن الثاني: المحل:

     خلاصة القول إن محل العقد هو الشيء الذي يلتزم المدين القيام به. ويشترط فيه أن يكون موجودًا إذا كان شيئًا، أو ممكنًا إذا كان عملًا أو امتناعًا عن عمل، وأن يكون معينًا أو قابلًا للتعيين، وأن يكون قابلًا للتعامل فيه. (أ.د. السنهوري المرجع السابق – ص ٥٠٢ و٥٠٣) فلا يجوز مثلاً إبرام عقد بيع كمية من المخدرات لعدم قابليتها للتعامل فيها.

  • الركن الثالث: السبب:

     السبب هو الغرض المباشر الذي يستهدف الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه، فإذا كان ركن المحل في العقد هو جواب سؤال: بماذا التزم المدين، فإن ركن السبب هو إجابة سؤال: لماذا التزم المدين. (أ.د. السنهوري – المرجع السابق – ص٥٥٥)

     وتنص المادة ١٣٦ مدني على: “إذا لم يكن للالتزام سبب، أو كان سببه مخالفًا للنظام العام أو الآداب، كان العقد باطلاً”. وقد قضي ببطلان عقد القرض إذا كان هدف المقترض أن يتمكن من المقامرة وكان المقرض عالمًا بهذا القصد. (أ.د. السنهوري – المرجع السابق – ص٦٢٩)

البطلان (البطلان المطلق) والقابلية للإبطال (البطلان النسبي):

     ذكرنا آنفًا أن للعقد أركانًا هي الرضا والمحل والسبب، وله شروط هي الأهلية وسلامة الإرادة من العيوب. وأركانه هي بمنزلة الأعمدة للبيت لا قيام له بدونها، فإذا لم توجد فلا وجود للبيت. أما الشروط فهي أمور إضافية لكي يكتسب البيت مظهره مثل المحارة، فالبيت بدونها موجود لكن ثمة عيب لحق به. لذا يترتب على تخلّف أركان العقد انعدامه أو بطلانه بطلانًا مطلاقًا، فالعقد لا وجود له وهو والعدم سواء، كأن ينعدم الرضا، أو يكون محل العقد غير قابل للتعامل فيه أو غير ممكن، أو يكون سببه غير مشروع. بينما يترتب على انتفاء شرط من شروطه قابلية العقد للإبطال أو بطلانه بطلانًا نسبيًا، كأن تتعيب إرادة أحد المتعاقدين بعيب من العيوب المذكورة آنفًا، أو يبرم ناقص الأهلية بنفسه عقدًا من ضمن طائفة العقود التي يجوز له إبرامها. والفرق بين العقد الباطل بطلانًا مطلقًا والعقد الباطل نسبيًا هو أن الأول يظل موصومًا بالبطلان، فهو عقد منعدم لا وجود له، أما العقد الباطل بطلانًا نسبيًا فهو عقد موجود لكنه قابل للإبطال إذا طلب ذلك من تقرر البطلان لمصلحته – كناقص الأهلية والمتعاقد الذي وقع في غلط أو تعرض للتدليس – في الأجل القانوني، ومن ثم يتحول إلى عقد صحيح إذا أجازه صاحب الحق في التمسك بالبطلان أو لم يطلب إبطاله في الموعد القانوني.

الفسخ:

     إذا لم يوفِّ أحد العاقدين بالتزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يطلب الحكم بفسخ العقد، وهذا هو الفسخ القضائي، أي الذي يقع بحكم القاضي. أما إذا كان عدم تنفيذ الالتزام راجعًا إلى استحالة تنفيذه لسبب أجنبي لا يد للمتعاقد فيه انقضت الالتزامات المتقابلة وانفسخ العقد بقوة القانون، وهذا هو الانفساخ. وللمتعاقدين أن يتراضيا على الفسخ، فيفسخ العقد باتفاق طرفيه، وهذا هو التفاسخ.

نرشح لك: القضاء المستعجل في القانون المصري.. مقال لغير المتخصصين

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسين علام

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا