ما هو التاريخ ؟ لم يعطنا أحد إجابة أكثر عمقاً من إجابة هيجل

كشف بحث هيجل عن الأنماط العالمية للتاريخ مفارقة: الحرية بدأت تظهر، لكنها غير مضمونة على الإطلاق

التاريخ -أو على الأقل دراسته- في حالة سيئة هذه الأيام. غالبًا ما يتفق الجميع على أن معرفة التاريخ أمر مهم، لكن في الولايات المتحدة -باستثناء المدارس الأكثر نخبة- فإن دراسة التاريخ في حالة من السقوط الحر. إذ يبدو أن عصرنا يشارك الفيلسوف الألماني جورج فيلهيلم فريدريش هيجل (1770-1831) شكوكيّته التي عبّر عنها عندما قال إن الدرس الوحيد الذي يعلمنا إياه التاريخ أنه لم يتعلّم أحد قط من التاريخ.

لماذا؟ إن الحاضر دائمًا جديد والمستقبل لم يتم اختباره، مما دفع الكثيرين إلى التعاطف مع تصريح رجل الأعمال الأمريكي هنري فورد عام 1921 بأن التاريخ إلى حدّ ما مجرد كلامٌ فارغ. ومع ذلك، هيجل نفسُه أيضًا جادل بشأن ذلك، بأنه على الرغم من أن الأمور تبدو فعليًا دائمًا مُستحدثة، إلا أن التاريخ يمنحنا في الواقع دليلًا أو فكرةً عن غاياتنا النهائية.

نحن نوع مميز: ماهيّة المخلوقات التي تمثّلنا دائمًا ما كانت مشكلة بالنسبة لنا -جزئيًا- لأننا نجعل من أنفسنا ضمن تلك الأنواع من المخلوقات التي نحن عليها، ولأننا نستكشف ذلك بكل الطرق المختلفة التي نعيش بها خارج حياتنا فرديًا وجماعيًا. لا تتضمن دراسة التاريخ سرد القصص أو تجميع الحقائق فقط، ففي بُنيتها الأوسع، إنها سرد للقصة الإنسانية التي تسعى تجريبيًا إلى فهم نفسها بكل الطرق الوافرة التي تشكّل نفسها (أي القصة الإنسانية) في الحياة اليومية، وأيضًا كيف يرتبط التغيير التاريخي ارتباطًا وثيقًا بالتغييرات في فهمنا الأساسي لأنفسنا، كما طرحها هيجل في سلسلة من المحاضرات في الفترة ما بين 1822-1830، “نحن” مُنتجات أنفسنا بشكل غريب ومميز، والدراسة الفلسفية للتاريخ هي دراسة حول كيف أننا غيّرنا أنفسنا عبر الزمن.

لم يتخيّل أحد قط تاريخًا فلسفيًا متطورًا وديناميكيًا أكثر من هيجل، يعتمد نسقه على ثلاث أفكار تأسيسية: أولًا، مفتاح “الفاعليّة الإنسانيّة” هو الوعي الذاتي، إذ إن قيام الناس بأي شيء يتّسم بأي حِس إنساني حقيقي هو من أجل معرفة ما نقوم به أثناء قيامنا بذلك. وهذا ينطبق حتى عندما لا نفكر تفكيرًا صريحًا في ما نفعله.

قد يعجبك: العلم والفلسفة أيهما أهم؟

إعلان

إليك مثالًا بسيطًا: أثناء قراءتك لهذا، افترضْ أنه قد وصلتك رسالة نصية من صديق: “ماذا تفعل؟” أجبت مباشرةً: “أنا أقرأ قطعة عن هيجل”. أنت عرَفت ماذا كنت تفعل دون حاجتك لفعل منفصل للتفكير في الأمر أو استخلاص الاستنتاجات. بدون أي تفكير إضافي، كنت تعلم أنك لم تكن تقفز بالمظلات، أو تستحم، أو تزاول أعمال البستنة أو تحلّ الكلمات المتقاطعة. أنت لم تنظر حولك وتستدل من الأدلة. أنت لم تحتج حتى إلى تفكّر ذاتي مخصص في ما كنت تفعله. في الواقع، بالتعبير الهيجلي، عندما تفعل شيئًا ولا تعرف على الإطلاق ما تفعله، فأنت حقًا لا تقوم بفعل شيءٍ على الإطلاق. بدلًا من ذلك، فإن الأشياء تحدث فقط. لنتأكد من ذلك، فإننا في بعض الأحيان ندرك بشكل مُبهم ما نقوم به. ومع ذلك، فحتى وعينا الذاتي البعيد المنعكس علينا هو في حد ذاته إضافة لتحقيق العلاقة الذاتية الهيجلية الأكثر عمقًا والأكثر تميّزًا: كل وعي هو وعي ذاتي.

ثانيًا، اعتقد هيجل أن الوعي الذاتي هو دائمًا مسألة تحديد مكان أنفسنا في نوع من الفضاء الاجتماعي من الـ”أنا” و الـ”نحن”. إن قول “أنا” أو قول “نحن” هو فقط تحدثٌ من أحد وجهي العملة المعدنية الجدلية ذاتها. في كثير من الحالات، تبدو ” نحن” وكأنها إضافة إلى الكثير من الحالات من “أنا أظن” أو “أنا أفعل”، ولكن بمغزاها الأساسي، “نحن” أساسية مثلها مثل “أنا”. كل وعي ذاتي فردي هو في الأساس اجتماعي. عمومية “نحن” تتجلى في الأعمال الفردية لكل واحد منا، لكن “نحن” في حد ذاتها ليست إلا الأفعال الفردية للأفراد من لحم ودم. عندما أعرف ما الذي أفعله، أدرك أيضًا أن ما أفعله هو -إذا جاز التعبير- الطريقة التي تفعل بها ال”نحن” ذلك.

من الخطأ الظن بأن جانبًا واحدًا من العملة أكثر أهميّة من غيره: “أنا” ليست مجرد نقطة دون محتوى إضافي مُستوعَب كليًّا ضمن فضاء اجتماعي “نحن”، ولا حتى “نحن”، الفضاء الاجتماعي، مجرد امتداد للكثير من ال”أنات” الفردية، فبدون الممارسين، لا يوجد هناك ممارسة كما أنه بدون الممارسة، لا يوجد ممارسون. من الصعب رؤية ذلك في بعض الأحيان، إذ كثيرًا ما تحاول الـ”أنا” فصل نفسها عن الـ”نحن” والتمرّد عليها. (فكر في الوجودية). في بعض الأحيان، تحاول الـ”أنا” أن تُمتصّ بالكامل ضمن الـ”نحن”. (فكر في ما يحلم به الشموليون). تحاول الـ”أنا ” أحيانًا ادّعاء الاعتراف الذي تبتغيه من  الـ”نحن” بالتظاهر بأنها ليست ما هي عليه. (فكر في الفنان المخادع). كل هذه الهيئات الناقصة من الـ”أنا” والـ”نحن” هي التي تكوّن ظهورهما المتباين في التاريخ.

قد يعجبك:فلسفة العقل المجنونة

ثالثًا، بالنسبة للبشر، تمامًا كما هي الحال مع أي نوع آخر، هنالك طرق يمكن أن تسير بها الأمور إلى الأفضل أو الأسوأ بالنسبة للأفراد داخل هذا النوع، فالأشجار بدون التربة الصحيحة لا تزدهر كالأشجار التي يمكن أن تكون بوجودها (أي التربة)، والذئاب بدون النطاق البيئي الصحيح لا يمكن أن تصبح الذئاب التي يمكن أن تكون بوجوده. وعلى نحو مشابه، يبني البشر الواعون ذاتيًا بيئات عائلية واجتماعية وثقافية وسياسية تجعل الإصدارات الأجدد والمختلفة والأفضل منا ممكنة الحدوث. لكن ما نستطيع جعل أنفسنا على شاكلته يعتمد على مكاننا في التاريخ، فأجداد أجدادك لم يحلموا قطّ بأن يكونوا مُبرمجي حاسوب. وقرويّو العصور الوسطى لم يتوقوا إلى أن يصبحوا مدراء متوسّطي المستوى ​​في شركة عالمية لجمع القمامة.

من “أنا” هو شيء مرتبط دائمًا بما نفعله “نحن”، لكن من الخطأ أن نعدّ أفعالنا الفردية ببساطة كتطبيقات منفردة لشيء مثل القواعد العامة. ومن الأفضل أن نقول إننا نمثل -بطرق أفضل أو أسوأ- ما يعنيه لنا كوننا أنفسنا، على سبيل المثال، في الصداقة أو لعب الشطرنج أو تقطيع الخضروات أو المواطنة، فعمومية الممارسة تضع الشروط التي يمكنني من خلالها الازدهار كأي شيء من هذه الأشياء. ومع ذلك، فإنني “أنا” الذي أحدد الطريقة التي أمثل بها هذه الممارسة، و”نحن” جميعًا نتشارك في رؤية مدى تلاقي وتباعد الاثنين “أنا” و”نحن” على نحوٍ جيّد.

كأفراد اجتماعيين واعين ذاتيًا، فإننا نعيد تشكيل حياتنا، ونعطي معاني جديدة للأشياء القديمة (من الجنس والطعام إلى آداب المائدة المعقدة) وبذلك نكتسب مجموعات من العادات الجديدة، وننهي ملامح حياتنا الحيوانية بطرق مفاجئة، ونستقر، و من ثمّ نرحل. ونادرًا ما تكون هذه العملية سلمية تمامًا، فنحن موجودون كأفراد بهويات اجتماعية في مساحات اجتماعية نؤسسها نحن بشكل متبادل ونحافظ عليها. بعض هذه العلاقات الاجتماعية مؤسسة على القوة الخالصة، والخضوع والإذلال (مثل العلاقات بين الأسياد والعبيد). الصراع مشترك وعامّ. التاريخ كما قال هيجل: يشبه منصة ذبح شاسعة المساحة تمت عليها التضحية بحياة الملايين وسعادتهم.

بالأخذ بالاعتبار طريقة تفسير وإعادة تفسير الأنواع الحية الواعية بذاتها لنفسها، فإن التاريخ مثير للاكتئاب للوهلة الأولى. حضارات كاملة وطُرُقٌ للعيش خرجت إلى الوجود ثم أَفَلَت، طرق العيش القديمة تلاشت، لا شيء يبدو مستقرًا. اقتراح هيجل الفلسفيّ الجريء أصرّ على أننا نرى هذا المَسير تبيانًا للطرق التي يولّد بها كل شكل فردي من أشكال الحياة الإنسانية الاجتماعية التوّتر والضغط من داخله. عندما تصل هذه التوترات إلى وتيرة مرتفعة بحيث يصبح هذا الشكل من العيش غير منطقي للمتشاركين في عيشه، يصبح هذا الشكل غير قابل للعيش به، بمجرد أن يصبح غير قابل للعيش به يتدمر وينهار، وفي النهاية يُفسح المجال لشكل آخر من أشكال الحياة، إذ يبرز الشكل الجديد للحياة عندما يلتقط الأشخاص الذين يعيشون في الحطام الثقافي لانهيار الشكل السابق الأجزاء التي لا تزال فاعلة، ويزيحون الأجزاء التي لم تعد فاعلة، ويصممون شيئًا جديدًا من ذلك الانهيار.

نرشح لك: لماذا يحب الشباب نيتشه ؟

إنهم يبنون مجتمعًا يطور نفسه حتى تقوده توتراته وضغوطه الداخلية إلى الانهيار أيضًا، وبعد ذلك ينبثق منه شكل جديد من أشكال الحياة. بالمُجمل، تشكّل هذه الهيئة من التاريخ الشكل المتغير لحياة الوعي الذاتي نفسه، وقد اختار هيجل المصطلح الألماني Geist (يُترجم “العقل” أو “الروح” اعتمادًا على المترجم) لتصوير ذلك، فبينما يتنقل Geist عبر التاريخ، فإنه يتخذ أشكالًا مختلفة كما يتخيل نفسه بطرق مختلفة، وعلى ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يفكرون فيه، فإنه هدف متحرك. وهذه القصة للانهيار والتجديد هي جدلية هيجل التاريخية.

وعلى الرغم من أن الفيلسوف الألماني هاينريك موريتز كايلوبوس (1796-1862) المنسيّ الآن قد تمكن من إقناع الكثير من الناس بأن ثالوث “القضية-النقيضة-التوليفة” يمثل جدلية هيجل للتاريخ، إلا أن هيجل نفسه لم يقل ذلك أبدًا. علاوة على ذلك، حتى في هذه اللمحة العامة السريعة، يمكننا أن نرى أن آراء هيجل الخاصة تتضمن أكثر بكثير من صيغة كايلوبوس المُلتبسة.

تفحّص هيجل تاريخ العالم لمعرفة ما إذا كان هناك أي نوع من المنطق في الطريقة التي تشكّل الـ”أنا” والـ”نحن” نفسيهما بها مع مرور الزمن. هل كان الـ geist يتحسن بأي شيء؟ كأوروبيٍّ في القرن التاسع عشر، لم يجد هيجل الكثير ليوصي به في حضارات آسيا وإفريقيا والأمريكيّتين. كل تلك الحضارات -كما اعتقد- قد توقفت عند مستوى معين من التطور أسماه “الإلحاد السياسي”، ففي رأي هيجل يعني “الإلحاد السياسي” أنه لا يمكن أن يكون هناك حكم استئنافٍ بعد فرمانات شيخ القبيلة أو الملك أو الإمبراطور. حتى إذا سنّ الإمبراطور القوانين وفرضها، يظلّ هذا الحكم “حكمًا بالقانون”، أي لا يزال حكمًا شخصيّ الطابع، وليس “حكم القانون” الذي يعدّ غير شخصيّ الطابع.

فالمبادئ التوجيهية في “الإلحاد السياسي” هي أن واحدًا فقط من الأعضاء في هذه المنظومة يكون حرًا (شيخ القبيلة، الإمبراطور، إلخ). وحده الذي يسن القوانين بحرية، وعلى البقية تجب الطاعة، ولا يوجد ما هو أعلى من ذلك لتقييم الفرمانات، وبهذا المعنى إذن، يمكن القول بأن شخصًا واحدًا هو الحر فقط (شيخ القبيلة، الإمبراطور، إلخ). بالطبع، هذه النظرة الكاريكاتورية تقول الكثير عن التحاملات الأوروبية في القرن التاسع عشر أكثر مما تقوله عن المجتمعات الأخرى، لكن نقطة هيجل أكثر عمومية.

اعتقد هيجل أنه فقط في العالم اليوناني القديم، تعدّى البشرية لأول مرة فكرة أن شخصًا واحدًا فقط في المجتمع يمكن أن يكون حرًا، إلى فكرة جسورة مفادها أن تعدديةً محدودةً -الذكور البالغون في المدينة- يستطيعون أن يحكموا معًا ويجب عليهم ذلك. ويقابلون بعضهم البعض كأفراد متساوين بدون امتلاك سلطة متأصلة فيهم على بعضهم البعض، بالإضافة إلى أنه بالنسبة لهؤلاء الإغريق، كما اعتقد هيجل، فإن الجميع كانوا يعلمون مواقعهم في تراتبيّتهم الاجتماعية وما كان من المفترض أن يفعلوه، و أجمعوا أيضًا على أنه إذا أدى كل منهم متطلبات مكانته الخاصة في تلك التراتبية، فإن المجتمع سينسجم مكونًّا شيئًا من الجمال. بدا هذا الاندماج للخصوصية الفردية والحياة المجتمعية مع بعضهما جيدًا إلى الحد الذي وصل إليه: حريةٌ فرديةٌ كاملة ومشبّعة قدر الإمكان فقط في نظام اجتماعي وسياسي متساوٍ للمواطنين الأحرار.

تتساءل آنتيجون وتطالب “إذا كان البعض أحرارًا، فلماذا لا أكون أنا أيضًا حرة؟

وعلى الرغم من ذلك، كان هناك دودة في التفاحة؛ إذ سلب اليونانيون حرّيتهم الخاصة قاصدين بذلك الاستقلال. بما أن الفرد لا يمكن أن يكون مستقلًا تمامًا في أحكامه وأفعاله إلا عندما يهتم فرد آخر باحتياجات الحياة الأخرى، فقد اعتقدوا بالتالي بأنهم خاضعون للعيش في عالم قائم بذاته على العبودية واضطهاد النساء. و على الرغم من أن بعض الإغريق قد وجدوا هذا الجَور مزعجًا، إلا أن الأغلبية ببساطة اعتبروه أسلوب العالم الحتمي الذي لا فرار منه. ومع ذلك، رأى هيجل قلق اليونانيين الكامن فيهم يظهر بشكل دراماتيكي في فنهم.

استقى مثاله المفضّل من تراجيديا صوفوكليس “أنتيجون”، ففي المسرحية، يجد أبناء أوديب وبناته أنفسهم في وضعٍ غير مستقر ومتقلّب. يقاتل اثنان من الأبناء بعضهما على ميراث حكم أوديب ويموتان في القتال، ويستولي خالهما كريون على مقاليد الحكم، ويحرم طقوس دفن أحد أبناء أخته، لكن ابنة أخته أنتيجون تتحداه بتولّيها مراسم الدفن سرًّا. تفعل ذلك لأن واجبها المطلق كشقيقة أن تفعل ذلك، لكنها تعرف جيدًا أيضًا أن واجبها المطلق كشقيقة مساوٍ لواجبها المطلق في طاعة كريون (خصوصًا كامرأة شابة). حُوصرت أنتيجون في وضعٍ يناقض فيه الحق نفسه. لديها أيضًا واجب مطلق بألّا تتخذ قرارها الخاص في ما يُطلب منها -إنها المحطة المخصصة لها في الحياة التي تتلقى فيها ما يجب عليها فعله- وستقوم الجوقة لاحقًا بإدانة هذا الفعل على أنه مسعى غير مبرر للاستقلال.

انشغلت أنتيجون بشغفها لتصل إلى شيء محظور طبيعيًا على النساء: إنها تريد الحرية، الأمر الذي يتطلب منها أن يُعترف بها كفردٍ مساوٍ للآخرين. لكن من لديه السلطة للاعتراف بها؟ ليس زوجًا (ليس في اليونان القديمة)، ليسوا أولادها (إذا أنجبت أيًا منهم)، ليسا والديها، ليست أختها، شقيقاها فقط يستطيعان فعل ذلك، وكلاهما ميت. في شغفها بالحرية، تحاول أنتيجون أن تستجلب هذا الاعتراف من أخيها الميت، كما يدرك أولئك الذين يعرفون المسرحية، ينتهي الأمر نهاية سيئة. ومع ذلك، تمثّل أنتيجون خلال مواجهتها الخطأ الذي حدث في النموذج اليوناني: الطريقة التي أُسس بها نظام للمساواة لبعض الرجال وإنكارها على البعض الآخر. وبفعلها ذاك، تصبح أنتيجون أيضًا صوت المستبعدين، مطالبةً بالاندماج والاعتراف كواحدة منّا، كمتساويةٍ معنا، وبالتالي كحرّةٍ متساويةٍ معنا. تتساءل أنتيجون و تُطالب: إذا كان البعض أحرارًا فلماذا لا أكون أنا أيضًا حرّة ؟ خلق هذا التساؤل في الجمهور اليوناني القديم شعورًا بعدم الثقة في أن نظامهم بأكمله كان بلا معنى و غير منطقي.

عندما قامت روما القديمة للهيمنة على اليونان، بدا ذلك في البداية وكأن طريقةً أكثر منطقية للحياة قد حضرت لتحل محل الفشل البدائي اليوناني، لكن روما نفسها انهارت. في أواخر المرحلة الأنتيكية، عندما أصبحت المسيحية هي الدين الإمبراطوري، ظهرت بذرة فكرة جديدة ضمن الهدف المتحرك لحياة الوعي الذاتي: إذا كان كل الناس أبناء الرب، فإننا جميعًا مجازيًّا إخوة وأخوات. قد تكون العبودية والاضطهاد هي القاعدة على الأرض، لكن المساواة كانت القاعدة في الحياة الآخرة، وعلى الرغم من أن التناقض ربما لم يكن جليًّا تمامًا في البداية، إلا أن بذرة الحساب الأخروي كانت قد زُرعت في أرض مسرح العالم، فمطالبة أنتيجون كانت في طريقها لتصبح كونيّة.

من وجهة نظر هيجل، ضلّت الحياة الأوروبية طريقهاإلى حدّ ما- لفترةٍ طويلة بعد زوال الديمقراطية اليونانية.

فقد استُبدل بالمزيج المكون من الثقافة الرومانية والقانون الروماني، وقبل كل شيء، القوة الغاشمة للجحافل الرومانية عالم مُغترب، شَعَر الناس فيه بأنهم مجبرون على الامتثال لمعايير واجهوا فيها مشكلةً في رؤية أنفسهم. مثل هذا العالم كان يترنح دائمًا بين الاستقرار الهش والشعور بالخوف من حماقته الخاصة. ومن وقتٍ إلى آخر كان هذا العالم ينزلق إلى الجنون المطلق. جنون الحروب الصليبية كان مثالًا على ذلك، إذ كان الهلع الجماعي بخصوص الشعوذة مثالًا آخر كانت نتيجته “القتل القضائي” لمئات من النساء. كل هذا حدث على خلفيّة ما وصفه هيجل “شعورٌ عالميٌّ بالعدم يتعقب أحوالهم خلال العالم”. كان العالم يعيش في نوع من الخوف لم يكن معقولًا في المقام الأخير.

هذا المزيج القابل للاشتعال المكوّن من الاغتراب عن النفس بسبب “العدم” و الغضب من ظلم النظام السائد اشتعل عام 1789 إبّان الثورة الفرنسية، التي سقطت فيها الدعائم التي تسند هيئة حياة الاغتراب. لقد تركت الثورة في أعقابها نوعًا من الحرية اعتبرت نفسها فيه غير مقيدة بالماضي، ومقيدة قليلًا بالطبيعة، وغير مقيدةٍ بالدين على الإطلاق. وكنتيجة لذلك، أو كما عدّها هيجل كنتيجة، فقد تركت لنفسها في البداية القليل من أجل بناء عالم جديد، باستثناء الأفكار الأكثر تجريدًا المتعلقة بالحرية غير المقيدة ذاتها والمزايا التي من المفترض أن تكون أكثر تقييدًا للمواطنين في دعمهم للحكومة الثورية. ومع ذلك، بعد التشنج القصير بسبب العنف في عهد الإرهاب (1793-1994)، استقرت الأمور، وبعد عام 1815 كان النظام الجديد غير المتغير قد تأسس بحيث تصبح ثمار الثورة تدريجيًا أكثر واقعية. أو هكذا أمل هيجل.

لم يتردد هيجل أبدًا في إبداء إعجابه بالثورة الفرنسية -كان يحتفل بها دائمًا في الرابع عشر من يوليو لأنه اعتقد أنها مثلت لحظة فاصلة في الحداثة الأوروبية؛ فقد طبقت الانتقال في التاريخ من “البعض أحرار” (كما هو الحال في اليونان وروما) إلى “الجميع أحرار”، أو لنقلها بعبارة أخرى، لقد جعلت فكرة أن لا أحد لديه سلطة أعلى طبيعيًا على أحد آخر، فكرةً حقيقية: لا أحد، لا سلطة لعرقٍ على آخر، ولا سلطة للرجال على النساء، ولا سلطة لملّاك الأراضي على أقنان الأرض، ولا سلطة للأرستقراطيين على العوام، فبمجرد أن يقبض الناس على هذه الفكرة من الحرية و المساواة، لا يعود ممكنًا إعادة الجنّي إلى الزجاجة. أفَلَ النظام القديم القائم على الخضوع الطبيعي الآن -نظريًا على الأقل- فبما أن الـ Geist قد تطوّر، فإن فكرة التبعية الطبيعية المتضمنة فيه لم تعد منطقية على الإطلاق.

بذلك، فإن كل شيء آخر، من الحياة الأسرية إلى بنية الدولة، يجب أن يتغير أيضًا. (تضمن ذلك بالتأكيد تحويل “طرق تقليدية لفعل الأشياء” إلى أسئلة أكثر مما كان حتى هيجل نفسه ينوي الاعتراف به). كما أنه أيضًا لم يكن هنالك أيّ شيء يمثّل بشكلٍ كامل وبطريقة مباشرة خبرة القرن التاسع عشر الأوروبيّة. لم تعنِ جملة “الكل أحرار” أنه في ضربة واحدة قد زال الاضطهاد، لكنها عنت أن صورة جديدة كليًا “للوكالة” قد صعدت لأول مرة على مسرح العالم. والأهم من ذلك أن هذه الصورة قد أشارت إلى حدوث تغيّر في مفهوم العدالة.، أن العدالة لم تعد بعد الآن عنصرًا ميتافيزيقيًا من عناصر نظام العالم الأبدي، وأنها الآن أصبحت الميزة الرئيسية لعالم المواطنين الأحرار و المتساوين.

تاريخ العالم هو كيف أن فكرة الحرية والمساواة قد فُرضت علينا بواسطتنا “نحن” أنفسنا.

عقب انتهاء قصة الثورة، اتخذ العالم الحديث شكله الجديد باعتباره “شكلًا للحياة”، وقد تضمن ذلك بالطبع لائحة المعايير الخاصة بالحقوق العامة والمجرّدة التي انشهرت في القرن السابع عشر على يد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (حق العيش وحق الحرية و حق الملكية)، ولكن الأهم من ذلك أنه هذا الشكل قد جعل الحياة الأخلاقية بشمولها العيش بأسباب مقبولة للجميع وليس قبول المجتمع الصغير للشخص لها فقط، جزءًا أساسيًا من تركيبتنا النفسية الحديثة، ولقد جعل هاتين الميزتين للحياة حقيقيّتين بتضمينهما في ممارسات ومؤسسات أكثر تخصيصًا. على سبيل المثال، ضمّنها في الأهمية المطلقة لعلاقات الحب والصداقة و العلاقات الأسرية المتمحورة حول تربية الأطفال ليصبحوا أفرادًا مستقلين بذاتهم ليكونوا بدورهم مواطنين صالحين أيضًا. كما قد جعل الحكم بسيادة القانون مبدأً دستوريًا، وبالتالي حوّل وضع الناس إلى الأبد من رعايا للأمير إلى مواطنين في دولة دستورية. ولقد أمّن هذا الشكل مجالًا حيويًّا من الحياة أطلق عليه هيجل اسم “المجتمع المدني” الذي جمع قوى إنتاج السوق المكتشفة حديثًا مع مجموعة من المؤسسات من صلبها، التي من المفترض أن تهدئ وتذلل قوى الرأسمالية الهدّامة الأخرى التي هددت بالتهام وتشويه أعمدة الحب والصداقة الأساسيّة من جهة، والمواطنة والعدالة من جهة أخرى.

ابتدأ هيجل خلال عقده الأخير بالقلق أكثر و أكثر حول آرائه بخصوص هذه القفلة التاريخية. على الرغم من أنه أشار إلى طلابه أنه من غير المنطقي كليًّا الآن أن تشن الدول الأوروبية الحروب على بعضها البعض، و لقد كان محقًا في ظنه ذلك، ولكنه كان مخطئًا بشأن ما إذا كانت ستُشنّ هذه الحروب. و لقد أصبح أيضًا متشائمًا بشكل متزايد بشأن ما إذا كانت السوق الرأسمالية يمكن أن يُسَيطر عليها بواسطة المؤسسات الأخرى للمجتمع المدني (على الرغم من أنه لم يتخل عن فكرة أنها يمكنها فعل ذلك). كما أنه قلِقَ من أن الفردية المفرطة التي تحثّنا عليها السوق ستكون كافيةً ربما لجعل العرض (أي المجتمع المدني) بأكمله مستحيلًا. في الواقع، و كما قال لصفه في دروس فلسفة التاريخ عام 1831، فإن عدم التوافق هذا بين الفردية المتطرفة الحديثة و الاحتياجات الضرورية لحياة اجتماعية وسياسية جيدة ومستقرة قد شكّل تعارضًا أسماهُ “عقدة” التي توقف عندها التاريخ بعد عام 1830. فعندما تقود تنافسيّة السوق إلى التنافس ولا تقود بالضرورة إلى مجتمع تعاونيّ، ينقسم الناس إلى زُمَر، وهذا يجعل وجود أي حكومة مستحيلًا، ذلك لأن الحكومة ستبدو دائمًا مجرد زمرة واحدة تحكم الآخرين مؤقتًا. إنها هذه العقدة، كما أخبر هيجل طلابه، التي يجب على المستقبل حلّها. ولقد توفّي هيجل بشكل غير متوقع بعد بضعة أشهر فقط من قوله هذا.

نستخرج أخيرًا من انهيارات أشكال الحياة الاجتماعية السابقة تصورًا فلسفيًا كاملًا تقريبًا وأكثر وضوحًا عن الفاعليّة الإنسانية. الفاعلون واعون ذاتيًا، ميتافيزيقيون اجتماعيًا في وعيهم الذاتي؛ يجعلون هذه الفاعلية المجردة حقيقيةً ومحددةً بأشكال مختلفة من الحياة، وهذه الأشكال من الحياة تقوض نفسها تدريجيًا في التاريخ. مجازيًا، توصل الـ Geist “نحن” إلى هذه الخلاصة من خلال عصر نفسه داخل تصوّرٍ ذاتي بأن الجميع أحرارٌ ومتساوون، ولا يمكنه منطقيًا أن يتراجع عن ذلك. نظرًا لأن كل شيء أتى من قبل قد انهار الآن، فقد اضطررنا الآن إلى تحويل أفكارنا إلى أي مدى جعلنا هذه الفكرة حقيقية، ومع اهتمامنا الجديد بالحقيقة الموضوعية، فلقد اكتشفنا أن استعمارنا وعنصريتنا والتمييز على أساس الجنس لدينا وتجاهلنا لسياقنا الطبيعي على خلاف حقًا مع كل ما اعتبرنا أنفسنا نصبو إليه.

ما تعلمناه “نحن” الآن من الناحية الفلسفية والعملية هو أنه من الشكل المفترض للفاعليّة في المدن الديمقراطية لليونان القديمة مرورًا بالأنفس المغتربة عن ذاتها في أوروبا الحديثة المبكرة، وانتهاءً بوجهة النظر ما بعد الثورية بأننا “جميعًا أحرار”، فإن تاريخ العالم ليس إلا الطريقة التي فُرضت علينا بها فكرة الحرية والمساواة بواسطتنا “نحن” أنفسنا وتُطالب الآن بأن تكون حقيقة. إذن، إلى أين سينتهي حالالـ “نحن “؟ لن تخبرنا الفلسفة، هكذا أشار هيجل. بومة مينيرفا (إلهة الحكمة) تطير فقط عندما تغرب الشمس فعلًا. الحرية والمساواة تظلّان غير قابلتين للتفاوض، الجميع يطالبون بتضمينهما في تلك المطالبة، لكنّ عقدة تحقيق ذلك تبقى مربوطة.

المصدر
The spirit of history

إعلان

مصدر
فريق الإعداد

إعداد: فراس حمدان

تدقيق لغوي: اسماء اسماعيل

الصورة: مريم

اترك تعليقا