هيجل وسلطة المنطق

لازلنا في حدود الإنتاج الغربي للفكرة، فكرة هيجل عن وحدة الوجود التي ظهرت على مناحٍ متعدِّدة في حضارات مختلفة، لكن هيجل كان أوَّل من نجح في أن يصنع منها قانوناً منطقياً يحكم العالم الإنساني وما سواه، حيث هيجل هو المرحلة الثانية بعد أرسطو في تطوُّر المنطق الإنساني.سبت ماركس

في حديثنا عن هيجل نحن نعلم أننا لا نتحدَّث إلَّا عن بضعة أشياء من الفلسفة الهيجلية؛ فلا يمكن حصر رجل مثل هذا في مقال أو عدة مقالات أو حتى عدة كتب. لنسأل أوّلًا: «ما هي» الفلسفة؟ إنَّ الفلسفة -في- رأي هيجل- مثل «بومة منيرفا» لا تحلِّق إلا عند مقدم الأصيل، كذلك هي الفلسفة الهيجلية؛ فالفلسفة لا تأتي إلا في النهاية، أي بعد حدوث الواقعة لتفسِّرها، وهنا تتجه الفلسفة الهيجلية نفس النهج الأرسطي: الفهم، لا التغيير أو التثوير. وهكذا هو المطلق أيضًا، لا يأتي إلَّا في النهاية، وأنَّ النهاية ليست غير البداية؛ فالمنطق الذي يبدأ بدراسة الفكرة، ينتهي عند الفكرة، المنطق الذي يبدأ بدراسة الروح ينتهي عند الروح لكن في شكلها المطلق، فالمطلق لا يتحقق عند هيجل إلَّا في النهاية؛ وهكذا تكون نهاية الفلسفة هي بدايتها أيضًا، وهذا معنى قوله أن الفلسفة دائرة مغلقة؛ تبدأ من ذاتها وتنتهي عند ذاتها؛ أي تدور حول ذاتها.

ماذا علينا أن نسأل الآن؟ لن نسأل نحن ما هو المنطق، أو ما هي الفكرة، لكننا سنسأل كما سأل هيجل في موسوعته الفلسفية على لسان بيلاطُس وهو يحدِّث المسيح: ما هو الحقُّ؟ إن موضوع المنطق والفلسفة الهيجلية بأكملها هي الحقيقة، وهي كلمة كانت ولا تزال سامية ونبيلة. وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماس الإنسان ونشاطه ما بقى فيه من عرق ينبض وروح يشعر. هكذا يقول هيجل.

لمحة من تاريخ الفكرة

بدايةً، هيجل متأثرًا بكانط ومصاحبًا للرومانسيين: يكتب هيجل في بداياته كتاب عنوانه “حياة يسوع” وهو سرد لحياة المسيح عن الأناجيل عن اللغة اليونانية، لكن يفاجئنا هيجل أنَّه يكتب حياة المسيح دون معجزة واحدة! وهنا يصنع هيجل مسيحًا كانطيًّا، أي مسيحًا في «حدود العقل»، ويظهر بالطبع تأثير سابق على كانط، وهو تأثُّر بالمتصوِّف العلامة “مايستر إيكهارت” (قام إيريك فروم بمقارنة مايستر إيكهارت بماركس أيضًا؛ فيبدو أنَّ الاثنين تأثَّروا به). وفي عام 1796 يجتمع هيجل وهلدرلين وشلّنغ (ثالوث توبنغن) على ضربٍ من التشريع النظريّ (وهو ما أُطلِق عليه أقدم برنامج نسق في المثالية الألمانية) لبرنامج ميتافيزيقيّ جديد: يجب تحقيق ميثولوجيا العقل، يجب أن تكتمل الفلسفة، أو على التدقيق، فلسفة الروح، لتصير استطيقا، توحد فيها فكرة الجمال الأفكار كلها، أي أنَّ الفن هو الأرغون الوحيد للفلسفة، ويوضع هنا مفهوم “الفيلسوف/الشاعر” (الزواج بين الطبيعة والروح). وقامت هذه المدرسة على تأثير عميق من فيخته (الكانطيّ الشهير)، وشِعر جوته ،والثورة الفرنسية، والروح السبينوزية التي عادت تحلّٓق من بعيد في كتابات شلنغ مازجًا لها بكتابات فيخته (مزيج بين الفلسفة النقدية (كانط وقيمته) والفلسفة التوكيدية (سبينوزا) وهو التأثير الذي سيستمر مع هيجل).

إنَّ طرافة الرومانسيين -على حدِّ تعبير فتحي المسكيني- أنَّهم تسابقوا على وحدة الوجود؛ فنجد عند هيجل الفكرة المطلقة، وعند شلنغ الهوية المطلقة، وعند فيخته مثلًا وحدة الأنا. وفي عام 1801 يكتب هيجل كتاب “الفرق بين نسق فيخته ونسق شلنغ في الفلسفة” ويأتي منحازًا لصديقه شلنغ ضد الفلسفة النقدية المتمثلة في فيخته (المتأثِّرة بكانط).

إعلان

هيجل ينقلب على الرومانسيين ويطرد التأثير الكانطيّ:

في عام 1807 يكتب هيجل كتابه الشهير “فينومينولوجيا الروح”، وفي استهلالِه يسخر من صديقه شلنغ قائلًا: «أن يهب المرء مطلقه لليل الذي من العادة القول فيه إنَّ كل الأبقار فيه سوداء، إنَّما هو سذاجة الخلاء في المعرفة». وقد قال هيغل عن مطلق شلنغ من قبل: «إنَّ الهوية أو المطلق الذي قال بل شلنغ، والذي بالرغم من طبيعته الغامضة وغير القابلة للوصف يضم الحقيقة كلها، يشبه “الليل الأبدي الذي تكون في كل الأبقار سوداء” إنَّ التفكير في طبيعته يشبه التفكير في لاشيء، ومع ذلك كانت طبيعة هذا المطلق أعمق من كل الحقائق،ومن الذات ومن العالم الخارجي، ومن أي شيء عرفته الفلسفة من قبل»*.

ولا يكتفِ هيجل بهذا، بل إنَّه يسخر من كانط نفسه، يقول: «إنَّ كانط يرى أن كل شيء ذاتي في معارفنا، يستوي في ذلك أن يكون هذا الشيء إحساسات أو علاقات بين إحساسات. ولكن هذه الذاتية المزدوجة إنما هي التي تخلق موضوعية الظواهر، فيا له من تناقض عجيب!.» ويكمل: «وإنَّ المثالية الترنسندنتالية تترك مكانًا في صميم مذهبها للتناقض، ولكنها لا تريد للشيء في ذاته أن يكون حاملًا لهذا التناقض، بل هي تقتصر على وضع هذا التناقض في صميم عقلنا نحن… إنَّها بلا شك شفقة زائدة عن الحد على الأشياء! ولكن الأشياء -وا أسفاه- إنَّما هي نفسها التي تنطوي على التناقض فيما بينها».

إنَّ العقل الهيجلي يطرد كلَّ تواضع أمام الحقيقة، ويطلق العنان لكل إمكانية ممكنة للعقل، ولا يضع أمام الفاهمة حدودًا، بل إنَّه «يكتشف» إلهًا محاربًا تراجيديًّا، جسده مخضب بالدماء وتراب مراحل الحياة الإنسانية، يظهر أمامنا معذبًا ومجروحًا، ولكنه منتصر؛ منتصر على الأشياء بتناقضاتها ليصير وليبتلع العالم! إنَّ هيجل ينقلب على معلِّميه وأصدقائه الأوائل -وهو الذي خرج من رحمهم- كما سينقلب عليه فيما بعد كارل ماركس، كما انقلب فيما سبق أرسطو على أفلاطون، وانقلب بعدهم هيدغر على إدموند هوسرل؛ كأنَّ الفلسفة في جوهرها ليست إلَّا لُعبة تقلُّبات!**.

الفكرة

بعد أن رأينا جزءًا من تطوُّر الفكر الهيجلي وكيف كان العصر عصر تسابق حول “وحدة الوجود” لنتجه الآن إلى الجدل:

أولًا:

فعل “الرفع” (Aufheben): الذي يعني في آن واحد «المحو» أو «الإلغاء» من جهة، و«المحافظة» أو «الإبقاء» من جهة أخرى. ومعنى هذا أنَّ الحاوي للموضوع، أي المركب، يقضي على الموضوع ونقيضه، ولكنه يحافظ عليهما بداخله في وحدته العليا. إنَّه يمحو أوَّلًا الاختلافات، ثم يدمج ثانيًا بينهما في وحدة واحدة لأن المركب سيسمو بكل منهما إلى حقيقة أعلى، فهو يحوِّلها إلى مجال أسمى ويخلق حقيقة أخرى جديدة، وهو ما استخدمه الماركسيين فيما بعد وأطلقوا عليه «قانون التحوُّل الكيفي».

ثانيًا:

المنهج الجدلي وخلاصة المذهب

لنصعد بعقلنا إلى التفكير المحض قبل أن نصل إلى الوجود المتعيَّن، فنحن هنا نتحدث عن تفكيرٍ خالص، لم يتعين بعدُ، عن الوجود الأوَّل الخالي من كل تعيّن (نقطة الصفر). ويجب أن نعلم أنَّ المنهج الجدلي لا يفكر إلا في الكليات، وهو ينتقل في خطواته الثلاثية بين كليات، أي من كلي إلى كلي آخر، يجمع بينهما كلي ثالث. والكلي عبارة عن تصور، والتصور عبارة عن فكرة، والفكر هو موضوع نشاط العقل، ونشاط العقل هو المنهج الجدلي عند هيجل. والكليات بالطبع درجات؛ فهناك كليات مستمدة من الحس كالمنضدة والشجرة والمنزل. وهناك كليات شبه حسية مثل كليات الرياضة كالدائرة والمربع. وهناك كليات خالصة وهي المقولات كالوجود والعدم. وإنَّ الخطوات الثلاث لا تمثِّل ثلاث مراحل، وإنَّما هي خطوة واحدة ثلاثية الإيقاع، أو هي ثلاثة جوانب لشيء واحد. وهي مدمجة في ناتج واحد وهو ما نسميه بالكلي. ولئن كان الجدل يتضح في دراسته المقولات الخالصة وما يأتي بعدها هو قائم عليها (الوجود، العدم، الصيرورة) فلنتجه إليها الآن:

1- الوجود، العدم، الصيرورة؛ وحدة الأضداد: قلنا أنَّنا نتحدَّث عن الوجود الأول، عن نقطة البداية، ولأنَّه الأوَّل فهو خالي من كلِّ تعيين، أي لم يتعيَّن بعد. فهو إذن فكرة خالصة؛ ولأن الوجود خالي من كلِّ شيء فهو لا يختلف عن العدم، بل إنَّه هو العدم؛ لأنَّ ما هو العدم غير خلوّ؟ ما هو غير لا-تعيُّن؟ وهذا هو الانتقال البسيط المنطقي من الوجود إلى العدم؛ إنَّ الوجود ينتقل إلى العدم، والعدم أيضًا ينتقل إلى الوجود؛ وهذا الانتقال هو الصيرورة بعينها. بالطبع حديثنا هنا يشبه الاحجية، لكن لنيسِّر الأمر قليلًا: إنَّ الوجود هو (أ) ولأنَّه خالي من كلِّ تعين فهو ينتقل إلى شيء آخر، أي إلى العدم. فالوجود «يُسلَب» فورًا ويصير عدمًا. ولأنَّ العدم لا يختلف عن هذا الوجود فهو أيضاً (أ) ليس (ب) إنَّهم في الحقيقة واحد. فـ (أ) تسلب ذاتها إلى (أ) فيصير لدينا اثنين (أ) وهما كما قلنا واحد (لأنَّ طبيعتهم واحدة وهي الخلو من التعين) وهذا الانتقال هو الصيرورة؛ فالصيرورة هي عملية التحويل أو الانتقال؛ فالوجود يكمن في اللاوجود كصيرورة. وما يصدق على المثلث الأوَّل يصدق على المثلثات جميعها؛ لأنَّ المقولات العليا تحوي المقولات الدنيا،  والعكس صحيح أيضًا، كيف هذا؟ إنَّ الصيرورة مستنبطة من الوجود، والوجود مستنبط من الصيرورة؛ فلا يمكن استنباط مقولة من أخرى إلَّا إذا كانت الأولى تتضمن الثانية، مثلما أنَّ بذرة البلوط هي شجرة البلوط ضمنًا.

إنَّ الصيرورة تمثِّل خطوة إلى الأمام نحو الوصول إلى الحقيقة. إذن الصيرورة هي أولًا انتقال الوجود إلى العدم، لكن العدم هو في حد ذاته الوجود. وثانيًا هي انتقال العدم إلى الوجود لكن الوجود ما هو إلَّا عدمًا. هكذا تختفي الصيرورة وتتحطَّم. وليس تدمير الصيرورة هو الرجوع إلى العدم أو الوجود فنحن لا نعود إلى إحدى المقولتين، إنَّما هي اتحاد متوازن بين الوجود والعدم؛ وهذا الاتحاد المتوازن هو الوجود المتعين. ونحن الآن نبدأ مرحلة الظهور من الضمني إلى العلني. الضمني يكمن في الحدَّيْن الأولين (الوجود والعدم) والعلني يظهر بوحدتهما (الصيرورة). وكلَّما تقدَّم المنطق أصبح الوجود أكثر عينية، وستكون المقولة الأخيرة أكثر المقولات عينية.

إنَّنا الآن رأينا الفكرة كما هي في ذاتها، والمرحلة الثانية هي الطبيعة؛ فهي الفكرة في غيرها، والمرحلة الثالثة هي الروح، وأن الروح ليست غير الفكرة وقد عادت إلى ذاتها. إنَّ الطبيعة نقيض الفكرة المنطقية؛ فعلاقة الفكرة بالطبيعة هي علاقة القضية بالنقيض، كعلاقة الوجود بالعدم، فالعدم يختلف عن الوجود، فهو ضد الوجود، وكذلك الطبيعة فهي ضد الفكرة فهي ليست الفكرة. لكن الوجود كما ذكرنا متحد مع العدم. فالعدم هو الوجود. وبنفس الطريقة نجد أن الطبيعة متحدة مع نقيضها، مع الفكرة، فهي الفكرة، وهكذا تجتمع الأضداد مرة أخرى. وهنا نفهم مثلًا قول هيجل بأنَّ الطبيعة هي الفكرة في حالة اغتراب. والروح، أخيرًا، هي الفكرة وقد عادت من هذا الآخر، من الاغتراب الذاتي، إلى نفسها. إذن الفكرة تخرج من ذاتها إلى الطبيعة، ثم يتم الجمع بينهما بواسطة الروح. (يجب أن يراعي القارئ أنَّنا أهملنا الكثير من المقولات كالكمّ والماهية.. إلخ. وانتقلنا إلى ما بعد ذلك، فنحن بالطبع نأخذ لمحة عن طريقة سير الجدل، وأنَّ المرحلتين الأولى والأخيرة هما الأهم بالطبع، لكن يقع بينهما طريق طويل لن يسع لنا اليوم التحدَّث عنه).

العقل

إنَّ الجدل كما قلنا هو طريقة عمل العقل، لكن ما هو هذا العقل؟ أهو العقل الذاتي أم الموضوعي؟ هناك فارق بين العقل الذاتي والعقل الموضوعي؛ فالأوَّل هو العقل منظورًا إليه من ناحية المعرفة. والثاني هو العقل منظورًا إليه من ناحية الوجود. لكن ما المعرفة وما الوجود إلَّا إتحاد؟ إن العقل الذاتي متحد مع العقل الموضوعي لأنه مكون من رحلة هذا العقل الكلي من الأساس.

فالمنطق يصف العقل الأول الذي وجد قبل العالم، أو هو وصف لله كما هو في ذاته قبل أن يتجلَّى، لكنه بالطبع عقل مجرَّد تمامًا، وأن التجلي في الطبيعة هو الوجود الفعلي للروح؛ الروح التي تبدأ الآن في الوجود الفعلي في العالم؛ فالروح هي وحدة الفكرة والطبيعة؛ ولأن الطبيعة أشبه بلا-عقل، أو عقل متحجِّر كما وصفها شلنغ. وإنَّ العقل الأوَّل هو عقل مجرَّد؛ فالعقل الأوَّل إذًا اتحد بنقيضه، أي بالطبيعة التي هي لا-عقل؛ فالعقل هنا في حالة اغتراب عن ذاته، ويعود إلى ذاته عن طريق الإنسان؛ فالإنسان هو عودة الروح إلى ذاتها، إلى العقل؛ فالإنسان من الطبيعة ولكنه أيضًا وجود عقلي حيّ؛ وإنَّ الروح تعود من ضدِّها المطلق (المادة الصلبة) إلى نفسها، إلى المعقولية؛ ولأنَّه لا يتحقَّق المطلق إلَّا تدريجيًّا وجدليًّا؛ فـ الروح تتخذ هي أيضًا من الجدل طريقًا وتتحقَّق بطريقة ثلاثية جدلية؛ الروح الذاتي، الروح الموضوعي، الروح المطلق (ربما يسع لنا الحديث عن المراحل الثلاثة للروح في موضع آخر).

الفكرة الكلية

إنَّ هذه الرحلة العقلية الجدلية تصل في النهاية إلى الفكرة الشاملة، أو الفكرة الكلية التي بدورها تحتوي كل مراحل الوجود السابقة في جوفها، والنهاية العقلانية للروح تأتي في التحقُّق المطلق لها، ويحدث هذا بالفلسفة؛ فالفلسفة هي معرفة المطلق كما هو، ليس بطريقة رمزية كما في الدين، ولا بطريقةٍ حسية كما في الفن، لكنه التحقق المطلق والمعرفة المطلقة.

إنَّ مطلق هيجل يأتي في النهاية بعد خوض معارك كثيرة يظهر فيها منتصرًا، إنه يبتلع العالم ابتلاعًا حتى لا يصير إلَّا هو. فكلُّ الأشياء في طريقها تتحوَّل للمطلق. ومن ثمَّة لا يوجد أي شيء غيره.

إنَّ هيجل كما سبينوزا (مع الاحتفاظ بالفرق بين طريقة كل منهما واختلافهما) لا ير في العالم شيئًا سوى الروح، وإنَّ العقل في النهاية يسعى لها؛ فسبينوزا -بحسب هيجل- لا يرَ في العالم غير الله. كذلك هو هيجل أيضًا، ففي النهاية يصير العالم الله، يصير الإنسان جزءًا من هذا الكل العظيم، بل إنَّه خطة الروح ومرادها، ويصير التاريخ رحلة للروح؛ تُعرِّفُ ذاتها عن طريقه؛ تتحقق عن طريقه؛ تتجلى بشكلها المطلق في نهايته. نهايته! أللتاريخ نهاية؟ نعم، يرى هيجل أن تاريخ الروح قد اكتمل في الفلسفة، فلسفته تحديدًا، وأن هذه هي المعرفة المطلقة التي ليس بعدها معرفة، لأنها الفلسفة المكتملة التي ترى المطلق على أنَّه «الفكرة»، وأن الفلسفة الهيجلية هي التي تدرس هذه الفكرة الشاملة؛ فالفلسفة هي معرفة الفكرة نفسها لأنَّ ما يُعرَف هو الفكرة، وما يَعرِف (العقل الفلسفي) قد انفصل عن الحسي. فهو فكر خالص، أو هو الفكرة. وهكذا أصبحت الفكرة ذاتًا وموضوعًا. إن الروح الفلسفي يُنظَر إليه على أنه الغاية التي يصل إليها مسار العالم. وهكذا تكتمل دائرة الروح وتصل إلى مبتغاها.


هوامش:

*إن مطلق شلنغ، في الحقيقة، مشابه لمطلق هيجل، فإن الروح عند شلنغ تقطع شوطًا طويلًا، تحيا وتنتصر وتشق طريقها لأعلى حتى تجد الهيئة التي تستحق فكرها؛ وتجدها في مخلوق صغير يقف على الأرض، يسمى في لغتنا “بابن الإنسان” نتاج خطة الروح ومرادها. لكن هيجل ينتقد الطريقة التي يعمل بها الرومانسيُّ « إنما هي سذاجة الخلاء في المعرفة»، وإن الشكل الحقّ الذي تكون فيه الحقيقة إنما هو النسق العلمي الذي لها. فهو يتفق مع الرومانسيين في الكثير لكنه يختلف في المنهج، فهو لم يكن شاعرًا مثل شلنغ مثلًا؛ فهو لم يصل  إلى المطلق بطرق صوفية حالمة مثله، إنما أقام نسقًا علميًّا.

** ليس معنى أن هيجل انقلب على أصدقائه ومعلّميه أنه لم يتأثر بهما، فالتجاوز هنا هو تجاوز المنهج فقط كما أوضحت في الهامش السابق. في الحقيقة هيجل قد تأثر -تقريبًا- بتاريخ الفلسفة بأكمله؛ لأنه كان يؤمن بأن في كل فلسفة حقيقة ما، فلا توجد فلسفة خاطئة بطريقة كلية، وان تاريخ الفلسفة، في النهاية، هو تاريخ الروح؛ فهي تظهر بصور متفاوتة على مر التاريخ حتى تصل إلى شكلها المطلق.


مراجع ومصادر:

1- ولتر ستيس: المنطق وفلسفة الطبيعة، ترجمة: د.إمام عبد الفتاح

2- ولتر ستيس: فلسفة الروح، ترجمة: د. إمام عبد الفتاح.

3- د. زكريا إبراهيم: هيجل أو المثالية المطلقة.

4- د. إمام عبد الفتاح: المنهج الجدلي عند هيجل.

قد يعجبك أيضًا

5- هيجل: الفرق بين نسق فيخته ونسق شلنغ في الفلسفة، ترجمة: د. ناجي العونلّي.

6- هيجل: حياة يسوع، ترجمة: جرجي يعقوب.

7-  فتحي المسكيني: هيغل في ضوء براديغم اللغة أو هيغل بوصفه (شاهدًا) على الصيغة الرومانسية للانتقال من براديغم الوعي إلى براديغم اللغة في الفلسفة القارية، الكراسات التونسية، 2002، ع 182.

8- جوزايا رويس: روح الفلسفة الحديثة، ترجمة: د. أحمد الأنصاري.

9-هيجل: فنومنولجيا الروح، ترجمة: د. ناجي العونلّي.

11- هيجل: موسوعة العلوم الفلسفية، ج١، ترجمة: د.إمام عبد الفتاح.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أبانوب خلاف

اترك تعليقا