في كرةِ القدمِ الشعبيَّةِ الثوريَّةِ وثقافتها. (مقدمة)

1- نشأت فكرةُ جمع تجارب كرة القدم الشعبية الثورية، في الجزائر وعبر العالم، في كتابٍ واحد، من حبي للكرة الشعبية أولًا، ثم من السعي إلى استعادة ذاكرة كرة القدم النضالية عبر التاريخ وربطها بمقاومات اليوم في المدرجات. هي مقاومات تجسّدها مجموعات معينة من الأولتراس (ليس كل الأولتراس مقاومين، طبعًا) بأناشيدها الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي والأنصار المؤمنون بكرة القدم الشعبية، من أجل الحق والعدالة الاجتماعية، والمعيشة الكريمة، من جهة؛ وضد الإمبرياليّة الحديثة وسياسات الفساد والتفقير التي تنتهجها الأنظمة المحلية الخاضعة للإمبريالية، من جهةٍ أخرى.

2- سأركّز اهتمامي في الجزء الأول من الكتاب على الأندية التي قاومت الاستعمار أو الاحتلال ومنظومته الرأسمالية وانتصرت. هي أندية تكوّنت من عمال، من مناضلين وقياديين في الحركة الوطنية ومن مفكرين ثوريين. فكان اللاعبون جنودًا على أرضية الميدان قبل حملهم السلاح وانخراطهم في الجيوش الوطنية التحريرية. ويجب أن يعرف القارئ الكريم من الآن، أنّ قليلةً هي المناطق والبلدان في العالم التي ارتبط فيها ميلاد كرة القدم بفكرة النقابيّة الثورية أو بالوطنية الثورية، وفي نفس الوقت بالمقاومة السياسية أو المسلحة من أجل التحررِ من الاستعمار وكل أشكال الظلم والاستغلال. نجد هذا النوع من كرةِ القدم الثورية فقط في الجزائر، المغرب، تونس، مصر، فلسطين، تركيا، البوسنة، صربيا وكرواتيا (أي: يوغسلافيا سابقًا).

ثم سأختم هذا الفصل بالحديث عن نشأةِ كرة القدم الوطنية والنضالية في نيجيريا وفي الهند المستعمرتَيْن من قِبَل إنجلترا. حتى وإن لم يعرف البلدين حربًا تحريرية.

إنّ اختياري ليس من باب الصدفة تمامًا، إذ كلُّ شعوبِ هذه البلدان تمتلك تقاليدًا عريقةً في المقاومات الشعبية والوطنية. أستثني في هذا الفصل الحديثَ عن كرة القدم الوطنية والنضالية في مصر، تونس والمغرب. لأنه سبق وأن تحدثتْ الصحافة كثيرًا عن مسار الأهلي المصري والنادي الأفريقي التونسي والرجاء البيضاوي المغربي في مقاومة الاستعمارَيْن البريطاني والفرنسي، فقصصهم النضالية معروفة لدى جمهور متتبعي كرة القدم. وبالتالي لا فائدة من تكرار ما كتبه صحفيون في هذا الموضوع.

3- إنّ الطبقات الشعبية الجزائرية هي صانعة إحدى أكبر الثورات الوطنية التحررية في التاريخ. كانت الثورة الجزائرية (1954-1962) أمميّة في طرحها، فلا عجب من أنّها كانت صديقة للثورة الفيتنامية والثورة الكوبية. وكانت الثورة الجزائرية المحرّك الفعلي لانطلاق تحرر باقي الشعوب الأفريقية بقوة السلاح وساندت تلك الشعوب في حربها التحررية ضد الاستعمار (أنغولا والموزمبيق مثلًا) وألهمت فيما بعد الثورة الفلسطينية وثورة الشعب الصحراوي في نضالهما المستمر من أجل الاستقلال. لم يكن جيش التحرير الجزائري يجاهد من أجل التحرر الوطني والاجتماعي والثقافي والاقتصادي فقط، بل كان يجاهد من أجل حريةِ كلِّ القارة الأفريقية. هذا ما أكّده الجزائريان القائد الثوري بن مهيدي والمفكر الثوري فرانز عمر فانون (رحمهما الله) في نصوصهما أثناء الثورة.

إعلان

4- مثّلت حرب الاستقلال التركية (1919-1922) بعثَ أملٍ حقيقيٍّ في نفوس كل الشعوب الإسلامية المقموعة والمستعمرة من قبل قوى أوروبا الغربية، لأنّ الأتراك أثبتوا أن قوة أمبريالية كإنجلترا وفرنسا يمكنها أن تتعرض للهزيمة وأن الاستعمار ليس قدرًا مؤبدًا، وأنّ الجنود الإنجليز والفرنسيين بشرٌ في النهاية، فكسرت حرب التحرر التركية عقلية الانهزامية التي كانت تسيطر آنذاك على الشعوب المغاربية، وكان لها صدىً كبير في نفوس سكان المدن ومثقّفيها. كانت أول حرب ينجح فيها شعب ينتمي إلى العالم الاسلامي في طرد الجيوش المحتلةِ من أرضه.

5- العنصر الجامع بين الجزائر والهند وبلدان الجمهوريات اليوغسلافية السابقة (حاليًا البوسنة وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والجبل الأسود)، هي أنّ طبقاتها الشعبية صنعت التاريخ وقلبت موازين القوى بنضالاتها الثورية ضد الاستعمار والمنظومة الرأسمالية، بعد أن كانت القوى الإمبريالية آنذاك (النمسا والمجر وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا) هي من تفبرك لهذه الشعوب تاريخًا مزيّفًا ومحرّفًا.

العنصر الثاني هو أنّ هذه البلدان ساهمت مع مصر الناصرية في تأسيس حركة عدم الانحياز وكانت من روّادها. عملت الحركة على تعزيز التضامن بين شعوب الجنوب ومساندة الحروب الوطنية التحررية للشعوب الآسيوية والإفريقية والأمريكية الجنوبية، والوقوف جنبًا إلى جنب للتصدي ضد كلِّ محاولات الاستعمار الجديد ورفض الانخراط في المعسكر الشيوعي (تحت إمرة الاتحاد السوفيتي)، أو المعسكر الرأسمالي ( تحت إمرة الولايات المتحدة الأمريكية) حفاظًا على سيادتها واستقلاليتها.  

الجزائر: سأتحدث عن نوادي اتحاد بسكرة، نصر حسين داي، مولودية العاصمة، مولودية شرشال، شباب باتنة واتحاد بلعباس.

واخترتُ هذه النوادي بالذات لأنها ضمّت قياديين كبار في الحركة الوطنية الثورية حملوا السلاح أثناء حرب التحرير الجزائرية، مثل: “العربي بن مهيدي” و”نور الدين مناني” (اتحاد بسكرة). و”بن مهيدي” أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني. ثم يوجد “محمد زيوي” و”محمد أبيب” (نصر حسين داي)، من مؤسسي الاتحاد العام للعمال الجزائريين. “علي نمر” الذي لعب في شباب باتنة وهو أحد الضباط في منطقة الأوراس خلال الحرب. مولودية شرشال ” لأنه نادي التحق جميع لاعبيه بجيش التحرير الوطني واستشهدوا في ملحمة بطولية، ومسار لاعبي اتحاد بلعباس الثوري يشبه كثيرا مسار “المولودية الشرشالية”. أما “المولودية العاصمية” فهو أول نادي وطني جزائري يحمل على قميصه رمز النجمة والهلال وساهم في تنمية الوعي الوطني والسياسي للجماهير الشعبية بالعاصمة الجزائرية.

تركيا: كان لنادي “فنربهتشه Fenerbahçe” ولاعبيه دورًا بارزًا في حرب الاستقلال التركية (نقل الأسلحة إلى جيش التحرير التركي) والمقاومة على أرضية الميدان ضد سلطات الاحتلال البريطانية في إسطنبول، من خلال خوض مباريات ضد الفرق العسكرية البريطانية والتغلب عليها، مما رفع معنويات السكان الأتراك في ظل الموقف الانهزامي للسلطنة العثمانية آنذاك. وتواجد حتى لاعبون من “فنربهتشه” على جبهة القتال، و”نجيب أوقنر” واحدٌ منهم.

يوغسلافيا سابقًا: اخترتُ منها نوادي “هايدوك سبليت Hajduk Split” و”سلوبودا توزلا Sloboda Tuzla” و”فيليج موستار Velež Mostar” و”رادنيتشكي نيش Radnički Niš”. “هايدوك سبيلت” الكرواتي لأنّ لديه دورًا بارزًا في الحركة الاستقلالية الكرواتية، والذي يشير اسمه إلى المحاربين البلقانيين في القرن 18 و19 من أجل الحق والحرية. “سلوبودا” و”فيليج” البوسنيّان و”رادنيتشكي” الصربي الذين أسّسهم عمّال ونقابيون ثوريون مارسوا كرةَ قدم شعبية، وقاوموا الرأسماليين المحليين ثم قاوموا بالسلاح الاحتلالَ الألماني وعملاءه الأوستاشا في حرب التحرير الوطني اليوغسلافية (1941-1945).  

الهند: نادي “موهون باغان Mohun Bagan” الذي يعتبر أول نادي هندي هزم فرق كروية تابعة للاستعمار البريطاني في الهند، ولعب لاعبوه جميع المباريات بأقدام حافية وكان لـ”موهون باغان” دورًا بارزًا في الحركة القومية والاستقلالية الهندية.

نيجيريا: لأنّها موطن “نامدي أزيكيوي Namdi Azikiwe”، الذي يُعتبر من منظّري الحركة الأفريقانية ومؤسس أول نادي نيجيري يقاوم الاستعمار البريطاني في بلده. لعب ذاك النادي دورًا كبيرًا في تنمية الوعي الوطني لمحبي كرة القدم النيجيرية وفي كسر عقدة المستَعمَر.

6- لم أرد الحديث عن تقاليد المقاومة في الماضي دون ربطها بمقاومات اليوم من أجل كرة قدم شعبية، على أرضية الميدان وفي المدرجات خاصة، من خلال تظاهرات وأناشيد الأولتراس  فتحدثت عن الجزائر وفلسطين والأرجنتين وصربيا ومقاومات أولتراس النوادي ضد السياسات النيوليبرالية المحلية أو ضدّ السياسة العدوانية للدول الامبريالية التي لا تزال تهدف إلى اخضاع الدول المستقلة.

الجزائر: سلطت الضوء على مقاومة أولتراس العاصمة (باستثناء اتحاد العاصمة ورائد القبة) عبر أناشيدهم المنددة بسياسات التفقير الرأسمالية (التي تنتهجها الإدارة المحلية) والعملاء المحليون للاستعمار الجديد، الدور الذي لعبته في التوعية الجماعية للجماهير الرياضية قبل اندلاع الحراك الشعبي الجزائري سنة 2019.

فلسطين: حيث تمثل فيها كرة القدم حاليا جبهة من جبهات المقاومة والنضال ضد الاستعمار الصهيوني وهي تجسّد فكرا تحرريا من أجل الاستقلال. يمثّل المنتخب الوطني الفلسطيني لكرة القدم في عملّية الجهاد القضية الفلسطينية على الجبهة الرياضية.

الأرجنتين: اخترتُ “بوكا جونيورز” لأن أنصاره لا يزالون يثمنون كل عام ذاكرة شهداء النادي الذين حاربوا ضد قوات الاحتلال البريطانية في حرب جزر “المالوين” الأرجنتينية سنة  1982 التي تحتلها إنجلترا إلى يومنا هذا. كما تحدثت عن الانتصار الرمزي الكبير للأرجنتين على إنجلترا في كأس العالم 1986 مع ذكر الرمزية القوية لهدف مارادونا في مرمى الإنجليز.

صربيا: سلطتُ الضوء على الدفاع المستمر لأنصار نادي “نجم بلغراد الأحمر Crvena Zvezda” عن ذاكرة المدنيين الصرب الذين قُتلوا في عدوان الناتو العسكري بقيادة أمريكا على صربيا ويوغسلافيا سنة 1999، ودفاعهم عن الوحدة الترابية لوطنهم من خلال دفاعهم عن انتماء إقليم “كوسوفو” إلى صربيا.

7- يكتب إدواردو غاليانو، الأديب الأوروغواياني الراحل وعاشق الكرة، في نصه “أرجل للبيع”: “الحق يُقال إنّ هذه الفرجة الجميلة (كرة القدم)، هذه المتعة للأعين، هي كذلك تجارة عفنة، إذ لا توجد مخدرات تضاهي كرة القدم في جني الأرباح الطائلة في كل أرجاء العالم. فاللاعب الجيد سلعة ثمينة تُسعَّر وتُشتَرى وتُباع وتُعار، وفقاً لقانون السوق ولمشيئة التجّار”. يلخّص الكاتب هنا جيّدا عقلية ومنطق الفُوتْ بيزْنَس (تجارة كرة القدم) أو الكالتشيو موديرنو (كرة القدم الحديثة) المقيتة والمتناقضة تماما مع مبادئ كرة القدم الشعبية.

هدفي هو التذكير بأنّ كرة القدم لها علاقة وطيدة بالسياسة وأنّ تأكيد العكس هو مجرّد تضليل وكذب. والسؤال الذي أطرحه هنا هو: في صالح من تكون هذه السياسة؟ هل في صالح تسليع اللاعبين والاحتكار الرأسمالي لحقوق بث المباريات وتسليع الفرجة أم في صالح دمقرطة هذه الفرجة (ومنها عرض أسعار معقولة تتيح لأبناء الطبقات الشعبية حضور المباريات بقوة، وهم أغلبية المناصرين الذين يصنعون الفرجة في المدرجات)؟ هل هي سياسة في صالح الاستعماريين وأرباب العمل الميلياردير الاستعباديين أم في صالح تحرّر العمال والشعوب المستعمرة؟ قلبي ومبادئي وتوجهي السياسي تنحاز إلى الطرف الثاني بلا تردّد.

تنطلق هذه النصوص إذنْ من قراءة فانونية تحررية للتاريخ ومن زاوية الطبقات الشعبية. هي قراءة كإنسان ينتمي إلى الضفةِ الجنوبية من كوكبنا. هي كذلك قراءتي كمناصرٍ كاتب. ثم هي محاولة لرسم جغرافيا المقاومات لأنديةٍ كروية عبر العالم وإظهار أوجه الشبه بين تلك المقاومات في علاقة جدلية، حتى يتبيّن للقارئ أنّ كرة القدم الشعبية هي أكثر من مجرد رياضة. هي أداةٌ للتحرر الجماعي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد وليد قرين

تدقيق لغوي: مريم حمدي

اترك تعليقا