ما الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل إنسانيته؟

يقول الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس: “إنّ الطبيعة البشرية تتسم بطابع طفوليّ تمامًا لدرجة تجعل كلّ حقيقة تنقلب إلى زيف في وقتٍ ما”.. بالرغم من أنّ البشرية قد قطعت شوطًا كبيرًا في التطور العلمي والفكري إلا أنّ الطابع الطفولي لم يفارقها، وما يمكن أن تعنيه هذه الصفة هو أن البشر مازالوا حتى الآن مدفوعين بذلك الجزء النزق والطائش لديهم الذي يريد بلوغ كل شيء والهيمنة على كل شيء، حتى عندما ندعي أن العقل هو أفضل سمة للإنسان، فهل يحركه هذا العقل دائمًا لما هو أفضل؟

تحكي العالمة الأمريكية جاي برادشو قصة سمعتها من عالِم أحياء قضى سنوات طويلة في المحميات الطبيعية والأدغال. في أحد الأيام فيما هو جالس متخفّيًا بالقرب من أحد الأنهار، يراقب الحياة البرية في منطقة داخل غابات الأمازون. في ساعة الفجر تلك كان المشهد ينبض بالحياة فقد انتشرت في الأجواء رائحة الأزهار وأصوات الطيور والحشرات.

كان مشهدًا يعجّ بالحياة ولكن في سكينة وهدوء. في تلك الأثناء اخترق الهدوء صوت خطواتٍ تُهشِّم الأغصان والأوراق في طريقها إلى المكان، أجفل عالم الأحياء للحظةٍ مترقبًا الخطر القادم، ولكنه فُوجئ بأنها كانت بقرة وحسب شقَّت طريقها لتشرب من مياه النهر. كان أكثر ما شدّ انتباهه أن أيًا من الكائنات لم تضطرب لقدوم البقرة كما حصل معه، بل كان المشهد على حاله، كلٌّ مشغول بما يفعله، عندها فقط لمعت في ذهنه فكرة: ماذا لو كنت أنا من اقتحم المكان وليس البقرة؟ لابدّ وأنّ جميع الحيوانات كانت ستهرب فَزِعةً مني. ثم يختم قصته قائلًا:” كانت لحظة أحسست فيها بالوحدة أكثر من أي وقت آخر في حياتي.”

لقد أقصى الإنسان نفسه كثيرًا عن هذا العالم لدرجة أصبح معها غريبًا حتى عن الطبيعة التي هو جزء منها بالأساس. لقد أدار ظهره لكل ما هو متصل بها ووضع حاجزًا بين ما هو بشري وما هو طبيعي كما لو أنهما عالمان منفصلان تمامًا، أصبحت الروابط التي تجمعه بالكائنات الأخرى شبه منعدمة.

إعلان

وكثيرًا ما نجد أنّ هذا الانفصال كان موضوعة اهتم الأدباء بالحديث عنها، ويحضرني هنا مشهد في قصة قصيرة بعنوان  The Most Dangerous Game “اللعبة الأشد خطرًا” للكاتب الأمريكي ريتشارد كونيل، حيث تبدأ الحكاية بمحادثة تدور بين صيادَين اثنين يذكر فيها أحدهما أن الصيد هو أفضل رياضة إلا أن الآخر يعقب ذلك بالقول أنها كذلك بالنسبة للصياد ولكن ليس بالنسبة لحيوان الجغوار، فيجيبه صديقه ساخرًا:

“إنك صياد ولست فيلسوفًا. ومن يعبأ بما يشعر به الجغوار؟”

“لعلّ الجغوار نفسه يعبأ”

“هراء، الحيوانات لا تفقه شيئًا”

“مع ذلك، أعتقد أنها تدرك شيئًا واحدًا ــ إنه الخوف. الخوف من الألم والخوف من الموت.”

إذن الحيوان يشعر تمامًا كما الإنسان! ولكن الفرق هو أن الحيوان لا يقف كثيرًا عند هذا الشعور ويتأمله كما يفعل الإنسان، بل إن لأنواع من الحيوان طقوسًا تزخر بالمشاعر كالفيلة التي تحزن بشدة على موت أحد من جماعتها وتعود لزيارة المكان الذي يحتوي على بقاياها وتنثر عليها التراب والأغصان، وكذلك أنواع من الطيور التي تحمل فقيدها وتضع عليه العشب وتقف لحظات عنده قبل الرحيل عنه. يبدو أنّ “إنسانية” الإنسان تدفع به بعيدًا جدًا حتى أنه ينسى أدنى ارتباط له بالعوالم الأخرى من حوله، بل ويشعر بفوقيته عليها وحقه في إحكام السيطرة عليها.

يصور الشاعر الإنجليزي كوليردج ببراعة كيف يدفع الإنسان ثمن هذا الابتعاد في قصيدته الشهيرة “قافية الملاح العجوز”، حيث نرى أنّ مجموعة من البحّارة يعيشون أوقاتًا عصيبة حتى يظهر لهم طائر “القطرس” كإشارة إلى حسن الطالع فيستطيعون بعدها أن يخوضوا طريقهم في البحر بسهولة، ولكن عندما يُقدم الملاح العجوز على اقتناص الطائر تحلّ عليهم لعنة الموت، فلا تهب الرياح لتحرك أشرعة السفينة ويموت البحارة جميعًا واحدًا تلو الآخر، كما لو أن القطرس يرمز إلى غضب الطبيعة الذي يحلّ بالإنسان عندما تملي عليه طبيعته البشرية أن يتعالى على الطبيعة ويعتدي على الكائنات دون سبب. لايزال الإنسان مدفوعًا بذلك الحس الطفولي الطائش الذي يؤدي به إلى الإقدام على أفعال لا يمكن تبريرها إلا بالقول: “إنه إنسان في نهاية الأمر!”

وهكذا يبدو أن الطبيعة البشرية تجعل الإنسان يدفع ثمنًا باهظًا، في قصة اللعبة الأشد خطرًا فإن الصياد الذي استخف بإحساس الجغوار يصبح هو نفسه فريسةً يلاحقها صياد، عندما يعلق في جزيرة غامضة يتضح أن جنرالًا روسيًا مهووسًا يتخذها مكانًا للعبة صيد يكون هو فيها الصياد وضحاياه من البشر! أما البحار في قصيدة كوليردج فإنه يختم حديثه في النهاية بما يشبه النصيحة قائلًا أنه لابدّ لإنسان أن يتعلم احترام المخلوقات جميعًا.

ولعل ما جعل عالم الأحياء يشعر بالوحدة وسط غابة الأمازون هو إدراكه أنّ الإنسان قد فقد مكانه في الطبيعة لدرجة أصبح معها صعبًا أن يستعيدها من جديد! وستظلّ المدنية الحديثة تذكّره باستمرار بهذه الوحدة الموحشة وأنه “إنسان في نهاية الأمر!” ولابدّ من أن يدفع ثمن ذلك.

يقول جان جاك روسو: “لو وجب عليّ أن أختار في سلّم المخلوقات رتبة لنفسي، لما تطلعت إلى ما فوق الإنسان… ولكن عندما أتوخى معرفة موقعي أنا كفرد داخل النوع البشري، وأتأمل المراتب ومن يعتليها، ماذا ألاحظ؟ أي منظر أكتشف؟ أين النظام الذي بهرني قبل قليل؟ كل شيءٍ في الطبيعة تناسبٌ وتكامل، وكل شيءٍ في دنيا البشر اضطرابٌ وفوضى. عناصر الطبيعة في تعاضد دائم وبنو آدم في تناحر مستمر. الحيوانات كلها سعيدة، سيدها وحده بئيس!”

لم يكن روسو فيلسوفًا بالمعنى الكامل للكلمة إلا أنه كان مفكرًا رومانتيكيًا مهّد لظهور تلك الأفكار التي نادت من ضمن ما نادت به إلى عودة الإنسان إلى الطبيعة لأنه بابتعاده عنها فقدَ تلك الحالة الأصيلة الأولى من النقاء والخير التي كان يتمتع بها. وتأثير أفكاره تلك كان عميقًا وقويًا وأدّى إلى انبثاق الحركة الرومانتيكية فلسفيًا وأدبيًا وفنيًا في كافة أرجاء أوروبا.

لقد كانت الثورة الصناعية التي ظهرت في انجلترا قد بدأت تلتهم الإنسان، وقد كان في الرحلة التي خاضها الكثيرون بانتقالهم من الريف إلى المدينة انفصالٌ عن الطبيعة وانغماسٌ في التطور الذي كانت عجلته تتسارع وتطحن كلّ من لا يقوى على اللحاق بركبها. لقد كانت دعوة الأدباء والمفكرين لا تقل تطرفًا عن هذا الوضع عندما طالبوا الناس بالتوجه إلى الطبيعة من جديد وبناء حياتهم فيها. ولم تكن تلك بالدعوة الجادة بقدر ما كانت هروبًا حالمًا إلى عوالم شاعرية لا يمكن أن تحل معضلة الإنسان مع الطبيعة.

يبدو أن الطبيعة البشرية بحاجة إلى الكثير جدًا حتى تستعيد ثقة الطبيعة من جديد، وحتى تتمكن من السير خطوة للأمام إلى ما بعد الطفولة، إلى حالة أكثر اتزانًا وحكمة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زهراء طاهر

تدقيق لغوي: ضحى حمد

الصورة: نهى محمود

اترك تعليقا