سيمون دي بوفوار: الفلسفة بنفسها (مترجم)

سيمون دي بوفوار واحدة من أكثر الفلاسفة المفكرين أصالة وإبداعًا في القرن العشرين، لكن المصنّفين في الفلسفة مالوا إلى تصنيف أعمالها بوصفها نسوية أو نسائية واعتبروا مشروعها الفكري مجرد ظل لجان بول سارتر، فكما لاحظ «إدوارد فولبروك – Edward Fullbrook» في طبعة حديثة لأعمالها الكاملة: “فقد تم محو دي بوفوار الفيلسوفة من الوجود”. كيف حدث هذا؟

ليس واضحًا لمَ انمحت سيمون دي بوفوار من التاريخ الفلسفي؟ وبصرف النظر عن العامل الجندري، هناك العديد من القراءات الحديثة التي تسرد كيف حدث ذلك؛ مثل الطبعة الجديدة التذكارية من أعمال سيمون دي بوفوار بالإضافة إلى (كتاب «كيت كيركباتريك – Kate Kirkpatrick»”أن تصبح دي بوفوار”)، وكتاب «مانون جارسيا – Manon Garcia”»”لم نولد خاضعين”، بالإضافة إلى كتاب سابق لـ«توريل موي -Toril Moi»، وما لم نأخذ في الاعتبار الدور الذي تلعبه العوامل الاجتماعية والسياسية في طبيعة الاعتراف (أو قلة الاعتراف) بالعمل الفكري وتداوله، فإننا سنجازف بنسب الاعتراف أو المحو إلى عوامل مثل الجنس أو العرق.

في ورقتي البحثية الأخيرة: “الظلم المعرفي والمكانة المعرفية”، استخدمت المصطلح الأخير لوصف كيف تتم قراءة الدعاوى المعرفية المنسوبة إلى فئات معينة من المفكرين -كالنساء والأقليات العرقية- في سياقات فكرية تساهم في الحط من قيمة منتوجهم الفكري أو محوه تمامًا في أحيان أخرى، وبدلًا من أن يُنسب هذا المحو ببساطة إلى التحيّز المبني على الهوية، فأنا أوضح كيف أن عملية خلق القيمة وتداولها وإعادة إنتاجها داخل عملية الإنتاج المعرفي مبنية على انعدام المساواة ومنتجِة لها

لا تتعارض قراءتي مع وجهة النظر القائلة بأن التحيّز الجنسي (وربما المركزية العرقية) له علاقة بإقصاء أعمال دي بوفوار من الأوساط الأكاديمية الأنجلو أمريكية، ومع ذلك فإن ديناميكيات الاعتراف الفكري تتداخل مع العلاقة بين المؤلف (الذات المعرفية) وما يبحثه (الموضوع المعرفي). بعبارة أخرى لا يتعلق الأمر فقط بمن يتحدث، ولكن كيف يُشكّل ذلك المتحدث ويتشّكل (من خلال ما يُعتقد أنه موضوع حديثه) .

بالاعتماد على أعمال «ماري وارنوك Mary Warnock»، يصف فولبروك منهجية الفلسفة الوجودية -التي هي جزء من التقليد الفينومينولوجي بأنها الاستخدام المتعمَّد للملموس والحسي (التجارب الفردية والواقعية) كوسيلة لمحاولة فهم العام والمجرد، فتُعطى الأسبقية للتجربة المُعاشة، وبتلك الكيفية تكون ممارسة الفلسفة الوجودية. إن أسلوب العرض التفصيلي الذي تتسم به الفلسفة الوجودية قريب جدًا من نظيره الموجود في فن الرواية من حيث التركيز على الوصف، يظهر هذا جليًّا في حالات مثل روايات سارتر ودي بوفوار وكامو، وبالطبع لا ينصبّ التركيز في الروايات الوجودية على الأحداث أو الحوارات أو الشخصيات نفسها بقدر ما ينصبّ على قدرتها على عكس أو تمثيل شيء ما عن “الحالة الإنسانية” ككل. بهذا المعنى فإن إيلاء الاهتمام بـ”التجربة المُعاشة” هو الطريقة المفضلة التي يربط بها الفينومينولوجي المادي (الملموس) بالمعنوي (المجرّد).

إعلان

يعزو فولبروك الفشل في التعرف على دي بوفوار الفيلسوفة إلى اختلاف المنهج بين اتجاهين فلسفيين هما القارّي والتحليلي، هناك أسباب عديدة للاعتراض على هذا الاختلاف نفسه، لكن ما يهمنا هنا هي طريقة “التفلسف” المرتبطة بكلا الاتجاهين، يميل الفلاسفة القارّيون إلى أن يكونوا من منشئي الأنظمة، يستحدثون المفاهيم والمفردات والمصطلحات التفسيرية، ولا يطمحون في الغالب لما هو أكثر من تفسير الواقع نفسه أو طرق التفكير فيه على الأقل، تستهدف أعمالهم معالجة قضايا تتعلق بمجالات فلسفية مختلفة مثل الميتافيزيقيا والأخلاق وما إلى ذلك.

وعلى النقيض من ذلك، فإن الفلاسفة التحليليين يستهدفون حل المشكلات بالأساس؛ إذ يبدؤون من مشكلة نظرية أو عملية محددة ليعملوا على حلّها. يصف برتراند راسل هذه الطريقة بأنها مثل “فرّق تَسُد”؛ تقسيم المشكلة إلى الأجزاء المكوِّنة لها، ثم حلّ كل جزء منها على حدة. وعلى ضوء ذلك فإن سارتر يُعد من مُنشئي الأنظمة، إلى جانب كانط ونيتشه و آرنت. أما سيمون دي بوفوار في المقابل فهي كما وصفها فولبروك ممن تتجه مقاربتهم الفلسفية نحو المشكلة. لكن عدم التوافق بين أسلوبها الفلسفي (التحليلي) وأصلها (القارّي) لم يكن السبب في محو الجانب الفلسفي لها، بل كان الأهم من ذلك طبيعة “القضية” التي ارتبطت بدي بوفوار.

غالبًا ما يُنظر إلى أعمال سيمون دي بوفوار بوصفها إجابة على “سؤال المرأة”. اكتسب “سؤال المرأة” أهمية متزايدة عقب الحرب العالمية الثانية، ليس بسبب المساهمة الكبيرة للنساء في الحرب فحسب -ما أكد قدرتهن التامة على أداء الأعمال الموكلة عادة إلى الرجال- لكن أيضًا بسبب زيادة فرص الحصول على التعليم (بما في ذلك التعليم العالي) فضلًا عن توفّر وسائل منع الحمل. لم يكن تفاعل دي بوفوار مع سؤال المرأة يتعلق بالترويج للمساواة بقدر ما كان متسائلًا عمّا يمنع النساء من نيلها في ظل ازدياد التساوي في الأوضاع شكليًا!

بدلًا من عولمة تجربة النساء، انطلقت دي بوفوار من منظورات معرفية جزئية ومتحيّزة، ولم تزعم امتلاك موقع معرفي فوقي ومسبق، بل شدّدت على ضرورة إدخال التجربة الحية ضمن المنظور المعرفي نفسه، فغالبية النساء أو كلهن موجودات في عالم يهيمن فيه الرجال على سنّ القواعد والأعراف، وعليه فقد أكّدت دي بوفوار وجوب النظر إلى فاعلية النساء -لا لإنجازاتهن الفكرية فحسب- من داخل واقعهن المُعاش الذي لطالما كان وجودهن فيه مقيدًا بشكل استباقي.

من الصفحة الأولى في كتاب الجنس الآخر، يتضح رفض دي بوفوار لأن يُنظر إلى كتاباتها بوصفها كتابة عن “النساء”، حيث تصف مقاومتها للكتابة عن موضوع “مزعج للغاية وخاصة للنساء”، لكنها تستدرك لتؤكد استحالة الكتابة دون تحيّز ذاتي معين، تقول دي بوفوار:

“لا يخطر ببال الرجل أبدًا أن يؤلف كتابًا عن وضع الذكور البشريين، أما أنا فإذا أردت تعريف نفسي، يجب أولًا أن أقول: “أنا امرأة”؛ هذه الحقيقة هي الأساس الذي يجب أن تستند إليه كل الحجج الأخرى. من المزعج أن أسمع رجلًا يقول لي في خضم مناقشة مجردة: “أنت تفكرين هكذا لأنك امرأة”؛ لكني أعلم أن دفاعي الوحيد هو أن أرد: “أفكر هكذا لأنه صحيح”، لأزيل جانبي الذاتي من الجدل. من غير الوارد أن أجيب: “وأنت تعتقد العكس لأنك رجل”، لأنه من المستقر لدينا أن كون المرء رجلًا لا يكسبه طابعًا خصوصيًا” .

بالنسبة إلى سيمون دي بوفوار، كان الحديث انطلاقًا من موقف ذاتي شرطًا مسبقًا لعملية الحديث نفسها؛ ذلك أننا لسنا موجودين كبشر بمعزل العالم الذي يسبق وجوده وجودنا، وهذا العالم -كما توضح دي بوفوار- لا وجود فيه للحياد بين الجنسين.

ما أرادت دي بوفوار فعله هو إصلاح نظام فلسفي أسقط من اعتباره فارقًا مهمًا يتعلق بقدرتنا على التصرف وهو عامل الجنس. فلا معنى لمسألة الحرية في نظرها دون وجود ذات حرّة (أو يمكن تحريرها)، وهذه الذات لا توجد إلا داخل سياق اجتماعي وسياسي وتاريخي، وقد كان ذلك السياق -حتى ذلك الوقت على الأقل- يتسم بفجوة عميقة بين الجنسين. بهذا المعنى لم تكن بوفوار مهتمة بـ”قضية المرأة”، بل كانت مهتمة بتحسين النظام الأنطولوجي (الوجودي) والأخلاقي للوجودية أو على الأقل تخليصها من عيب واضح، وهو أنها حتى ذلك الوقت كانت تستبعد تجارب أكثر من نصف البشرية.

انطلاقًا من هذا المنظور، يتضح لنا أن سيمون دي بوفوار كان ينبغي اعتبارها فيلسوفة من طينة سارتر أو مريلوبونتي أو هايدجر. وهذا ما أقرّ به امتحان الفلسفة الوطني الفرنسي المعروف بصعوبته (agrégation)؛ فقد أدت دي بوفوار الامتحان عام 1929 للمرة الأولى، وكان سارتر يؤديه للمرة الثانية. يصعب اعتبار هذه منافسة عادلة، نظرًا لأن النساء كانوا مستبعدين في السابق من الالتحاق بالمدرسة العليا للأساتذة (Ecole Normale Supérieure)، ليحتل هو المركز الأول، وتأتي هي الثانية.

وقد وافقت اللجنة بشكل قاطع على أن دي بوفوار تجسّد الفلسفة؛ إذ قال حكمها الشهير: “دي بوفوار هي الفلسفة نفسها”، أو في ترجمة أخرى: “هي الفلسفة متجسّدة في لحم ودم”. على أن اللجنة بمنحها المركز الأول لسارتر تبدو وكـأنها تقول ضمنيًا إن تجسيد الفلسفة مهم ولكن الأهم منه هو التجسّد كامرأة!

تشكّل النساء الآن غالبية خريجي التعليم العالي في معظم دول العالم، ونسبة النساء العاملات في التعليم العالي آخذة في الارتفاع ببطء، حتى بين الأساتذة. لكن من المهم عدم التهاون مع استمرار وجود أشكال من الإقصاء الجندري والعرقي وغيرها من أشكال الإقصاء الموجودة في الحياة الفكرية. للنظر في الكيفية التي تتجسد بها أشكال الإقصاء هذه اليوم، أنتقل إلى أعمال <<سارة أحمد – Sara Ahmed>> وخاصة كتابي (حول أن تكون مشمولًا… العنصرية والتنوع في الحياة المؤسسية) الصادر عام 2012 و(أن تحيا حياة نسوية) الصادر عام 2017.

إن أسلوب سارة أحمد في الاستقصاء فينومينولوجي بدوره، وبالتالي فهي تركّز على التجربة المُعاشة. يعد كتابها (حول أن تكون مشمولًا) وصفًا لتجربتها في العمل كـ”أخصائية للتنوع”. يقدّم الكتاب دليلًا يساعدنا على التفكير حول العنصرية في الأوساط الأكاديمية، وكيف يمكن للسياسات المؤسسية -بما فيها السياسات التي تستهدف المهمّشين تحديدًا- أن تمنع حدوث التغيير التي تدّعي أنها تريد أن تحدثه. يعيد كتاب (أن تحيا حياة نسوية) طرح بعض من هذه النقاشات والموضوعات ليتفاعل معها من منظور امرأة ونسوية وأكاديمية تركت العمل الأكاديمي بعد أن أخفقت مؤسستها (غولدسميث، جامعة لندن) مرارًا وتكرارًا في التعامل مع اتهامات التحرش الجنسي التي طالت أحد كبار الأكاديميين (البيض، الذكور) العاملين بها.

استمرت سارة أحمد في النشر حتى بعد أن تركت العمل الأكاديمي، فكتابها الأخير (شكوى) يُفصّل إجراءات انتقال وسير شكاوى العنف والتحرش الجنسي وغيرها من الشكاوى بين مختلف الهياكل المؤسسية. ورغم حفاوة الاستقبال التي حظيت بها كتاباتها خاصة بين الأكاديميات النساء وبينالمنتمين لأقليات عرقية، ما زال يُنظر إلى سارة أحمد في غالب الأوقات بوصفها باحثة نسوية أو كاتبة متخصصة في “العرق والعنصرية” بدلاً من أن يُنظر إليها بوصفها منظّرة عن السلطة والجهل وإعادة الإنتاج المؤسسية.

مثلما فعلت سيمون دي بوفوار، تسلّط سارة أحمد الضوء على هذا النوع من الإقصاء بقولها:

في الأوساط الأكاديمية، تحظى كلمة “نظرية” بقيمة كبرى. ولطالما كنت مهتمة بمعرفة الكيفية التي يتم بها توزيع هذه الكلمة؛ أي كيف تُمنح بعض الأفكار وصف “نظرية” أو تُحرم من نيل هذا الوصف؟ يمكن فهم هذا الاهتمام على ضوء تجربتي الخاصة… لقد انتقلت من حاملة لدرجة الدكتوراه في النظرية النقدية إلى أن أصبحت محاضرة في الدراسات النسوية. حين كنت طالبة تدرس النظريات، تعلّمت أن كلمة “نظرية” تُستخدم لوصف مجموعة محدودة من الأعمال. وهناك أعمال تُمنح وصف “نظرية” لأنها تشير إلى أعمال أخرى معروفة بكونها “نظرية”. ينشأ تسلسل استشهادي حول هذا الوصف؛ ذلك أنك تصبح مُنظّرًا عبر الاستشهاد بمُنظّرين آخرين، وهؤلاء يستشهدون بدورهم بمُنظّرين آخرين وهكذا… كانت بعض تلك الأعمال تثير اهتمامي، لكنني كنت أجد نفسي راغبة في تحدّي هذه المواد المختارة وتحدّي الكيفية التي تُقرأ بها… كنت مهتمة بالكيفية التي يستخدم بها الأستاذ عبارات مثل: “هذا لا يتعلق بالنساء”، لتجنّب أي أسئلة تُثار حول الكيفية التي يتم عبرها تمثيل صورة النساء داخل التقليد الفكري الذكوري. أعاد المصنّف المقال إليّ بعد تصحيحه وكتب عليه بأحرف كبيرة: “هذا لا يتعلق بالنظرية، بل بالسياسة”!

في الاقتباس السابق، تصف سارة أحمد بوضوح تجربتها الخاصة، ولكن بطريقة تتناول زاوية نظرية أوسع. ما هو مسموح بأن يوصف على أنه “نظرية” وما يُصنف بوصفه “سياسة” أو “دراسات نسوية” أو حتى “نظرية نسوية” جميعها أمور تعكس التفاوتات الاجتماعية الأخرى وتشمل الأخيرة التفاوتات الموجودة في مجال إنتاج المعرفة. لا يتعلق الأمر فقط بحرمان بعض الفئات من دخول المؤسسات، بل يتعلق أيضًا بالكيفية التي تُصنّف وفقها أعمالهم فور دخولهم إلى تلك المؤسسات. الكتابات الفلسفية التي يكتبها الرجال تُصنّف على أنها “فلسفة”، بينما تُصنّف الكتابات الفلسفية التي تكتبها النساء على أنها “فلسفة نسوية”.

وعليه، فإن اشتقاق السلطة المعرفية من التجربة المُعاشة يمكن أن يقودنا إلى مفارقة تؤدي إلى “رهن” موضوع المعرفة بالباحث (الذات المعرفية)؛ فحين تتحدث بصفتك مالكًا لـ”تجربة” معينة، فهذا يعني أنك تخاطر بقصر ادعاءاتك المعرفية على تجربتك فقط.

هذا النموذج للوضعية المعرفية أصفه بأنه “مجالي”؛ أي أنه ينطوي على ربط بين المفكرين المنتمين إلى مجالات معيّنة وبين هويتهم الاجتماعية (سواء المعلنة أو المُستنتَجة). لكن هذا لا يعني التشكيك في مصداقية هؤلاء المفكرين (كما هو الحال عند حدوث مظالم معرفية أو افتقار إلى المصداقية، بالشكل الذي صاغته <<ميراندا فريكر – Miranda Fricker>> و<<خوسيه ميدينا – José Medina>> وغيرهما، بل يهدف إلى تقييد ادعاءاتهم. لا تقتصر نتائج هذه الوضعية على الكيفية التي تُقرأ بها أعمال هؤلاء المفكرين، بل تمتد لتشمل الدعم المالي وأنواع الدعم الأخرى لهم أيضًا، كما <<يجادل لويس جوردون – Lewis Gordon>> في كتابه “الحرية والعدالة ونزع الاستعمار”، حيث يقول:

“تأمل مسألة العرق على سبيل المثال؛ يوجد افتراض غير معلن مفاده أن الموصوفين بالبياض هم الذين يفكرون ويبحثون وأن الموصوفين بالسواد أو البشرة الداكنة يجب أن يتم “تعليمهم” أو حصر ادعاءاتهم بكونها “تجارب”. تاريخيًا كانت هذه الوضعية السابقة منطبقة أيضًا على فئتي “الرجل” و”المرأة”…كما تنطبق كذلك على المؤسسات والموارد التي تتلقاها”.

تعتبر نظرية المعرفة (الإبستيمولوجيا) الهويةَ أو التجربة مصدر ميزة معرفية بدل اعتبارها عيبًا معرفيًا. ومن هذا المنطلق، فإنه من المنطقي، بصفتي امرأة، أن أمتلك تَبصُّرًا وفهمًا أكبر لبعض المسائل المتعلقة بالجندر التي لا يُتاح للرجال فهمها؛ وبالمثل فإن الرجال والنساء العابرين والعابرات جنسيًا، وسواهم من غير المنتمين إلى الثنائية الجنسية التقليدية، سيكون لديهم منظور حول الجندر مختلف عن غيرهم من المتوافقين مع هويتهم الجنسية المعيّنة لهم عند الولادة. على أنه يوجد فارق كبير بين استخدام التجربة بوصفها مصدر ميزة معرفية واختزال المعرفة في مجرّد التجربة؛ فالافتراض الأول شائع ومبرر في كثير من الأحيان، ولو من باب الامتثال للسلطة المعرفية؛ فنحن عادة نكون محقين إن وضعنا ثقتنا بطبيب متمرس أكثر مما نفعل مع طبيب أقل خبرة منه. لكننا لكن نكون محقين إن ادّعينا أن الطبيب لا يمكنه أن يعرف أي شيء عن كرة القدم.

إن ما يجعل الوضعية المجالية أمرًا إشكاليًا ليست علاقة الارتباط القائمة بين الهوية والمعرفة في حد ذاتها، بل استخدام هذه العلاقة في التبخيس من قيمة الادعاءات المعرفية لشخص ما، فتغدو المجالية بهذا ردّة على المشروع الإصلاحي لنظرية المعرفة.

كيف نخطو إلى الأمام؟

إذا كان إنتاج المعرفة يستلزم حتمية تصنيف التجربة المُعاشة للباحث تبعًا لعلاقتها بالأطر المعرفية السائدة، فمن شأن هذا أن يعد جزءًا من التجربة المُعاشة نفسها. قد تُنتج هذه الرابطة المزدوجة أفكارًا عظيمة، كما رأينا في نموذجي دي بوفوار وسارة أحمد، لكنها تستنزف الموارد المعرفية والعاطفية في الوقت نفسه.

إن إدراك العمل الإضافي الذي تتطلبه الحياة المؤسسية من بعض الأفراد، وإدراك أن هذا العمل الإضافي لا صلة له بموهبة أو قدرة هؤلاء الأفراد، هي أولى خطوات التفكير حول عدالة التوزيع فيما يخص إنتاج المعرفة، وحول النزعة المتأصلة داخل المؤسسات العنصرية التي تدفعها لإنتاج العنصرية، والنزعة المتأصلة داخل المؤسسات المتحيزة جنسيًا التي تدفعها لإنتاج التمييز الجنسي، وهكذا. في هذا السياق، يمكن أن يكون “الدمج الإلزامي” (إن استخدمنا عبارة إليزابيث أندرسون) -أي العمل المطلوب لمواجهة النزوع إلى “عزل” أنواع معينة من المعرفة- مطلبًا معطلًا للإنجاز بالنسبة إلى النساء والملونين والمنتمين إلى الأقليات يحملهم على إثبات استحقاقهم للمساواة.

تقدم نظرية المعرفة التقاطعية حلًا بديلًا، فهي مثل «نظرية وجهة النظر – standpoint epistemology»، تعتبر المعرفة مشروطة ومتحيّزة. لكنها لا تستهدف الوصول إلى صورة أكثر “موضوعية” للمعرفة اعتمادًا على وجهات نظر متعددة؛ ذلك أنها تنطلق من حتمية التحيّز التي تقتضيها “التجربة المعاشة”، إذ تختلف هذه التجربة المعاشة من شخص إلى آخر بحكم التعريف، بيد أنها لا تنظر إلى هذا الاختلاف بوصفه قيدًا. بعبارة أخرى، تستند حجة أنصار التقاطعية على أساس وجودي (أنطولوجي) وليس معرفيًا (إبستيمي). تشدّد نظرية المعرفة التقاطعية على استعصاء تمثيل العمومي بوصفه أساسًا لجميع مظاهر الحياة الاجتماعية.

من شأن إدراكنا لحدود منظورنا أن يشجعنا كذلك على تقدير الطرق التي يتعلّم من خلالها  كلٌ من النساء والأقليات العرقية و”الفئات المختلفة بوجه عام” كيفية إدراك هذه الحدود من خلال أشكال مختلفة من “فنون التعليم” غالبًا ما كانت مقترنة بالعنف المعرفي . فبدلاً من استبعاد أو إقصاء معرفة شخص ما استنادًا إلى مزاعم حديثه عن تجربته الشخصية فقط، أو محاولة استيعاب هذه التجربة ومن ثم تحويرها، يمكننا استخدام هذه التجربة لتكون دليلًا تسترشد به مشاريع التواضع المعرفي. وما أعنيه بالتواضع المعرفي هو شيء آخر غير التنصّل الوديع من الامتياز (أو التنديد به). فقد يكون هذا غير كافٍ، وقد يأتي بنتائج عكسية في حالات كثيرة (كما أظهرت سارة أحمد فيما يتعلق بـ”اعترافات البيض”). لكن التواضع المعرفي في المقابل ينطوي على اعتراف بحدود المنظور الذي نستخدمه، ويمكنه أن يظهر لنا الطرق التي تعمل من خلالها “التجربة المعاشة” لسلطة المؤسسات بتشكيل هذه الحدود. من شأن تسليط الضوء على هذه المشاريع -وأعني به إدراك أهميتها المحورية لما يعنيه إنتاج المعرفة- أن يأخذنا إلى مستقبل تكون فيه عملية إنتاج المعرفة محصلة جهد جماعي ومشترك أكبر.

مصدر الترجمة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: نور مطر

ترجمة: أحمد سالم

اترك تعليقا