لماذا تراجع العنف؟ قراءة في كتاب “الملائكة الأفضل لطبيعتنا”

أخيرا انتهيت بشق الأنفس من ذلك الكتاب الضخم ” The better Angels of our nature “، لعالم النفس واللغويات الشهير ستيفن بينكر ، ذلك الكتاب الذي سأضعه الأن بين يديك. انظر بنفسك رأي صاحبه، المتفائل مثلك بالإنسانية ومستقبلها، والذي يرى -صدق أو لا تصدق- أننا نعيش في أكثر فترات حياتنا البشرية أمنًا و سلامًا وإنَّ العنف يركب منحنى تنازليا عبر مراحل التاريخ المختلفة، على الرغم من تلك الأخبار التي لا تنقطع من حولنا عن الحروب والجرائم والاٍرهاب

بداية دعني أقدم لك الدكتور ستيفن بينكر: أستاذُ علم النفس في جامعة هارفارد، متخصّص في اللغويات وعلم اللغة النفسيِّ وعلوم الإدراك. من كتبه: غريزة اللغة (1994)، و كيف يعمل العقل (1997)، كلمات وقواعد (1999)، و القائمة الخالية» (2002)، و«جوهر الفكر؛ اللغة باعتبارها نافذةً للطبيعة الإنسانية» (2007)، و«روح الأسلوب» (2014). صنَّفته مجلة تايم وفورين بوليسي  واحدًا من أهم مئة مفكر وشخصية مؤثِّرة في العالم.

أما كتابه هذا ، والذي تبلغ عدد صفحاته 850 صفحة ونُشِر في عام 2001، فيتكوَّن من حكاية طويلة شملت 6 اتجاهات كبرى للتحوًل، و خمسة شياطين، وأربعة ملائكة، وخمس قوى تاريخية.

الآن …افتح عينيك جيدا لتتسع لهذا العرض الوافي:

أولا: الاتجاهات الستة (الفصل 2 الى الفصل 7) : 
يجمع بينكر مئات الأدلة والتطوُّرات التاريخية المتفرقة التي تمثِّل مفردات تراجع العنف عبر تاريخ البشرية في 6 اتجاهات رئيسية:

إعلان

1- الإتجاه الأول: ويتمثَّل في التحوُّل من فوضى مجتمعات الصيد، وجمع الثمار التي قضى فيها أجدادنا معظم تاريخه التطوُّري إلى الحضارات الزراعية الأولى بمدنها وحكومتها، والتي بدأت منذ حوالي 5 آلاف سنة.

ومع هذا التحول حدث انخفاض في حالات الإغارة بين المجتمعات و بعضها، و النزاع العنيف بين المجتمعات، وحدث انخفاض بنسبة خمسة أضعاف في معدلات الوفيات العنيفة. و سميت هذه المرحلة بالتحوّ!ل نحو المهادنة Pacification process.

2-الإتجاه الثاني: ويمثِّل مرحلة التحوُّل من القرون الوسطى إلى القرن العشرين ( خاصة في أوربا)، و التي شهدت توحيد ملكيات الإقطاعييين في صورة ممالك كبيرة بسلطة مركزية وبنية أساسية :حركة تجارة ، حيث شهدت فيها الدول الأوربية انخفاضا بمتوسط 25 ضعف في معدل جرائم القتل. و يُلقِّب بينكر مرحلة التحوُّل هذه “عملية التحضُّر” اعترافًا بأهمية كتاب عالم الإجتماع نوربرت الياس، وللذي يحمل نفس الإسم.

3- الإتجاه الثالث: والذي انطلق منذ عصر العقل والتنوير الأوروبي في القرن السابع، والثامن عشر (وله سوابق مماثلة في عصر النهضة وأماكن أخرى). ولقد شهد أوّل حركات منظَّمة لإلغاء نماذج العنف التي كانت المجتمعات تقرها مثل الطغيان، والعبودية، والتعذيب بالأحكام التشريعية، والعقاب السادي، والقسوة تجاه الحيوانات. ويسمي المؤرخون مرحلة التحول هذه بالثورة الإنسانية.

4- الإتجاه الرابع: ويمثِّل التحوُّل الذي حدث عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث شهد العالم تطوُّرًا غير مسبوق حيث توقَّفت الدول الكبرى والمتقدِّمة عن شن الحروب على بعضها البعض. و لقد اطلق المؤرخون على هذه الفترة مرحلة السلام الطويل.

5- الإتجاه الخامس: ويدور حول تراجع الصراعات المسلَّحة حيث انخفضت، منذ بداية الحرب الباردة في 1989 كل الصراعات المنظمة بأنواعها – الحروب الأهلية، والقمع من قبل الحكومات الديكتاتورية، والهجمات الإرهابية في جميع دول العام وأحب أن ألقب هذه الفترة السلام الجديد.

6- الإتجاه السادس: وهي مرحلة ما بعد الحروب ، والتي استهلت بصدور إعلان حقوق الإنسان في عام 1948، فلقد شهد حالة من النفور المتزايد ضد العنف تجاه الأقليات ، والنساء ، والأطفال ، و المثليين ، والحيوانات. و انبثق عن هذا الإعلان الحقوق المدنية وحقوق المرأة ، وحقوق الأطفال، وحقوق المثليين ، وحقوق الحيوان بداية من أواخر الخمسينات، و لهذا سوف ألقِّب هذه المرحلة ثورة الحقوق.

الان رحب معي بالشياطين الصغيرة أو الخمس دوافع البدائية بداخلنا التي تقف خلف ميلنا للعنف ( الفصل 8):

ثانيا: الشياطين الخمسة
1- الافتراس predation : يعد استخدام القوى الجسدية طريقة فعالة لضمان الحصول على هذه الموارد، و الكائنات القادرة عليها تتمتَّع بميزة تطوُّرية، ويلقِّب هذا النوع من العنف “الافتراس”. ولقد تطوَّرت الكائنات الحية عن طريق الإنتخاب الطبيعي، حيث تتنافس مع بعضها حفاظًا على بقاء جيناتها الوراثية، فقد تلجأ إلى افتراس بعضها البعض، عندما تكون الموارد محدودة أو ينخفض عدد الإناث (أو الذكور) الصالحين للتزاوج.

ولكن على الرغم من أنَّ لدينا ميل طبيعي للعنف، فإنه من وجهة نظر تطوُّرية، تحتاج غرائز العنف لدينا لمن يضبطها و يجمح لجامها، لأنَّ العمل وفق إملاءات هذه الرغبة له عواقب وخيمة وخطرة لأن استخدامها ضد أقاربنا، على سبيل المثال، قد يضر بفرصنا التطوُّرية لأنهم يحملون جيناتنا الوراثيى. علاوة على ذلك، فالعنف نفسه محفوف بالمخاطر لأنه حتى و لو فاز كائن حي ما في معركة، فإنه قد يخرج منها وهو يعاني من إصابات عديدة تخفض من فرص بقاءه وانتقال جيناته الوراثية على المدى الطويلة. و لهذا السبب يميل البشر إلى استخدام العنف بشكل انتقائي.

2- الهيمنة dominance: تحاول أغلب الأنواع من الكائنات الحية الإجتماعية تجنُّب المعارك غير الضرورية، و يقيمون نظام هرمي للهيمنة يعتمد في ترتيب طبقاته على أساس الشخص أو الفرد المحتمل فوزه (الأقوى فالأقل قوى ، و هكذا) إذا حدثت معركة، و لهذا النظام فائدة كبيرة حيث يمكن من تجنُّب الصراعات والجروح والإصابات التي تنجم عنها. يميل النظام الهرمي عادة إلى الذكور، لأنه قائم على أساس الحجم و القوة النسبية، ويحدِّد مركز الذكر في هذا الهرم عدد النساء اللاتي يمكنه الحصول عليهما، حيث يتمتَّع الذكور في قمة الهرم بما يريدون من الإناث للتزاوج معهم.

لكن عند ظهور قبائل الصيد و جمع الثمار منذ مليون أو مليون و نصف عام، أصبحت الإناث أقل اهتماما بفكرة أن تصبح حاملًا من الشخص القادر صاحب الهيمنة ، وأصبحت ترغب فقط في ذلك الذكر الوفي الذي يعول عائلته. نظرًا لأن تربية الأسرة تعني توفير الطعام لهم، فلقد دفع التطور الإناث إلى تفضيل الذكور الذين يتسمون بالوفاء لأسرهم ويعودون من رحلات الصيد بالطعام للجميع ، وليس الذكور الذين لا يفعلون غير التزاوج مع أكبر عدد ممكن من الإناث، و لقد أدى هذا الإتجاه إلى أن نصبح كرماء وأوفياء لمن نحبهم، بوصفها جزء هام من المسيرة التطورية الناجحة للبشر.

3- الرغبة في الإنتقام Revenge : لا يعني الإنتقام فقط ذلك الثأر الفوري من الخصم، ولكنه يشمل أيضا ذلك الميل للاحتفاظ داخل الصدور بالحقد والغل تجاه الخصم ، وللبحث عن وسيلة للإنتقام منه على المدى الطويل. وهي ظاهرة شاملة أو كونية تقريبًا: فأغلب الثقافات في العالم تتبنى بشكل واضح فكرة الثأر الدموي (العين بالعين، والسن بالسن)، و يكون الإنتقام الدافع الأساسي وراء نحو 20٪ من جرائم القتل في العالم. لكن لماذا تشيع الرغبة في الإنتقام بهذا الشكل الكبير؟

أحد الأسباب ببساطة أنه يشعرنا بقدر من الراحة والإنبساط ، ففي الأبحاث التي أجريت على فئران المعامل تبيِّن أن الأخذ بالثأر يحدث استجابة ممتعة في المخ، تشبه إلى حد قريب اللذة التي تنجم عن تناول الشوكولاتة أو الكوكايين.

وربما لا تعلم يا صديقي أنّ! هذا الشيطان بوجه خاص، قد ينطلق من جعبة مفاهيمنا الأخلاقية… و إحساسنا بما هو صواب أو خطأ، حيث نميل إلى اعتبار أن رد الشر في نحر صاحبه لا يقل أهمية عن رد الخير لأصحابه.

الآن حان لقائك مع الشيطان الرابع والخامس .. الرابع منهما غريب و مرعب عرفناه من أفلام السينما والأدب ربما أكثر مما شهدناه في الواقع :

4 – السادية : وهي الرغبة في تعذيب الآخرين وإلحاق الألم عن قصد بهم فقط لأنّ منظر تألُّم هذا الشخص ومعاناته يخلق لدى ذلك الشخص السادي شعورًا بالمتعة والانتشاء. ولحسن الحظ فإنَّ السادية في الوقت الحالي أصبحت حالة نادرة في شكلها المباشر المحض.

أما في الماضي، فقد كانت السادية أكثر شيوعًا، ففي روما القديمة، على سبيل المثال لم يكن غريبًا أن يتم تعذيب المساجين حتى الموت في إستاد يتحلَّق حوله آلاف المتفرِّجين للترفيه عن الجمهور… و مع هذا، فإنه حتى في هذه الفترة، فقد كانت السادية أقل شيوعّا من بقية دوافع العنف الأخرى بالإقتراب أكثر من هذه الظاهرة، تبدو أنها حالة مكتسبة، تحتاج إلى وقت للتعود عليها ، وبعدها تصبح إدمانًا.

5- الأيديولوجية: و هي قناعة مشتركة لدى مجموعة من الناس بأن الخير العظيم أو اليوتوبيا التي تستهدفه هذه المجموعة تبرر أي أعمال عنف، و بهذا المعنى فإن العنف الأيدولوجي يشبه الافتراس l، و يمثل أداة للحصول على ما نريد.، و يتمثل الفرق في الأثنين أن الدافع للعنف الأيدولوجي لا ينبع من دوافع الفرد ، و لكن يعبر عن رغبة أفراد جماعة ما تجاهد لخلق عالم أفضل بأي وسيلة

و يتأثر الإنسان  بالأيدولوجيات بسبب ميل البشر إلى تصنيف الناس إلى مجموعات الأولى ، وهي المجموعة التي ننضم إليها ، أما الآخرين ففي المجموعة الآخرى ، هذا إلى جانب وقوعنا ضحايا الاستقطاب الفكري حيث ننفصل بين مؤيد و معارض لفكرة ما بشكل حاد ، فضلا عن أن الرغبة في الحفاظ على الاتساق الإجتماعي تجعلنا نرفض دائما مناقشة أصحاب الأفكار المختلفة، و العمل على إقصائهم، أو إجبارهم تحت تحديد القوة باعتناق أفكار المجتمع..

و لقد ترتب على هذه الأيدولوجيات تيارات من الكراهية الشديدة عملت على شيطنة أصحاب الرأي المخالف ، و الرافضين للانصياع ، فتسببت في بحور من الدم رأيناها في محرقة هتلر لليهود و الساميين، و حملات التطهير التي قام بها ستالين، و العديد من المذابح و الأعمال الوحشية التي طلت بوجهها القبيح علينا على مدار التاريخ.

الأن يا صديقي و بعد أن قابلت الشياطين الخمسة المحركة للعنف لدينا، و ضربك اليأس مثلي من خلال الصورة القاتمة التي رسمتها هذه الشياطين لطبيعتنا البشرية ، تعالى معي نقابل الملائكة .

ثالثا: الملائكة الأربعة

١- التعاطف empathy، و هي التي تدفعنا إلى الشعور بآلام الآخرين و الربط بين مصالحهم و مصالحه.

٢- التحكم في الذات يسمح لنا بتوقع نتائج أي تصرفات نقوم بها مدفوعين فقط بغرائزنا و عواطفنا، و تمنعنا من التصرف وفق ذلك.

٣- الحس الأخلاقي الذي يقر عدد من المعايير و المحرمات الذي يحكم التفاعل بين الناس في ثقافة ما، و أحيانا بطريقة تؤدي إلى انخفاض العنف، و مع هذا أحيانا قد تؤدي إلى زيادة العنف اذا كانت المعايير قبلية أو سلطوية أو تطورية )

٤- العقل ، الذي يسمح لنا بتحرير أنفسنا من نظرتنا الضيقة، ليقف متدبرا في الطرق التي نحيا بها حياتنا ، و يستخلص السبل التي تحقق لنا حياة أفضل ، فضلا عن توجيه و هدي الملائكة الثلاث الآخرين.

وفي  الفصل العاشر و الأخير، يجمع ستيفن بينكر بين التاريخ و علم النفس معا ليستخلص 5 عناصر أو قوى خارجية عززت من الإتجاه النزولي لمنحنى العنف و دعمت نوازع البشر نحو السلام، و هي :ـ

رابعا: القوى التاريخية الخمسة

١- ظهور الدولة state، والتي تواجه العنف، وتفصل في المنازعات عن طريق احتكار القوى.
٢- تنامي التجارة الدولية مما شجع على اعتماد الدول بشكل متزايد على بعضها البعض، و دفع التوجه نحو السلام الذي يؤمن حرية انتقال السلع.
٣- احترام المرأة و حقوقها (تيار النسوية) : تمكين النساء في الحياة العامة لعب دورًا سليما، فعندما حصلت النساء على إمكانية تحديد النسل انحسر العنف مع الحد من النمو السكاني.
٤- الكوزموبوليتانية: مع انتشار وسائل الإعلام، وانتشار التعليم، الذي يعزز التعاطف مع الآخرين و الإعتراف بوجود الآخر.
5- تزايد دور العقلانية و المنطق: و هو اللجوء للمعرفة و العلوم و العقلانية في حل المشاكل ، مما يدف الناس بعيدا عن دوامات العنف.

يؤكد بينكر على أن الإنسان ليس مجبولا بالفطرة على شر أو خير، ولكن لديه محفزات triggers تدفعه إما للاعتداء علي الغير أو التعاون معه، و أننا عندما ندرك بوضوح أن العنف يتراجع في هذا العالم ، فسوف يبدو العالم مختلفا في أعيننا، ويبدو الماضي اقل براءة،، و الحاضر اقل ضرورة، و نبدأ في تقدير النعم الصغيرة التي اكتسبناها من تعايشنا المشترك ، والتي كانت حلما أو يوتوبيا داعبت عقول أجدادنا.

و مع هذا،  فلقد تعرضت فكرة السلام الطويل التي دافع عنها بينكر لانتقاد شديد من الدكتور نسيم طالب ذلك العبقري صاحب البجعة السوداء حيث وصفها بأنها وهم إحصائي فكل ما رصده بينكر هو تباعد فقط بين فترات الحروب، و ليس دليلا علي الإطلاق يدعونا لتوقع استمراره … و كان هذا القياس أحد أسباب الصدمة التي تعرض لها العالم جراء الأزمة المالية في عام 2008 خاصة بعدما كانت كل التوقعات – المشابهة لإحصاءات بينكر و توقعاته- باستحالة حدوث انهيار في البورصات المالية على نطاق كبير جدا .

و سواء كنت مع نسيم أو بينكر ، فان الأمر لا يستدعي شعورا بالاسترخاء و الرضا الزائف، و علينا أن نعمل جاهدين للوصول فعلا إلى سلام حقيقي و دائم، و لا يمنعك هذا حيا صديقي من قراءة هذا الكتاب الثري، و سوف تكتمل متعتك فعلا عندما تتابع ذلك الجدل الفكري و البحثي الذي دار بين المؤلف و الدكتور نسيم طالب.

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك:

لماذا نصدق نظريات المؤامرة ؟! قراءة في كتاب العقول الشكاكة

صراع فلسفي :هل القلب مكمن الشعور والروح ، أم أنه مجرد مضخة ؟

كوكب سولاريس و عبثية الوجود الإنساني

 

إعلان

اترك تعليقا