هل ينتصر الفن والثقافة على الإرهاب والتطرف؟!

حالةٌ فريدةٌ صنعها مسلسلُ “أهو ده اللي صار” ، يُلاحظ صداها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وعلى صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، ولما لا والعملُ من تأليف أحد أبرز كُتَّاب الدراما المعاصرين عبد الرحيم كمال، ومن إخراج السوري المتميز حاتم علي.

لكن رغم هذا الزخم الكبير الذي صاحبَ عرضَ المسلسل إلاَّ أنَّه بتتبُّعِ ما كُتِبَ عن العمل نجد أنَّه لا يمثِّلُ ولا يعكسُ جميعَ ما جاء به، فالوصفُ المُقدَّمُ للمسلسل على قناة (أون دراما) على يوتيوب، والحالة التي صنعها على السوشيال ميديا غلبت عليها القراءات الرومانسيّة الحالمة للمسلسل متأثرين بعذوبة وطلاوة قصص حب أبطاله في حالة من النوستالجيا إلي مدينة الإسكندرية في عصرها الذهبيّ، وزمنها الجميل يجعلانك أسير قراءة واحدة لهذا العمل الدراميّ ألاَ وهي القراءة الرومانسيّة الاجتماعيّة.

ولكن هل ثَمَّة قراءة أخرى يمكن أن نتناول المسلسل من خلالها؟!

بالنظر إلى بعض الأسباب والدوافع يمكن أن ندّعي أنَّ هذا العمل الدراميَّ عملٌ سياسيٌّ أيديولوجيُّ بامتيازٍ تدورُ على هامشه بعضَ قصص الحب الرومانسيّة، وبعضَ القضايا الاجتماعيّة التي مرَّ بها المجتمعُ المصريُّ في 100 عام.

ولكي نفهمَ أيَّ عملٍ دراميٍّ علينا أولًا أن ننظر لعدد من الاعتبارات منها توجُّهات وأيدولوجيات صانعيه ومواقفهم السياسيّة، الخطوط العامة لإنتاجهم الفنيّ السابق، الظروف والملابسات السياسيّة والاجتماعيّة التي يُنتَج ويُعرَض فيها العملُ الدراميُّ، القضيّة الرئيسيّة التي يعالجها العمل ، والخط العام الذي يسير فيه.

وبتطبيق هذه المبادئ على “أهو دة اللي صار” نجد عدة أسباب تدفعنا للقراءة السياسيّة للمسلسل مثل توجُّه مؤلفه عبد الرحيم وحسه الصوفيّ، وموقف الصوفيّة من السياسة، مذهبه في الحب والجمال، وسوابق أعماله الدرامية، الظروف والأحداث الجارية التي يمر بها المجتمع المصريّ على الصعيد السياسي، وأخيرًا مساحة الأحداث والحوارات المباشرة، والإسقاطات غير المباشرة في المسلسل وهو ما سنستعرضه في السطور التالية.

إعلان

البداية مع اسم المسلسل “أهو ده اللي صار” وما يحمله من دلالاتٍ ومعانٍ في وجدان الشعب المصريّ، فاسم المسلسل هو نفس اسم الأغنية الشهيرة من غناء وتلحين سيد درويش التي يدعو فيها للتوحد والتكاتف والجهاد ضد المستعمر ” الخصم العايب “؛ دفاعًا عن شعب مصر الأصيل.

ومنذ الحلقة الأولى أسفر المسلسل عن خلطته الدرامية بالتوازي بين 1918، 2018 ما بين أم تنتظر ابنها الوحيد الذي حبسته ظروف الحرب العالمية الأولى عن العودة من بعثته التي سافر إليها لدراسة الطب، وصحفيّة شابّة تحاول تحقيق سبقٍ صحفيٍّ وكشفِ أسرار هدم القصور التاريخية في مدينة الإسكندرية.

الحوارات التي كانت تدور على المقاهي والتي كانت بمثابة المنتديات السياسية آنذاك تُناقَش فيها أمورُ البلاد والعباد، نلاحظُ تبايُّنَ التوجهاتِ السياسيّةَ بين التيارات السياسية المختلفة ( التيار الليبرالي متمثلًا في كامل أفندي، والتيار الإسلام السياسيّ متجسدًا في الشيخ الزهار، وتيار الأغلبية الوطنية غير المسيسة المدفوع بحب الوطن والغيرة عليه متمثلًا في علي بحر)، تبايُّنٌ شديدٌ ظهر في أكثر من مشهد في المسلسل تجاة قضايا الاحتلال البريطاني، والتبعيّة للخلافة العثمانيّة، وحرب فلسطين 1948، نظرة كل تيار سياسيّ للآخر واتهامه بالجهل والسطحية تارةً، وبالرجعية والتخلف ومعاداة التطور والحداثة تارةً أخرى.

وفي مشهدٍ معبِّرٍ يصحب يوسفُ بك نادرةَ بنتَ زكريا خادمة في القصر خلسةً عن عيون من فيه لترى البحرَ لأول مرة في حياتها ويتزامنُ ذلك مع خروج مظاهرات تنادي بالاستقلال التام، وتهتف ” سعد سعد يحيا سعد”، ليقول يوسف بك لنادرة ” شوفتي مش أنت بس اللي طلعتي النهاردة ستات كتير غيرك أهم ” وكأنَّ خروجَ نادرةَ معه من القصر بالتزامن مع خروج النساء في المظاهرات إيذانًا ببداية عصر جديد من التحرر والانفتاح ستعيشه المرأة، ومثلما ستتحرَّر مصرُ من الاحتلال، ستتحرَّر المرأةُ من ربقة العادات والتقاليد.

التحولات التي طرأت على الشخصيات الرئيسيّة في المسلسل بمرور الأحداث السياسيّة المتعاقبة، فالشيخ الزهار ابتعد عن أصدقاء الرقِّ والمزمار وانضم إلى الإخوان المسلمين، وأكمل علي بحر طريقَه في الفنِّ الهادفِ الذي يحملُ قيمةً ومعنًي ويتبني قضايا الوطن وهموهَه، واستمر وديع البساطي ( الفنان علي الطيب ) في البحث عن الصيت والشهرة وإيرادات شباك التذاكر ولو على حساب قيمة الفن، وكرامة الفنان.

الحوار الذي دار بين الشيخ الزهار وعلي بحر يدعوه فيه للانضمام إلى الإخوان المسلمين وركوب سفينة الحق والنجاة بعيدًا عن ضلال ” الهنك والرنك ” وأخذ عليه علي بحر تزلُّفَ الجماعة للحكام، وتقرُّبهم من الملك، واتباعهم الأعمى لقياداتهم دونما تفكُّر أو نقد، وتَمسَّكَ بحر بقيمة الحرية والفطرة السوية والفن والموسيقي والدفاع عن استقلال الوطن.

المزيج العجيب بين مجموعة الأصدقاء ( الخواجة والاستقراطي والفنان ) تعكس الحالة الكوزموبوليتانية التي كانت تعيشها مدينة الاسكندرية ،والتي نفتقدها في عصرنا الحالي الذي يغلبُ عليه قيم الفرديّة والأنانيّة والتعصُّب ورفض الاختلاف، نلاحظ ذلك في حديث بين الشيخ الزهار وكامل أفندي عن ديانة وديع البساطي وهل هو مسلم أم مسيحيّ.

يشير المسلسل في أكثر من موضع إلى منهج فريد في كتابة التاريخ يتبناه الخواجة جوني منصور (الفنان هاني سمير سيف ) الذي يرتاد الحانات ” الكاراخانات ” ويدوِّن الألفاظَ والكلمات التي تغنيها أصداف، ويكتبها وديع البساطي ويرفض الكتابة عن هتلر ومستجدات الحروب العالمية إيمانًا منه أنَّ هؤلاء سيجدون من يكتب لهم وعنهم أما الفقراء والمهمَّشين فلا أحد يهتم بهم.

وفي امتدادٍ لحالة جده الكبير وديع البساطيّ ( الفنان علي الطيب ) الذي اتخذ من الفن وسيلة للإثراء والتربح وتغييب الوعي والتقرب من الأنظمة السياسية، نجد حفيده أحمد البساطيّ ( الفنان محسن منصور ) يحاول بشتى الطرق شراء قصر نوار باشا وكتابة تاريخ جديد لعائلة البساطيّ في زمان كل شئ فيه خاضع لحسابات البيع والشراء والمساومات حتي التاريخ والأصالة والعراقة. على عكس ما حدث مع خديجة هانم ( سوسن بدر ) عندما رفضت عرضًا مغريًا لشراء القصر من الزفتاوي ( الفنان زكي لوجو ) أحد الأثرياء الجدد في حقبة الانفتاح في عصر السادات.

وبمرور الأحداث تكتشف سر مساعدة فاروق بك ( الفنان علي شوقي ) ليوسف زوج ابنته سلمى وتمسُّكه بحق ابنته في القصر حيث يصرِّح ليوسف في أحد المشاهد بأنَّه طرد من القصر من قبل خديجة هانم ( سوسن بدر ) عندما كان يزور خالته هندية ( الفنانة إلهام عبد البديع ) رفقةَ أمه ألفت ( الفنانة منة بدر تيسير ) وهو صغير مما أحدث لديه عقدة إثبات الذات والرغبة في امتلاك القصر.

يعرِضُ المسلسل حالة التناقض التي يعيشها شابان ينتميان إلى الإخوان المسلمين وكيف أنَّهم يمارسون التقيّة يرتادون المقاهي، ويدخنون النرجيلة ( الشيشية ) ويخفون نواياهم وتدبيرهم لعمليات إرهابيّة.

ورغم الحيرة التي عاشها يوسف الثالث ( أحمد داود ) والصراع الداخليّ بين أصله كحفيد لهلاوي وليس حفيد يوسف ابن نوار باشا، وبين المحكمة التي حكمت بأحقيته في القصر وخروجه من دائرة التراث مما يحق له التصرف فيه، وما بين أحلامه بتحويل القصر إلى قصر للثقافة ومدرسة للفنون وبين تطلعاته لبيعه واستغلال أمواله في مشاريع استثماريّة، يعترف لسلمي بأصله حتي يُريحَ ضميره ويقرِّر في النهاية المُضي في تحقيق حلمه بتحويل القصر إلى قصر للثقافة ومدرسة للفنون مهدِّدًا حماه بكشف أمره لابنته، في الوقت الذي قرر فيه حفيد جوني منصور ( الفنان حازم إيهاب ) تنفيذَ عملية إرهابية لتفجير كنيسة يدخل إليها من خلال بابٍ في القصر لينتهي المسلسل على أطفال أبرياء يغنون لسيد درويش بشكل جماعيّ ” مصر يا أم العجايب شعبك أصيل والخصم عايب ” بينما تقف الصورة على حفيد جوني منصور مُتّجهًا نحو الكنيسة لتفجيرها، في إشارة ذات دلالة أنَّ الأمل في النشء الذي ينبغي تربيتهم على الفن والثقافة وقيم الأصالة والحب والجمال لأنَّ هذا هو الطريق الوحيد لتجفيف منابع الإرهاب والتطرف.

وأخيرًا اتفقتَ أو اختلفتَ عزيزي القارئ مع هذه القراءة السياسية لهذا العمل الدراميّ، وأيًّا كانت الرؤية التي نفهمُ بها هذا المسلسل فإنَّ ذلك لا يعني تغييب أو نفي رؤًى أخرى مختلِفة، فما نحن والتذوقُ الفنيُّ إلا كالأسطورة الهندية ” الفيلُ والعميانُ “.

مراجع ومصادر
https://www.elcinema.com/work/2049443/
https://www.youtube.com/watch?v=EC6m1lj8Abs&feature=youtu.be

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد صلاح إبراهيم

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

اترك تعليقا