البحث عن الحياة على شفا الموت مراجعة فيلم (Taipei Suicide Story)

في إحدى ضواحي العاصمة التايوانية (تايبيه) يوجد فندق، يتيح لمن أراد أن يتخلص من حياته المبيتَ داخله في ليلتِه الأخيرة، مع توفير طرق وأدوات مختلفة لنزلائه، لمساعدتهم على الانتحار، والتكفّل بإجراءات الدفن. ولا تمنع قواعد الفندق من مراجعة النزلاء أنفسهم، والعدول عن قرار الانتحار، والبحث عن فرصةٍ جديدةٍ للحياة.
في هذا الفندق تدور أحداث الفيلم التايواني “قصة انتحار في تايبيه (Taipei Suicide Story) – 2020″، من تأليف وإخراج الأمريكي التايواني KEFF، وبطولة فيفيان سونغ (Vivian Sung)، و تندر هوانغ Tender Huang.

يبدأ فيلمُ Taipei Suicide Story بحصرِ حالات الانتحار التي تمّت في الليلة السابقة (ثلاثة بجرعةٍ زائدة، وواحد شنقًا، وآخر اختنق). العُمّال في الفندق يؤدّون مهامهم ببرودٍ دون تأثُّر، غير آبهين سوى باختيار بعض المنتحرين لطرق انتحارٍ مُتعِبَة لهم (كالاختناق بدخان الفحم)، فمنهم من تقيس ملابس إحدى المنتحرات لترى هل تليق بها أم لا، وآخر يتضاحك مع زميلته أثناء تصفُّح هواتفهم المحمولة بينما جثة أحد المنتحرين مُسجّى إلى جوارهم.

وبينما يسير العملُ في الفندق على هذا النحو، وعند تفقُّد غرفة أحد النزلاء، يُكتَشَف وجود فتاة داخلها منذ أسبوع دون أن تنهي حياتها أو تغادر الفندق كما تقضي قواعده.

يذهب إليها موظّفُ الاستقبالِ لمعرفة سبب وجودها كل هذه المدة دون علم مَن في الفندق، فتجيبه بأنّها جاءت إلى الفندق لكي تنهي حياتها على الفور، واعتَقَدتْ أنّ الحياةَ في الفندق كئيبةٌ لدرجةٍ تدفع الإنسان لقتل نفسه فور وصوله أو مغاردته إن فشل في ذلك. لكن، بمجرّد وصولها للغرفة التي حجزتها في الفندق، أحسّت بسلامٍ غريب، وأيقنت أن جميع مَن بالفندق يشبهونها في ضياعها ووحدتها، للدرجة التي لم تَعُد تشعر فيها أنها وحيدة، لتتوقّف لوهلةٍ عن مطاردة الموت، مع عدم رغبتها في العيش في آنٍ واحد.

يتأثّر موظّفُ الاستقبال بكلام الفتاة، ويمنحها فرصةً للبقاء لليلةٍ أخرى، فإما أن تنهي حياتها، أو تغادر الفندق، وإلا سيبلغ عنها الشرطة.

إعلان

يعود الموظفُ لاستكمال عمله، وفي الليل، وعندما تجد الفتاة مطعم الفندق مغلقًا، تستأذنه للخروج في شراء بعض الطعام من الخارج، فيستأذنها أن يصحبها في طريقِها إلى السوبر ماركت، ويعتذر لها عن أسلوبه، وتبدأ بوادر مشاعر الاهتمام والتعاطف في النشوء بينهما.

فهل يتعلق بها موظف الاستقبال، ويثنيها عن قرارها في الانتحار، وبذلك يخالف طبيعة عمله، أم يفعل ما تقتضيه وظيفته، ويتركها تنتحر وهو الذي بدأ يتعلّق بها؟

أسماء مجهولة وماضٍ مُبهَم

يُحسَب للفيلم تركيزه على قضيةٍ رئيسيّةٍ دون الانخراط والتشتُّت في تفاصيل أخرى ثانوية، فمثلًا نحن لا نعرف أسماء أغلب المشاركين في الفيلم، إلّا موظف الاستقبال (زي–هاو)، وكأنّ الأسماء لا تهمّ إذا تعلق الأمرُ بفعلٍ شنيعٍ كالانتحار. وقد يكون تجهيل أسماء الأبطال مقصودًا؛ حتّى لا تنشأ روابط عاطفية، أو ارتباط بين بعض الجمهور الحسّاس -كالشباب والمراهقين- وأبطال العمل، مما يدفعهم لتقليدهم.

كذلك لا يشير فيلم Taipei Suicide Story إلى ماضي الشخصيات، ولا يتَطَرَّق إلى تفاصيل حياتهم، فنحن لا نعرف الكثير عن بطلة الفيلم سوى أن أبيها قد مات في سنٍّ صغيرة. حتى حالات المنتحرين في الفندق، لا يقدِّمُ أيَّ خلفيةٍ نفسية أو اجتماعية لهم، ولا نراهم حتى وهم ينتحرون.

قد يعتقد البعض أنّه إذا كان هناك فيلم أو عمل فني يتناول قضية الانتحار، فإنّه سيبالغ في عرض مشاهد المنتحرين، ومعاناتهم في تنفيذ عملية الانتحار؛ للترهيب من عواقبه. ولكن على العكس من ذلك، لم يستفيض الفيلم في عرض تلك المشاهد، وكأنّ المنتحرين في الفندق هم مجرّد زبائن وأعداد فقط لا غير.

وحتّى الموسيقى، غابت تمامًا عن الفيلم، على عكس المتوقع بأن تكون جنائِزيّة حزينة تليق بموضوع الفيلم.

يغلب على إيقاع الفيلم البطء والهدوء والرتابة، وكأنّه يدفع المشاهد للترقُّب والتركيز لِمَا سيحدث، وينقل شعور أبطاله في مكانٍ يقضي فيه الزبائن ساعاتهم الأخيرة.

يتجسَّد الصراعُ في الفيلم في أكثر من جانب، فالفتاة في صراعٍ مع نفسها، هل تنفذ خططها للانتحار كما جاءت للفندق، أم تنسحب وتبدأ من جديد، وموظف الاستقبال (زي–هاو) في صراعٍ داخليٍّ بين مشاعر التعاطف مع الفتاة وطبيعة عمله.

لماذا قد يُقدِم الإنسان على الانتحار؟

يطرح فيلم “Taipei Suicide Story” العديد من القضايا الوجودية الجدلية، عن الحياة، والموت، والوحدة، والسعي للمعنى، والقيمة، وعن ضغوط الحياة التي تدفع المرء أحيانًا ليعمل في مجالاتٍ لا يحبها، وعن الأحلام بوصفها وقود وباعث على استكمال الحياة، والبحث عن فرصةٍ للبدء من جديد، وعن تغيُّر الأحلام كلما تقدمنا في العمر.

كما تَعرَّضَ الفيلم لتأثير النوع الاجتماعي على الوقوع تحت ضغوط الحياة، وهل تختلف الضغوط باختلاف الجنس، وبالتالي يصبح الرجال أكثر عرضةٍ للتفكير في الانتحار عن النساء، نظرًا لقلة المطالب والتوقعات منهن. وعن الجهل بقيمةِ الحياة التي نملكها، في مقابل التطلُّع للعيش كما يعيش الآخرون، وهل العيش على هامش الحياة يجعلنا في مأمنٍ عن الميول الانتحارية، على العكس ممّن يحيا تحت الأضواء والتطلعات، وهل توقعاتنا المُبالَغ فيها قد تدفعنا إلى الاحساس بالفشل، وخيبة الأمل، ومن ثم التعاسة والرغبة في إنهاء حياتنا. وعن الشعور بالشيخوخة والعجز وانقضاء الفرص وأنت في مقتبل العمر، عن فقدان الشغف ومطاردة السراب. وعن الاحتياج لمن يؤمِن بنا حينما تجتاحنا الشكوك، يمسك بنا حينما نريد إفلات أيادينا، ويمنحنا الطمأنينة وسط قسوة العالم.

لكن، هل من الصواب أن يتعلّق فانيٌ بفانٍ مثله، أم أن الإنسان في حاجة إلى ما هو أبقى، سواء كان شخص أو قيمة أو معنى يحيا به وله؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد صلاح

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا