محمد علي ونظام حكمه
يسعى هذا الكتاب إلى فهم المشروع السياسي الذي تبلور في سياسات محمد علي، وذلك باعتباره مشروع تحديث وتنوير وطني. ويتناول بالبحث الظروف التي صعد فيها الرجل إلى سدة الحكم وكيف استطاع أن يتفاعل معها مؤثرًا ومتأثرًا وهو يدور في فلك بناء دولة حديثة، في ظل وضع سياسي واجتماعي واقتصادي مهترئ، ومنافسة وتربص داخلي من قوى اجتماعية قديمة كالمماليك، وقوى خارجية عنيدة كالإنجليز. وهكذا يمضي الكتاب في رسم صورة عامة للوضع العام في مصر قبل محمد علي؛ ليمكن القارئ من فهم المشروع السياسي لمحمد على ومبرراته، وكيف كان يسير أمر التحديث والتنظيم والتطوير والإدارة الجديدة. ويقسم الكاتب مراحل حكمه إلى ثلاث مراحل؛ الأولى: مرحلة دعم سلطته السياسية من 1805 – 1820، والثانية: مرحلة بناء نظامه الجديد من 1820 – 1840، والثالثة: مرحلة انكساره من 1840 إلى نهاية حياته، وإلى ما بعد وفاته ممن خلفوه من ذريته.
ما قبل محمد علي:
جاءت الحملة الفرنسية على مصر كالعاصفة أو الإعصار العنيف، الذي هدم مبان كانت آيلة للسقوط فعجل من سقوطها، وحرك قوى هي موجودة ولكنها كانت تحتاج إلى من يحركها ويكسبها النشاط والفاعلية. لقد دفعت الحملة بصيغة النظام التي كانت حاكمة لمصر إلى الانهيار. حيث انهار نظام المماليك وتشتت قواهم وفقدوا أي إمكانية لاستعادة وضعهم السابق على الحملة، ومن ناحية أخرى صعدت قوى اجتماعية ممثلة في الشيوخ والعلماء ،وأعيان البلد من التجار وغيرهم، ولعبت دورًا هامًا في مواجهة المحتل والتصدي له.
إنَّ أهم أثر للحملة الفرنسية كما يرى المؤلف هو ما سمى بـ“المسألة المصرية” وهي وضع خاص اتخذ في إطار المسألة الشرقية، وهى مسألة تتعلق بتنافس الدول الأوربية الكبرى على الاستيلاء على مصر بوجه خاص لأهميتها في المنطقة العربية الإسلامية، ولأهميتها في طريق التجارة الدولية بين آسيا وأوروبا. وهكذا خرج الفرنسيون من مصر وتركوها محل نزاعٍ بين المماليك القوة الاجتماعية الآخذة في الأفول، والإنجليز الذين ساهموا في إخراج الفرنسيين، والدولة العثمانية التي أرسلت جيشًا كبيرًا –وهو الذي جاء فيه محمد على قائدًا لفرقة الجنود الألبان- بغرض إعادة فرض سيطرتها على مصر وإجلاء الفرنسيين، وأخيرًا القوى الاجتماعية المصرية الناشئة الممثلة في الأعيان، وعلماء الأزهر والذين وجدوا لأنفسهم مكانة جديدة في قيادة المجتمع.
صعود محمد علي إلى السلطة:
كان أول ما واجه محمد علي عندما تولى السلطة، أن جهاز الدولة المصري كان جهازًا مهترئًا ومتفككًا، فقد دخلت مصر بعد جلاء الحملة الفرنسية في فترة من الاضطراب والفوضى استمرت أربعة سنوات، ما جعل جهاز الدولة في مصر مزقًا وإربًا. كما كان منافسوا محمد علي في حالة هشة وضعيفة؛ فالمماليك كانوا في مقام شيخوخة الذاهب الآفل، والقوة الناشئة من الشيوخ والأعيان كانت لا تزال في يفاعة الصبا الغر. وهذا ما أتاح له أن يتفرد بالسلطة ويتخلص من خصومه ومنافسيه بسهولة، إما بالاقصاء والضم كما فعل مع المماليك أو بالاحتواء والتوظيف كما فعل مع الشيوخ والأعيان.
إنَّ من عادة الحاكم الفرد في أي مجال أن يتخلص من القرناء والأنداد أو القريبين من مستواه، باعتبار ذلك مهيئًا ومسوغًا لفرص الهيمنة وإسلاس علاقات الآمر بالمأمورين، كما أن الحاكم يهمه أن تكون العلاقات بين من هم دونه، لا عن طريق مباشر بين بعضهم البعض، ولكن تكون عن طريقه ليمكنه التحكم وليأمن المفاجآت، وليكون هو من ترد إليه كل المعلومات فلا تكتمل عند غيره ممن هم دونه، أو ليكون هو مصدر كل القرارات فلا تصدر ولا تتهيأ للصدور عن غيره ممن هم دونه. وهذا هو الأساس الذي أسس محمد علي عليه سلطته إبان صعوده للحكم.
بناء الدولة الحديثة:
نجح محمد علي بأكثر كثيرًا مما نجح غيره في القرن التاسع عشر في تحديث إدارة الدولة وتجديد مؤسسات المجتمع، وفي حل المعضلة التي كان لا بد أن تلازم حركة التحديث هذه، وكانت المعضلة هى أن من يريد إصلاح إدارة الدولة، لا بد أن يصلحها بواسطة أداة لديه، وأداوات الحاكم هي أجهزة الدولة؛ إذًا تكون المعضلة أن من يريد تحديث أجهزة الدولة وجيشها لا بد أن يفعل ذلك بواسطة الأجهزة الموجودة والتي يريد إصلاحها؛ أي أن من يريد التجديد لا بد أن يجريه بواسطة القديم، أن أنه يكون مطلوبًا من الإدارة القديمة أن تنفذ ما من شأنه أن ينفيها.
اعتمد محمد علي بشكل أساسي على الخبرات الأجنبية في التطوير والبناء، فتولى أمر بناء الجيش الجديد سليمان باشا الفرنساوي؛ وهو ضابط فرنسي سابق تمصّر واعتنق الإسلام. وأصدر محمد علي قانون سياستنامه في 1837 والذي بلور نظام الإدارة الجديد، وقسم أنشطة الإدارة العامة وفقًا للنظم الحديثة إلى سبعة دواوين وهي؛ ديوان الخديو وديوان الإيرادات وديوان الجهادية وديوان البحر وديوان المدارس ثم ديوان الأمور الخارجية والتجارة المصرية والديوان الأخير هو ديوان الفاوريقات. وأضيف إلى هذا التوزيع الإداري تقسيم الأقاليم المصرية، فقسمت إلى سبعة أقاليم، منها أربعة في الوجه البحري وثلاثة في الوجه القبلي فضلًا عن القاهرة. مع توضيح أنه ليس من الصواب أن نتصور أنه قد وضع مشروع كامل متكامل لترتيب أوضاع الإدارة المصرية لتنشأ به الأجهزة الحديثة بالنظم الجديدة، إنما كان يجري الأمر بالتراكم البطئ، وبما تستدعيه الحال من ضرورات في أي مجالات العمل، وبما يجد من احتياجات تتبلور بموجبها عناصر لتقسيم العمل، ثم تجري الاستفادة من التجربة في محلٍ آخر وتتشكل تقسيمات وتوظيفات وتكوينات جديدة وهكذا، فهى عملية تراكمية قائمة على الخبرة والممارسة. ويؤكد ذلك أن تشكل الإدارة الحديث وضعت أولى لبناته عام 1815، إلا أنه اتخذ سمته الواضحة في نحو عام 1837.
نظام التعليم الحديث:
كان محور بناء دولة محمد علي الحديثة هو بناء جيش حديث، ولما كان من لازم ذلك إخراج نخبة عسكرية على قدر عالٍ من الثقافة والتعليم، كانت هناك حاجة ماسة إلى تطوير نظم التعليم، فالجيش يتكون من بشر وللبشر عقول يتحركون بها، وهى تحتاج إلى ثقافة وتشكيلات فكرية. وقامت سياسة التربية والتعليم في عهده على تنمية أواصر الثقافة الإسلامية واللغات الشرقية السائدة بين النخب الإدارية والفنية، ثم يرد بعد ذلك من علوم الغرب ما يمكن أن نسميه العلوم الطبيعية، أو العلوم المتصلة بالصنائع وفنونها، والتي تفيد في التخصصات العلمية والمهنية المدنية من صناعات، وصحة بشرية، وطب بيطري لازم للإنتاج الحيواني وللجيوش التي لا تزال تعتمد فيما تعتمد على الخيول.
وهكذا فقد ركزت البعثات التي أرسلت لأوروبا وفرنسا خصيصًا على الهندسة والعلوم البحرية وورش الحرير وصناعة السيوف وصناعة النسيج والسيوف وسروج الخيل والدهانات للمباني وصناعة الشمع والصباغة والساعات والري والآلات الجراحية وإنشاء السفن، وثمة 20 بعثة أرسلت للآلات الهندسية، والمفروشات والصيني وعلوم الميكانيكا والمدافع. وبهذا نستنتج أن نظام التعليم الحديث هذا قام في أغلبه على توفية احتياجات إنشاء دولة حديثة قوامها جيش حديث وقوي وما يلزم ذلك من نظم حكم متطورة وما يتطلبه ذلك من تطور في التصنيع والعسكرية والبناء والزراعة وغيرها.
نظام التشريع:
يرى الكاتب أن ما سنه ووضعه محمد علي من تشريع جديد مستوحى من الخارج كان لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، بل إنه استدعى من الغرب ما يفيد في نهضته المادية، مع بقاء الهيمنة الفكرية والثقافية الإسلامية السائدة لدى الجماعة المصرية. وفي هذا يوضح الكاتب أنه عند النظر في مجال التشريع فإننا ننظر في الأحكام التشريعية المنظمة لمعاملات البشر والصادرة في زمان معين فإذا وجدنا نماذج تعامل وردت في شأن المعاملات من بلد آخر وتأثر بها النظام التشريعي في بلد معين، فإن ذلك يستتبع أن ننظر في أصل المرجعية التشريعية الفكرية السائدة في البلد، وننظر فيما إذا كانت استوعبت هذا النموذج الجديد في التعامل وأحكامه، أم أنها لم تستوعبه وخضعت لمرجعية فكرية تشريعية عامة أتت من خارجها؛ بمعنى أن التشابه والتقليد في الأحكام التفصيلية في التشريع لا يكفي للقول بتغير المرجعية الفكرية التشريعية السائدة، لأنه من الممكن لهذه المرجعية أن تستوعب النموذج الجديد وتدخل منه في مفرداتها إن لم يكن متناقضًا معها، فإن تناقض صار من الممكن أن تطرده وتبقيه خارج إطارها الفكري المرجعي ومن الممكن أن تخضع له وتتنازل عن سيادتها الفكرية.
ومن ثم فإن ما يهم هو المرجعية الفكرية السائدة التي يتحكم عملية إصدار أحكام تفصيلية، والمرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية العامة التي يسود الإيمان بها في جماعة معينة، فهى تَشَكُل ثقافي عام تبنى عليه النظرة السائدة في الجماعة المعينة حول ما هو الصواب والخطأ، وما هو الصحيح والفاسد. وهكذا يرى الكاتب أن مرجعية محمد علي كانت إسلامية حضارية حتى وإن أخذت بعض الأحكام من الخارج.
حروب محمد علي:
ينحو المؤلف إلى تفسير حروب محمد علي بمنحى مختلف عن التحليل السائد لتلك الفترة التاريخية والذي كان ينظر لتلك الحروب على أنها رغبة من محمد على في بناء إمبراطورية علوية خاصة على حساب الإمبراطورية العثمانية المهترئة. ويرى الكاتب أن حروب محمد علي كانت في إطار الحفاظ على وحدة الدولة العثمانية، بل إن بناء الجيش الحديث كان في هذا الإطار أيضا لتقوى به سلطة الخلافة في مواجهة ثورات الداخل عليها ومخاطر الخارج المحدقة بها.
فكانت أول حروب محمد علي هي الحروب الوهابية، والتي سيطر بعدها على نجد والحجاز، والحرب الثانية هي حرب السودان ليضم أقاليم شاسعة في السودان حتى أسس مدينة الخرطوم عند ملتقى النيل الأبيض والنيل الأزرق، لتمثل فتوحاته هذه امتدادًا لتوغل الدولة العثمانية في قلب أفريقيا، لتكون بهذا سيطرة على طول خط البحر الأحمر ابتدءًا من جدة وحتى ولاية الحبش وهذا يُفسر في سبيل أمن الدولة الإسلامية، فهذه الأراضي يقطنها مسلمون وعرب، والفتح هنا مثل ضم جزء من أراضي المسلمين إلى الأمة الإسلامية. ثم تأتي الحرب الثالثة وهي حرب اليونان، والتي مثلت ضد العدوان الخارجي المتربص. وأخيرًا تأتي الحروب الأخيرة والتي كانت مع السلطان العثماني نفسه، والتي يميل الكاتب إلى تفسيرها بأنها كانت تمردًا وثورة على السلطان ولم تكن بغرض فرض السيطرة على الدولة العثمانية نفسها بدليل أن جيش إبراهيم باشا وقف على حدود إستانبول مرتين ولم يدخلها، حتى كان في نهاية الأمر ما كان من مؤتمر لندن عام 1840 والذي فرض على محمد علي تصفية جيشه مع بقاء حكمه لمصر ومن بعده ذريته.
ختاما:
كان جوهر مشروع محمد علي السياسي وعمود دولته الحديثة هو الجيش والذي استلزم تطويره وجوه تحديث أخرى شملت التعليم والصناعة والزراعة والإدارة العامة. ويرى الكاتب أن مشروع محمد علي كان مشروعًا وطنيًا مخلصًا بصدق، استلم الدولة في ظرف عصيب ووضع مهترئ ومفكَّك وبيئة غير مواتية لتحقيق نهضة حقيقية. ومع هذا فإن محمد علي كان رجل دولة من طرازٍ رفيع، استطاع إنشاء جهاز إدارته من مادة وطنية خالصة مستقلة، قادر على الصمود أمام الأطماع والضغوط وخطط السيطرة والنفوذ التي تمارسها الدول الغربية الكبرى.
وأخيرًا فإن محمد علي بدأ وعاش وانتهى عثمانيًا مسلمًا، وإن مهمته من أول الأمر إلى آخره كان إحياء القوة العثمانية في ثوبٍ جديد، فقد رفض أن يكون معول الهدم في العالم العثماني، حتى ولو كان الهدم اسمه الاستقلال والباعث المحرك له اسمه العصبية القومية، وهكذا يمكن تسمية مشروع محمد علي (مشروع إحياء العالم العثماني) والذي انتهى من الخارج وبموجب موازين القوى الدولية التي فرضت أوضاعها – بكل ما فيها من قسوة وظلم- على الواقع العالمي في القرن التاسع عشر.