مداواة الآلام: لمحة عن تاريخ الألم منذ القرن السابع عشر إلى الآن

في الجزء السابق، سردنا أبرز المحطات في تاريخ الألم منذ العصور الغابرة وحتى القرن السادس عشر، وفي هذا المقال سنناقش أبرز النظريّات الحديثة عن الألم و علاجه، من القرن السابع عشر وحتى اليوم.

القرنين السابع والثامن عشر

في القرن السابع عشر، عفا الزمن على المفاهيم القديمة عن الروح والجسد. وظهرت الحاجة إلى نظريات جديدة تستند إلى اكتشافات في العلوم الطبيعية والطب والفيزياء. وبدأ الأطباء في اعتبار جسم الإنسان آلة ذات أجزاء مختلفة في حركة مستمرة.

في كتابه “الإنسان De homine“. اقترح الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) أحد أقدم مفاهيم الفيزيولوجيا الحديثة: إن الحركة أو اللمسة التي تبدأ في النهايات العصبية الطرفية يتم بثها إلى الدماغ، ومن ثم تُصدر صورة للمحفّز في الروح. وشبه ديكارت المحفز وطريقه إلى الدماغ بحبل في آخره جرس. فعندما يُسحَب طرف الحبل يرن الجرس المربوط في آخره مباشرة. ووصف ديكارت المسار العصبي برسمته الشهيرة، التي تصور ولدًا تستشعر قدمه حرارة النار (الشكل 1). شكل هذا المفهوم المبكر لانتقال الألم أساسًا لمزيد من التعديلات على نظريات الألم في القرن التاسع عشر.

الشكل 1 رينيه ديكارت: الإنسان.

ومن الجدير بالذكر كيف حاول ديكارت شرح ظاهرة ألم الأطراف الوهمية في حالة امرأة شابة بعد بتر يدها وساعِدها. وذكر أن ألمها نتج عن استمرار نشاط الأعصاب التي تمثل اليد التي قُطِعت عند الكوع، وإنتاج أحاسيس مماثلة لتلك التي كان يمكن الإحساس بها لو كانت اليد ما زالت موجودة. وبهذا منع التمييز والتهم العقلية التي قد تلاحق المرأة الشابة وألمها التخيلي من خلال محاولة العثور على تفسير “علمي” لهذه الظاهرة. ولأول مرة تم افتراض “الألم المركزي” كسبب لألم الأطراف الوهمية.

حاول فريدريك هوفمان (1660-1742) تفسير المعرفة الفيزيولوجية الجديدة وفقا لأفكار ديكارت، وبالتالي تأسيس أساس نظري ثابت للأدوية ، وهو نظام من المبادئ العامة القادرة على شرح جميع الظواهر الفيزيولوجية. وبالنسبة لهوفمان، كان الكائن الحي عبارة عن آلة مكونة من جزيئات سائلة وصلبة. قدمت السوائل (الدم واللمف والأرواح الحيوانية) الحركات المستمرة الضرورية للحياة. والتي يؤدي ركودها إلى تغييرات كيميائية مسؤولة عن العديد من الأمراض.

إعلان

بالإضافة إلى ذلك، يتم جلب العوامل المسببة للأمراض إلى الجسم مع الطعام والهواء المستنشق. فيعتقد هوفمان أن “الأرواح العصبية” هي المحرك الأساسي للجسم المرتبط بالعقل البشري غير المادي والذي خلقه الله. ولقد ابتكر “قطرات هوفمان” الشهيرة، وهي دواء طبي يحتوي على جزء واحد من الأيثروثلاثة أجزاء من الكحول.

أكسيد النيتروز و الأفيون

في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ظهرت العديد من الاكتشافات العلمية التي كان لها تأثير على تطور التحكم في الآلام. عزل السير جوزيف بريستلي (1733-1804) أكسيد النيتروز خلال “تجاربه وملاحظاته على أنواع مختلفة من الهواء“، وخلال الأعوام 1774-1777 ظهرت التقارير الأولى لتخفيف الألم من استنشاق أكسيد النيتروز تبعه في عام 1800 السير همفري ديفي (1778-1829).بعد فترة وجيزة من إزالة الأسنان، “عندما كان آلمني الالتهاب بشدة  استنشقت ثلاث جرعات كبيرة من أكسيد النيتروز. كان الألم يتضاءل دائمًا بعد الأربع أو خمس استشاقات الأولى”. واقترح أن يتم استخدام الغاز في عمليات جراحية بسيطة، ولكن لم ينتبه أحدًا لهذه التوصية. وعوضًا عن ذلك، ظهرت موضة استنشاق أكسيد النيتروز للشعور المبهج الذي يسببه.

أبلغ جيمس مور (1763-1834)، وهو جراح من لندن، لأول مرة عن استخدام الأفيون لتسكين الألم بعد العملية الجراحية في عام 1784. “الأفيون … هو مناسب للغاية للتخفيف من أذى الجرح بعد انتهاء العملية؛ ولكن أقوى جرعة نجرؤ على المغامرة بإعطاءها لها تأثير ضئيل أو معدوم في تخفيف معاناة المريض أثناء العملية”. واقترح ضغط الأعصاب المغذية للطرف المراد إزالته (1784)، ولكن ثبت أن هذه الطريقة غير ناجحة.

محاولات أنطون مسمر

ومتأثرًا بفكرة تأثير الكواكب على صحة الإنسان، بدأ فرانز أنطون مسمر (1734-1815) العمل بالمغناطيسية. فبدأ بتطبيق “المغناطيسية الحيوانية” لعلاج الأمراض المختلفة ومتلازمات الألم، معتقدًا أن نوعًا من السوائل الكونية سيتم نقله إلى الإنسان، فأنتج نتائج رائعة بهذه الطريقة. وأصبحت هذه الشعوذة شائعة جدًا في جميع أنحاء أوروبا، على الرغم من أن الطب التقليدي رفضها. وذهب مسمر إلى باريس في 1778، حيث أسس عيادة في ميدان فاندوم في فرنسا.

وبحلول الثمانينيات من القرن الثامن عشر، تخلى عن استخدام المغناطيس. ولكنَّه قدم “حوضه” الشهير، الذي قام بتخزين السوائل وصرفها من خلال قضبان حديدية قام المرضى بتطبيقها على المناطق المريضة من أجسادهم. وذاع صيت سائل مسمر غير المرئي من خلال جميع أنواع وسائل الإعلام. وكانت ممارسته لمسّ الأشجار الممغنطة الموجهة بشكل خاص للفقراء.

عرف مسمر فولفغانغ أماديوس موتسارت وكان أول إنتاج لأوبرا “باستيان وباستيني” في حديقة مِسمر عندما كان موتسارت يتعالج هناك. ففي أوبرا “كوزي فان توتي” (1790) وصف موتسارت العلاج بالمغناطيسية. وقد أنقذت ديسبينا، خادمة الغرفة، التي كانت ترتدي زي طبيب، حياة اثنين من الغرباء تظاهرا بالانتحار بالزرنيخ باستخدام مغناطيس.

 “Questo e quel pezzo / Di calamita:   / Pietra mesmerica, / Ch’ebbe l’origine / Nell’ Alemagna, / Che poi si celebre / La in Francia fu.” هذه قطعة مغناطيسية، الحجر الذي اكتشفه الطبيب العظيم مسمر في ألمانيا، ثم أصبح مشهوراً في فرنسا.

لكن في القرن التاسع عشر أصبح من الواضح أكثر أن هذا النوع من العلاج لم يكن مرتبطًا بنوع من الطاقة الجسدية وإنما بالتنويم المغناطيسي.

وشملت أساليب العلاج الأخرى ضد الألم أساليب الحكّ، والجَلد والكيّ كأشكال من التهيُّج المضاد وهو مادة تخلِق تهيج أو التهاب خفيف في مكان واحد بهدف تخفيف الانزعاج و/ أو الالتهاب في مكان آخر. وفقًا لنظرية التحكم البوابي في الألم). استُخدم منفط (مادة تسبب خروج البثور) شعبي من مسحوق الذراح -نوع من الحشرات- في بعض الأحيان مخلوطًا مع بذور الخردل وغيرها من المكونات، وهو علاج لا يزال يستخدم في الطب التكميلي حتى اليوم.

الطب الصيني و الياباني

تم تقديم واعتماد تقنيات وعقاقير لتخفيف الألم القادم من العالم الشرقي في أوروبا. فالوخز بالإبر كان يعرف في وقت مبكر من حوالي 2600 قبل الميلاد في الصين، وكان قد وصل الطب الصيني التقليدي إلى اليابان في منتصف القرن السادس.

بصفته عضوًا في شركة شرق الهند الهولندية، أبحر فيلهلم تن رين (1647-1700) إلى ناغازاكي باليابان في عام 1674، حيث لم يكن هناك سوى اتصال محدود بين اليابان والعالم الغربي بسبب اللوائح الحكومية اليابانية من عام 1641. ولم يسمح للهولنديين بالتعرف على اليابان أو دراسة لغتها. ومع ذلك سمح الشوغون للهولنديين بالحفاظ على محطة تجارية في جزيرة ديجيما الصغيرة في خليج ناجازاكي. وحاول المترجمون والأطباء اليابانيون الذين سمح لهم بزيارة هولندا تعلم الطب الغربي وأعطوا لمحات للعالم عن الثقافة اليابانية والطب. وقد اهتم فيلهلم تين رين بشكل خاص بتقنيتين علاجيتين فريدتين: الوخز بالإبر والكيّ.

بعد ذلك بعامين في أكتوبر 1676 غادر تن رين ناغازاكي وعاد إلى جاوة، حيث قضى بقية حياته. في عام 1683 نشر كتاب “أطروحة التهاب المفاصل Dissertation de arthritide” الذي يقدم وصفًا شاملاً للممارسات الطبية اليابانية والوخز بالإبر كما علمه مشرفوه اليابانيون.

في 1671 م. نشر ب.ب.هارفيو، وهو مبشر يسوعي في الصين، أول عمل معروف عن الوخز بالإبر (Les secrets de la medecine des Chinois, consistant en la parfaite connoissance du Pouls)، على الرغم من أن تن رين كان أول طبيب غربي يجلب هذه التقنية إلى اهتمام أوروبا فقد شبه الوضع الصحيح للإبر بالمِلاحة بحرية. وكان على الممارسين أن يكونوا على علم بأداء القلب و دورة الدم و إعادة تدوير مجرى الدم و حركة السوائل. واعتبرت كل من العمليات والحرق والوخز بالإبر علاجات لتخفيف الألم. وكان يجب أن تكون الإبر طويلة وحادة ومستديرة بمقبض ذو حفر حلزوني، وأن تكون مصنوعة من الذهب، وأحيانًا من الفضة، ولكن ليس من أي معدن آخر.

لم يكتف تن رين بوصف تقنية الوخز على نطاق واسع، ولكنّه أيضًا وصف المؤشرات المختلفة للوخز بالإبر. ثم سرد الحالات المؤلمة مثل المغص، والآلام بسبب التهاب المفاصل، والصداع جنبًا إلى جنب مع مختلف الحالات الأخرى (على سبيل المثال إعتام عدسة العين، والتشنجات العصبية، والحمى، السوداوية).

القرنين التاسع عشر والعشرين

بسبب التغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية الدرامية والدور المتطور للعلوم الطبيعية والفلسفة، تم إعادة النظر في تجربة الألم عند البشر في القرن التاسع عشر. فقد تم فهم الألم والمعاناة كعقاب ومصدر للخلاص في العصور الوسطى، مما أدى إلى الرأي القائل بأن تخفيف الألم الطبي يتعارض مع إرادة الله الخاصة. تحول هذا الموقف تدريجيًا إلى مفهوم أن الألم نتيجة لأسباب محددة، مع فرصة لعلاج المرض المسبب له.

نظريات الألم الحديثة

وفي أوائل القرن التاسع عشر، أدى عدد متزايد من الدراسات والتجارب العلمية إلى فهم جديد لعلم وظائف الأعضاء والإحساس بالألم.

فأجرى عالم الفيزياء الفرنسي ماري جان بيير فلورينز (1794-1867) دراسات مكثفة على دماغ الحيوانات. وخلص إلى أن الفكر والذاكرة والإرادة والإدراك لديهم أساس تشريحي مشترك في المادة الرمادية (1824). وخلص أيضا، أن نصفي الكرة المخية كانت غير قابلة للاستثارة.

واستغرق الأمر ما يقرب من خمسين عامًا لتجميع ما يكفي من الأدلة لنفي مفهوم القشرة كعضو غير قابل للاستثارة. وكان روبرتس بارثلو (1831-1904)، من سينسيناتي، أوهايو، أول من قام بتحفيز كهربائي للدماغ البشري في يناير 1874، لاختبار ردود الفعل على مناطق الدماغ المختلفة التي تم تحفيزها مباشرة بالكهرباء، وكانت تقاريره مثيرة للجدل، وأثارت قضايا أخلاقية، وقيل عنه متخلف عقليًا، وطُرحت أسئلة حول ما إذا كان قد تم منح الموافقة المسبقة للإجراء. كان من المثير للجدل أيضًا ما إذا كان الإحساس بعدم الراحة ونوبات الصرع عند ذلك المريض كانت نتيجة للتجربة أم لا.

قام يوهانس بيتر مولر (1801-1859) بتطوير “قانون الطاقات الحسية المحددة” في أوائل القرن التاسع عشر. وينص هذا القانون على أن نوعية الأحاسيس لا تعتمد على المنبه بل على العضو الحسي والمسارات التي يتم تحفيزها. وبالتالي، فإن إثارة نظام حسي معين، قد يُنتج إحساسًا بالطريقة المميزة لهذا النظام. ولم يكن هذا الفهم للفيزيولوجيا مبنيًا على التجارب، بل على التشريح الوظيفي. ففي كتابه “دليل علم وظائف الأعضاء البشرية” حاول مولر وصف العلاقة بين المشاعر الحسية و “الأحاسيس الشخصية للمشاعر”.

استنادًا إلى نظرية ديكارت ومع فرضية وجود مستقبلات محددة للألم، اقترح عالم الفسيولوجيا الألماني موريتز شيف (1823-1896) نظرية النوعية في عام 1858. وفقًا لنظرية النوعية الألم واللمس لكل منهما طرائق حسية مختلفة في الجهاز المركزي والطرفي. تم دعم هذه النظرية من خلال التجارب اللاحقة التي أجراها بليكس (1882) وغولدشايدر و فون فراي (1852-1932).

وكرد فعل ضد نظرية النوعية اقترح فيلهلم إتش. إرب (1840-1921) وهو عالم فيزيائي ألماني آخر نظرية جديدة في عام 1874: نظرية الأنماط (نظرية الشدة). حيث يتم إنتاج أنماط النبضات العصبية للألم عن طريق التحفيز المكثف للمستقبلات غير النوعية. لذلك قد يثير كل حافز حسي الألم إذا وصل إلى كثافة كافية. وقد أدت نتائج أخرى من الدراسات التشريحية والتجارب الفسيولوجية إلى تعديلات على نظريات الألم.

بشكل مستقل، حدد ألفرد غولد تشيدر (1858-1935) وعالم الفيزيولوجيا السويدي ماغنوس بليكس نقاطًا دافئة وباردة على الجلد. ففي عام 1898 نشر غولدشاير مقالًا “الطاقة المحددة للأعصاب الحسية في الجلد” يصف نقاط محددة من الجلد لإحساس الضغط والألم بالإضافة إلى نقاط أخرى لاستشعار درجة حرارة الجلد. وافترض أن شدة الحافز والإجمال المركزي كانا المحددان الرئيسيان لإدراك الألم. واستمر الجدل حول نظريات الألم المختلفة، فجميعها مدعومة بنتائج التجارب المختلفة والدراسات التشريحية، طوال العقود التالية. واقترحت نظريات أخرى مثل “نظرية الإجمال المركزي” و “نظرية التفاعل الحسي” و “النظرية الرابعة للألم”.

اقترحت نظرية جديدة لآلية الألم في عام 1965 من قبل رونالد ملزاك (من مواليد 1929) وباتريك دي وول (1925-2001).
قد يعجبك أيضًا

في ذلك الوقت كان الجدل حول طبيعة الألم لا يزال قائمًا ونوقشت النظريتان الرئيسيتان المتعارضتان: نظرية النوعية ونظرية الأنماط. أخذت “التحكم البوّابي في الألم” بعين الاعتبار بعض الجوانب من النظريتين، السريرية وكذلك الأدلة النفسية على إدراك الألم. استحوذت المادة الجيلاتينية على وظيفة البوابة، كمحور انتقال متشابك للنبضات العصبية من خارج الجسم إلى داخل الجهاز العصبي. وتم إفتراض “مفتاح التحكم المركزي” والذي يعني أن تحفيز الدماغ ينشط الألياف المثبطة الهابطة، وبالتالي يؤثر على قدرة التوصيل في الألياف العصبية الواردة -التي تنقل الإشارات إلى الدماغ-.

تعمل الأنماط الصادرة في نظام العمود الظهري كقوة تحكّم مركزية على تنشيط عمليات الدماغ والآليات العصبية المسؤولة عن “الاستجابة والإدراك” والتي يتم تفعيلها من قبل خلايا الإرسال المركزي. وفقًا لنظرية ميلزاك ووول، ويتم تحديد ظواهر الألم من خلال التفاعل بين هذه الأنظمة. إن الانتباه والعاطفة والذكريات قادرة على “التحكم في المدخلات الحسية”. ويمكن فهم الاستراتيجيات العلاجية مثل التدليك والضغط وتحفيز الأعصاب الكهربائية عبر الجلد (TENS) بهذه النظرية، “أي تلاعب يخترق المدخلات الحسية يقلل من فرصة الإجمال والألم…”.

وصرح وول وميلزاك بأن “النموذج ربما يكون خاطئًا في عدة تفاصيل”. ولقد أنتج نشر “التحكم البوابي في الألم” كمية هائلة من الأبحاث التي تهدف إلى دعم أو دحض هذه النظرية. وفصف ميلزاك نفسه أهم قضية في هذه النظرية على النحو التالي: “ما هي أهم مساهمة لنظرية البوابة؟ أعتقد أنه كان التركيز على آليات الجهاز العصبي المركزي. لا يمكن لأي شخص مجددًا، بعد عام 1965 أن يحاول شرح الألم حصًرا من حيث العوامل الطرفية”.

وأسس السير هنري هيد (١٨٦١-١٩٤٠) العلاقة القِطَعِيّة بين القِطاعات الجلدية Dermatoms. القِطاعات الجلدية تُغذّى بأعصاب نابعة من قرن ظهري dorsal horn واحد، ويمكن أن تتأثر بمدخلات من الخلايا العصبية الأخرى المتقاربة على نفس القرن الظهري. ووفقًا لهذا المبدأ، يمكن لمرض الأحشاء أن ينتج إحساسًا مؤلمًا في منطقة من الجلد ممثلة في الجزء التشريحي نفسه من الحبل الشوكي. وهذا يفسر الألم المنقول أو الألم الرجيع وهو الألم الذي يشعر به المصاب في موضع غير موضع الإصابة. مثلًا نقص التروية الذي تسببه الذبحة الصدرية يؤلم في الظهر والكتفين والعنق لا في الصدر حيث موضع الإصابة.

أكل الأفيون

الشكل 2:، رسمة فنية على البلاط تُظهر نبتة الخشخاش. إن صور الخشخاش على البلاط، والفخار الخزفي، والمزهريات موضوعًا شائعًا في  الفن الحديث. (Ernst Teichert GmbEl، Meissen، about 1905؛ Private collection، Cologne).”

وعلى عكس المعرفة المتزايدة حول الأفيون ومشتقاته في القرن التاسع عشر، استمر الناس في الإعتقاد بأن الأفيون “النقي” هو دواء عالمي شامل. وتم استخدام الأفيون في حالات مثل الألم المرتبط بالإصابة والصداع وآلام المعدة والزحار والإسهال.  وكما أدرج الأفيون في علاج الجدري، وحالات أمراض الصدر، والحمى والهذيان الارتعاشي. كان استخدام الأفيون عن طريق تناول أو شرب اللوندوم مقبولًا على نطاق واسع في انجلترا الفيكتورية. فقد تم بيع العشرات من الصيغ المستندة على اللوندوم كأدوية قوية لألم التسنين، المغص، أو حتى لتهدئة الأطفال.

كان لوندوم سيدينهام، خليط من القرن السابع عشر ابتكره توماس سيدينهام (1624-1689)، خليطًا من الأفيون والزعفران ومسحوق القرفة ومسحوق القرنفل ونبيذ شيري. ويمكن إعطاء لوندوم سيدينهام بجرعات دقيقة، لذلك أوصى باستخدامها مع الأطفال أيضًا، واستمر وصف تركيبة سيدينهام للمرضى حتى بداية القرن العشرين.

وشملت التراكيب الأخرى مسحوق الطباشير مع الأفيون، وطبقة الأفيون، وصبغ الصابون والأفيون، وإكليزيات الأفيون والتحاميل، وأقراص العرقسوس بالأفيون وخل الأفيون. وكانت العديد من الأدوية الاحتكارية تعتمد على الأفيون، مثل؛ بودرة دوفر الشهيرة، التي أنشأها الطبيب الإنجليزي الدكتور توماس دوفر (1662-1742) والتي تحتوي على الأفيون ومسحوق عرق الذهب وملح بيتر والجير والعرقسوس كعلاج ضد نزلات البرد وآلام الروماتيزم. واستخدمت بعض هذه العلاجات في أوروبا وأمريكا الشمالية حتى بداية القرن العشرين، وأصبح استهلاك الأفيون من المألوف جدًا بين أعضاء الطبقة العليا، واستُخدِم بين الفنانين والدوائر الأدبية لتحفيز العملية الإبداعية.

وفي عام 1822، نشر توماس دي كوينسي (1785-1859) كتابه “اعترافات آكل أفيون إنجليزي” والذي وصف “مهنة المخدرات” الخاصة به، والتي بدأت في خريف عام 1804 بسبب “آلام روماتيزمية طاحنة في الرأس والوجه”. وكما وصف استخدام المواد الأفيونية في المجتمع الإنجليزي على نطاق واسع. ويعتقد دي كوينسي بأن الأفيون

“دواء لكل الأمراض البشرية، وهو سر السعادة التي تنازع حولها الفلاسفة لكثير من العصور، فيمكنك الآن شراء السعادة بفلس واحد، وحملها في جيبك..”

واصل وصف الأفيون وأثره على حياته وأحلامه في “تَنَهُد من الأعماق” الذي نشر لأول مرة في عام 1845. ومع ذلك، لم يكن أعضاء الطبقة العليا والفنانين وحدهم من يأكلون الأفيون. فكان تناوله أيضًا ممارسة راسخة في مناطق الطبقة العاملة مثل المدن الصناعية الشمالية في إنجلترا والحي الشرقي في لندن، فقد ذكر توماس دي كوينسيكوينسي”… قبل بضع سنوات، مرورًا بمانشستر،  بُلغت من قبل العديد من مصانع القطن أن عمالها كانوا بسرعة يكثرون من تناول الأفيون؛ لدرجة أنّه بعد ظهر يوم السبت كانت عدادات الصيادلة تتناثر مع أقراص دواء تحوي واحدة أو اثنتين أو ثلاث حُبيبات، استعدادًا للطلب المعروف في المساء. وكان السبب المباشر لهذه الممارسة هي قلة الأجور، والتي في ذلك الوقت لم تسمح لهم بالانغماس في البيرة أو المُسكِرات”

الألم

الشكل 3 توماس دي كوينسي: “اعترافات آكل أفيون إنجليزي” و “تنهد من الأعماق” تيكنور آند فيلدز، بوسطن 1860.

الأفيونات، والإندورفينات، ومُستقبلات الأفيون

ليس فقط في علم وظائف الأعضاء بل أيضًا في علم الصيدلة كان هناك اكتشافات رائعة في بداية القرن التاسع عشر. فكان الصيدلي الألماني فريدريش فيلهلم آدم فرديناند سيرتيمر (1783-1841) أول من عزل “العامل المسبب للنوم” (primum somniferum) المورفين من الخشخاش في عام 1805.  كما يحتوي “اللبن” المجفف من Papaver somniferum على خليط من 25 قلويّة مختلفة، مع نسبة بسيطة تقارب 9-17% من المورفين ومركبات أخرى مثل النوسكابين والكودايين والذيبايين وغيرها. والتي سماها سميتير مورفين تيمنًا بمورفس إله النوم عند الإغريق.

ففي عام 1840، بدأت شركة إ.ميريك وشركائه، في دارمشتات بألمانيا، أول إنتاج صناعي للمورفين في خمسينات القرن التاسع عشر وانتشر استخدامه على نطاق واسع، وفتحت التقنية الجديدة للتطبيق تحت الجلد بحقن الدواء النقي في جرعات محددة حقبة جديدة من إدارة الألم. إن القبول الواسع النطاق للمورفين تحت الجلد كان خالي من الآثار الجانبية المزعجة المصاحبة لاستهلاك الأفيون الفموي، ومع ذلك، فتحت سهولة هذا التطبيق تحت الجلد الطريق إلى المورفينية (إدمان المورفين).

وكما انتشر الاستخدام وسوء تعاطي المورفين بسرعة خلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) والحرب الفرنسية الألمانية في 1870/1871، وأدى الاستخدام الطبي “غير المنضبط” للمورفين خلال الحرب إلى إصابة العديد من الجنود بالإدمان نهاية الحرب. وأصبح إدمان المواد الأفيونية يعرف باسم “مرض الجندي”، وأصبح خطر الإدمان للمورفين عن طريق الحقن مفهومًا على نحو متزايد، وقد أثار الاهتمام المتزايد بهذا الخطر الجهود البحثية للعثور على مواد مسكنة أقل عرضة لخطر الإدمان.

وفي عام 1874، قام تشارلز أدلر رايت بتكوين العديد من استرات المورفين، من بينها ثنائي أسيتيل المورفين. وفي وقت لاحق تمت تجربة هذا الدواء على حيوانات مختلفة، وتبين أنها أقوى في قمع السعال وأقل فعالية كمسكن مقارنة بالمورفين. وفي عام 1898، قامت شركة باير الألمانية للأدوية بإعادة تصنيف ثنائي أسيتيل المورفين تحت اسم الهيروين. واعتقدوا حينها أنّهم طوّروا مركب يؤثر على الجهاز التنفسي، ولكن أقل من المورفين فيما يتعلق بالتسكين. وأعلنت باير عن الهيروين في جميع أنحاء العالم بأنها مادة “مهدّئة للسعال”، اعتقادًا أنّها أقل إدمانًا من المورفين والكوديين. ولفترة من الوقت، روّجت شركة باير  الهيروين “كبديل للمورفين”.

ومع ذلك ، أصبح الإدمان على الهيروين مشكلة متنامية في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين. فقد كان الهيروين متوفرًا بدون وصفة طبية، وكان أكثر قوة من المورفين ويمكن أن يُدخن أو يُحقن أو يشم أو يبتلع. وأدى وباء تعاطي الهيروين في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تشريعات حكومية أكثر صرامة في عام 1914، مما قلّل من الحد الأقصى لكمية الهيروين في المستحضرات، وحظر الأفيون والمورفين والكوكايين وعدة مواد أخرى من التحضيرات بدون وصفات طبية.

مع التقدم العلمي المستمر، أصبح تطوير المسكنات الأفيونية الجديدة ممكنًا.

تم تطوير مشتقات جديدة نصف صناعية أو صناعية بالكامل من المورفين والكودايين مثل الهيدرومورفون والميثادون وغيرهم خلال الحرب العالمية الثانية كبديل للمورفين في ألمانيا، حيث كانت موارد الأفيون منخفضة. وجعل التوافر الحيوي المتغير للغاية والعمر النصفي الطويل والمتغير استخدام الميثادون لإدارة الألم صعبًا، وتم استخدامه أساسًا للعلاج البديل لمدمني المخدرات.

وفي الآونة الأخيرة، يمكن اثبات أن الميثادون ليس فقط ناهض (agonist) مستقبلات ميو 4 ولكن أيضًا مضاد NMDA غير تنافسي(noncompetitive). وحظت آلية العمل هذه باهتمام كبير بين الأطباء حيث أن مُستقبل NMDA يشارك في الفيزيولوجيا المرضية لألم الأعصاب، وبالتحديد في الظاهرة المسماة “wind-up” ، وهي نموذج للتوعية المركزية sensitization .

فقد أصبح في عام 1953 بول أ. جانسن (من مواليد 1926) مهتمًا بتطوير المزيد من المخدرات الاصطناعية القوية. فأسفرت دراسته في تركيب الفنتانيل (Fentanyl®) المشتق من الفينيلبيبيدرين في عام 1960. وأثبت أن هذا الدواء أكثر نشاطًا بما يقرب من 40 مرة من المورفين و 100 مرة أكثر نشاطًا من البيثيدين. وكما أدى الفهم الأفضل للعلاقات بين التركيب الكيميائي والنشاط إلى تطوير مركبات أقوى مثل كارفينتانيل، سوفانتانيل، ألفنتانيل.

وفي سبعينيات القرن العشرين، كان إظهار مستقبلات الأفيون في الدماغ البشري علامة بارزة أخرى في فهم كيفية استقبال الألم ولزيادة تطوير تقنيات تخفيف الألم، عُثِر على مستقبلات الأفيون بكثافة عالية في المادة الجيلاتينية من الحبل الشوكي وكذلك في أجزاء من الدماغ المتعلقة بالمسارات الفسيولوجية للألم، وخاصة في الجهاز الحوفي والمنطقة الرمادية المُحِيْطٌة بالمَسال periaqueductal من جذع الدماغ.

فقام ياكش ورودي بإعطاء العديد من المواد الأفيونية (الفنتانيل ، المورفين، الكوديين، إيثيل مورفين) إلى الحيّز تحت العنكبوتية الشوكية subarachnoid في الفئران، مما أدى إلى عتبات مرتفعة للألم (بمعنى أن المحفز ينبغي أن يكون أقوى من الطبيعي لينتج إحساس الألم)، ويمكن عكس هذا التأثير بواسطة النالوكسون.

وأعقب هذه التقارير برهنة وجود المواد الأفيونية الذاتية، الإندروفينات و الإنكيفالين، والتي تشكل نظامًا داخليًا لتخفيف الإحساس بالألم. فأدت هذه المعرفة إلى إعادة تطبيق تطبيق الأفيون الشوكي في الممارسة السريرية. وقام بيهار وآخرون في عام 1979 بحقن المورفين فوق الجافية epidurally. وكما وصف وانج وآخرون في نفس السنة كيف تمكنّ المورفين من تخفيف ألم السرطان عند حقنه داخل القراب intrathecally.

وفي أواخر الثمانينات، وصِفت المستقبلات الأفيونية في الأعصاب الطرفية، ويمكن تمييز أنواعها أيضًا. وأظهر شتاين وزملاؤه أن حقن المورفين داخل المفصل قلل من الألم بعد جراحة تنظير مفصل الركبة.

ومع ذلك، لم يكن المورفين متاحًا قبل عام 1983 في صيغة إطلاق مستمرة sustained release  (MS Contin®). فهذه الصيغة المبتكرة كان لها تأثيرًا كبيرًا على تخفيف الألم المزمن. وكانت هذه التركيبة أكثر راحة للمرضى، مما أدى إلى تحسين جودة حياتهم، تم إصدار نظام دوائي عبر الجلد مع الفنتانيل (Duragesic®) في عام 1991. وأثبتت سلامة وفعالية مسار الدواء الجديد عبر الجلد عبر دراسات شملت مرضى السرطان وكذلك المرضى الذين يعانون من آلام غير سرطانية. فهناك العديد من المواد الأفيونية المتفرعة في صيغ الإطلاق المستمر، مثل oxycodone (Roxycodone®) والهيدرومورون (Palladon®) ونظام جديد عبر الجلد يحتوي على البوبرينورفين (Transtec®) تبعه في السنوات الأخيرة.

وتشمل الطرق الجديدة لإعطاء الأفيونات: عبر الأغشية المخاطية للفنتانيل (سيترات الفنتانيل transmucosal, OTFC) عن طريق وضعه حول “مصاصة”، أو عن طريق الأنف أو عن طريق الفنتانيل مع جهاز يتحكم فيه المريض (PCINA) ، أو تحت اللسان مثل البوبرينورفين.

الإيثر والكلوروفورم

حدث هام آخر في مجال تطوير استراتيجيات الوقاية من الألم كان أول عرض علني لتخدير الإيثر من قبل طبيب الأسنان وليام توماس جرين مورتون (1819-1868) في مستشفى ماساتشوستس العام ببوسطن قبل شهر من خلع أسنان مريض تحت تأثير الإيثر. ففي يوم الجمعة، 16 أكتوبر 1846، قام عدد كبير من الأطباء بالتجمع في مسرح لمشاهدة اختبار خصائص مخدر الإيثر خلال العملية الجراحية لورم وعائي خلقي على عنق شاب يدعى جيلبرت أبوت. وفي نهاية الإجراء، توجه الدكتور جون ك. وارن، كبير الجراحين في المستشفى، إلى الحضور قائلاً:  “أيها السادة، هذه ليست خدعة.”

وفي 30 مارس 1842، قام الطبيب الجراح الدكتور ويليام كروفورد لونج (1815-1878) بتخدير مريض بالإيثر أثناء إزالة ورم من الرقبة ولم يشعر المريض بألم خلال العملية.

وفي عام 1844 بدأ طبيب الأسنان هوراس ويلز (1815-1848) في نزع الأسنان تحت تأثير هذا الغاز. وكان لهذه البرهنات العامة أثرًا مهمًا على الجراحة، مما سمح بتنفيذ الإجراءات التي كانت مستحيلة من قبل.

وكانت أول عملية رئيسية في إنجلترا استخدمت فيها الإيثر عبارة عن بتر لفخذ قام به روبرت ليستون في مستشفى كلية الطب في لندن في 21 ديسمبر 1846 مع ويليام سكوير الذي كان يعطي جرعات الإيثر للمريض باستمرار. وأصبح جون سنو واعًيا بالمواد الجديدة، وبدأ في إجراء التجارب، واخترع جهازًا لاستنشاق الإيثر في عام 1847.

واكتشف عالم الفيزيولوجيا ماري جان بيير فلورينس خصائص مخدر الكلوروفورم في الحيوانات (1847). في العام نفسه 8 نوفمبر 1847. وقدم السير جيمس يونغ سيمبسون (1811-1870) أستاذ القِبالة في جامعة ادنبره الكلوروفورم في إدارة الولادة، بعد أن بدأ باستخدام الأثير في التوليد في يناير 1847. ومع ذلك، رفضت الكنيسة المسيحية لفترة طويلة تخفيف الألم في المخاض، حيث كان يُعتقد أن تخفيف الألم يتعارض مع السمة الإلهية كما ذكر في سفر التكوين. وكان الاعتقاد السائد بين الجراحين أن الألم الناجم عن العملية كان منبهًا مفيدًا للمريض.

وجادل سيمبسون بنفسه بأن العملية الأولى تحت تأثير مخدر قد نفذها اللّه بنفسه عندما ألقى آدم في نوم عميق قبل أن يزيل ضلعه. ومرة أخرى ،انشأ جون سنو (1813-1858) الذي بدأ استخدام الكلوروفورم بعد وقت قصير من إدخاله في عالم الطب جهازًا جديدًا لإدارة كلوروفورم ونشر تجاربه في كتابه “عن الكلوروفوم والمخدرات الأخرى”، ففي عام 1858، غير موقف الأطباء تجاه التخدير في التوليد، عندما أعطى الكلوروفورم إلى الملكة فيكتوريا أثناء ولادة الأمير ليوبولد في 7 أبريل 1853، وبعدها بأربعة أعوام أثناء ولادة الأميرة بياتريس. كان ما يسمى بـ ” anesthésie à la reine’ تخدير الملكة” مهمًا للقبول الواسع النطاق للطريقة الجديدة.

وظل الكلوروفورم المخدر المفضل حتى نهاية القرن التاسع عشر على الرغم من أن استخدام الكلوروفورم أدى إلى وفيات أكثر بشكل ملحوظ من الأيثر. فالإيثر وكذلك أكسيد النيتروز، المعروف باسم “الغاز المضحك”، لم يستخدم فقط للتخدير أثناء الجراحة، ولكن أيضًا لتسلية الناس في السيرك والحفلات.

الأسبرين والأدوية الشبيهة له

تم تطوير أدوية جديدة غير أفيونية وتصنيعها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد استخدم لحاء الصفصاف لعلاج الحمى منذ العصور القديمة. وتم تصنيع حمض الساليسيليك لأول مرة في عام 1829 من قبل الصيدلي الفرنسي هـ. ليرو من لحاء الصفصاف.

ونشرت تقارير عن خصائصه المسكنة في عام 1876. وعالج الدكتور سالومون سترايكر (1834-1898) المرضى الذين يعانون من الروماتيزم بواسطة حمض الساليسلك، فخلال 48 ساعة أو أقل اختفت الأعراض مثل تورم المفاصل والاحمرار والألم. وفي نفس العام نشر إل.هوفمان تقريرين حالة حول تأثير حمض الساليسيلك على ألم العصب الثلاثي التوائم والألم العصبي الهربسي.

وتم تصنيع حمض الأسيتيل ساليسيليك لأول مرة في عام 1852 من قبل كارل فريدريش غيرهارد، ومع ذلك كان الصيدلي والكيميائي فيليكس هوفمان (1868-1946)، الذي أعاد اكتشاف إمكانات المسكن (1897).

وإلى جانب التفاني المهني، شجعته الأسباب الشخصية على إيجاد عقار أكثر قبولًا من حمض الساليسيليك. فقد اضطر والده لتناول حمض الساليسيلك لسنوات عديدة بسبب التهاب المفاصل الروماتيزمي ولم يعد بإمكانه تناول الدواء دون تقيؤ. وبعد الاختبارات المعملية الأولية تمت معالجة والد هوفمان بحمض أسيتيل الساليسيليك الجديد بشكل فعال. وقام هاينريش دريسر (1860-1924)، وهو عالم صيدلاني في شركة باير، بترويج حمض أسيتيل الساليسيليك ليكون أكثر  قبولًا من حمض الساليسيليك نفسه، ولقد هو أطلق على حامض أسيتيل الساليسيليك “الأسبرين“.

وفي عام 1899 بدأت شركة باير الإنتاج الصناعي لحمض أسيتيل الساليسيليك. فأصبح هذا الدواء الاصطناعي الجديد بسرعة بديلًا يغني عن لحاء الصفصاف. وفي أوائل القرن العشرين، كانت التأثيرات الرئيسية لحمض الأسيتيل ساليسيليك وما بعده من “الأدوية المشابهة للأسبرين” أو “الأدوية المضادة للالتهاب غير الستيرويدية” (مثل خفض الحرارة، مضاد للالتهابات، والعمل كمسكن) معروفة. ومع ذلك، لم يتم اكتشاف آلية العمل بشكل كامل قبل عام 1971، عندما وصف السير جون ر. فاين لأول مرة تأثيرهم بتثبيط تصنيع البروستاغلاندين الذي حصل على جائزة نوبل لاكتشافه في عام 1982.

وتم إدخال الأدوية غير الستيرويدية المضادة للالتهابات في علاج التهاب المفاصل الروماتويدي (اندوميثاسين، 1960). وتم تقديم الإيبوبروفين (Advil) واختباره لأول مرة في عام 1965، وبعدها بأربع سنوات قُدِم في بريطانيا العظمى كدواء مسكن ومضاد للروماتيزم. ولهذه الأدوية خصائص مضادة للالتهاب وخافضة للحرارة إضافة إلى كونها مسكنات.

ومع ذلك، كان الاستخدام السريري طويل الأمد لمضادات الالتهاب غير الستيرويدية محدودًا في الغالب بسبب الآثار الجانبية والسمية (مثل انخفاض وظيفة الكُلى والفشل الكلوي). وفي بداية التسعينيات تم اكتشاف نوعين مختلفين من نظائر انزيم سيكلوأوكسجينيز:  COX-1 و COX-2.

وأيد السير جون فان الفرضية القائلة بأن الآثار الجانبية لمضادات الالتهاب غير الستيرويدية مرتبطة بتثبيط إنزيم COX-1، “في حين أن تأثيراتها المضادة للالتهاب (العلاجية) ترجع إلى تثبيط COX-2”. فكان يعتقد أنّه

عندما تأتي مثبطات انتقائية لـ COX-2  إلى السوق، فإن هيمنة مضادات الالتهاب غير الستيرويدية سوف تصبح جزءًا من الماضي.

وأدت هذه الفرضية إلى بحث مكثف عن أدوية مثبطة لـ COX-2 فقط لتكون أكثر أمانًا. وصُنِعت أدوية جديدة تعمل على تثبيط COX-2 دون العمل على COX-1 في نطاق الجرعة المستخدمة في الممارسة السريرية. تم إطلاق Celecoxib (Celebrex) و rofecoxib (Vioxx) في العامين  (2002-2003) واستخدامهما في المقام الأول في علاج التهاب المفاصل الروماتويدي وهشاشة العظام أيضًا. ويجري حاليًا تطوير “الجيل الثاني” من مثبطات انزيم COX-2.

وفي أثناء البحث عن بديل للكينين في علاج الحمى، اكتشف الكيميائي لودفيج كنور (1859-1921) والعالم الصيدلاني فيلهيلم فوهن (1844-1927) عقارًا مضادًا (1883). كان الأنتيبيرين خافض للحرارة قوي وأقل تكلفة من الكينين. وفي عام 1884 بدأت شركة فاربويرك هويشت بتصنيع الأنتيبيرين. وصُنّع البيريميدون في عام 1896 من قبل فريدريش ستولز (1860-1936). وبعد وقت قصير، تم اكتشاف أن خافضات الحرارة هذه لها أيضًا تأثير مسكن ومضاد للالتهاب، والذي اكتسب ببطء أهمية أكبر من تأثير خافض الحرارة. وأُدخِل المزيد من مشتقات الأنتيبيرين و البيريميدون في بداية القرن العشرين.

ومن بين هؤلاء أصبح الديبيرون (metamizol ، Novalgin®) مشهورًا في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. وأفاد ألويس أوير بأن الديبيرون هو مسكن قوي ولديه درجة معينة من التأثير المضاد للالتهاب، ولذلك فإن استخدام هذا الدواء مفيد في التهاب المفاصل المزمن والحاد. وتم العثور على فئات أخرى من العقاقير مثل مضادات الاكتئاب ومضادات الصرع التي تعمل على تخفيف الألم في ظروف معينة وتم إدخالها في علاجات تخفيف الألم.

إنّ هذه مقدمة قصيرة وجزئية للغاية، فلقد خضعت نظريات آليات الألم ومفاهيم الألم وكذلك طرق تخفيفه إلى تغيرات تطورية عبر تاريخ البشرية. ولقد كانت هناك العديد من الاكتشافات الرائعة، ولكن بعض الأفكار والمفاهيم والنهوج الدوائية الجديدة أثبتت أنها غير فعالة أو حتى ذات نتائج عكسية. فمفهوم الألم وتخفيفه ليس مرتبطًا بالمعرفة العلمية والطبية فحسب، بل يجب وضعه في سياق اجتماعي ثقافي واقتصادي عبر التاريخ.

 

صورة المقال : المنتصرون على الألم : مجموعة من الجراحين المتشككين في مدرج في مستشفى ماساتشوستس العام ، 16 أكتوبر 1846.
وليام تي. مورتون، طبيب أسنان في بوسطن، على استعداد لتخدير المريض جيلبرت أبوت، عن طريق جعله يستنشق الأثير. على الرغم من أن كروفورد جورج لونج، قد استخدم الأثير للتخدير في عام 1842، و حاول هوراس ويلز، طبيب الأسنان في كونتيكي، دون جدوى إثبات التخدير باستخدام أكسيد النيتروز في عام 1845، فإن التقارير عن العمليات غير المؤلمة الناتجة عن أساليب مورتون أعطت تخديرًا عمليًا للجنس البشري. في غضون عام كان الأيثر يستخدم في جميع أنحاء العالم للتغلب على شعور الألم في العمليات الجراحية.
المصدر

Pain Treatment: A Historical Overview

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مريم منصور

تدقيق لغوي: بتول سعادة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا