التَعذيب مسرحية سياسية، تُعجِب الشَعب، تُفيء على الألم

الألَم العَقلي أقل دراماتيكية من الألم الجسدي، ولكنهُ أكثر نفاذًا ويصعب أيضًا تحمله، إن المحاولة المتكررة لإخفاء الألم العقلي تزيد البِلّة، فمن الأسهل أن تقول “أسناني تؤلمني” بدلاً من أن تقول قلبيَّ مُهَشَم.

The Problem of Pain \ C.S. Lewis

إحدى وسائل المُداواة، التي يُريدها المُتألِم، هيّ الشعور بألمهِ، وتصديقهُ، لأنَ الألم يبحثُ عن المُحاباة، يقول زَعيم الرواقية، مؤسِسها الأخير، سينيكا:”إن المَرء يشُعر بالرِضا من موقِفه تجاه المُتَلقي، إذا أعانهُ ولَم يُحرجه”، بهذا يكونُ الرِضا على تقُبل المرء لشعوره المُدان وجوديا، حسبَ اعتقاده، أمرًا بليغ الحاجة بعَدم التخفي خلفَ المُبررات اللغوية خاصته، أو وراء الإيعازات الوهمية التي تُشير عادةً إلى عدم التَخطي والمُعالَجة، إنَ الألَم يَغرس تطَلعهُ في البَدن أو العَقل، مثلما يُغرس النَبات بهَفاوةٍ في التُربة الهَشة، ثمَ نشعر حسبَ وقعهِ إننا نَذرنا إلى خُسران ثُلث قوتنا الذهنية، بفعل الاحتراق الذي يجعلُ أنينَنا بحاجةٍ إلى مُستَمع، ثمَ في صدفةٍ مُتناسيةً وجودنا، نغرق في ماهيةٍ غير نَشطةٍ، عكس مُسلمات البَدن، بالتَضاد مع روح المنطق.

إن الكلمة الفرنسية “deuil – حداد”، مشتقةٌ من الجذر نفسه للكلمة اللاتينية “dolere – ألم”، وهي تعني العذاب الذي يحس بهِ المرء بعد وفاة قريبٍ أو فُقدان جزء من الذات بعد بتر عضو أو بعد حادث، الحداد لحظة مناسبة لاستمرار الألم أو انتعاشهِ، يذكُر “لوبروطون” مريضةً مصابة، فرانسواز، وهي تُعاني من آلام الظهر غير أنها اليوم مصابةٌ بألم حاد في الكتف الأيمن، لم تكشف الفحوصات عن شيء، تذكرت فجأة أن زوجها المتوفى حديثًا كان يتكئُ دوما على كتفها ذاكَ حين كانا يتمشيان معا، وتُعاني آن أيضا من الشقيقة من سنوات، وكل أنواع العلاج فشلت في شفائها منها، وخلال إحدى المقابلات، صرحت أن أباها توفيَّ من ورم خبيث في الرأس، طمأنها الفحص الطبي وبدأ معهُ الاندثار التدريجي لآلامها، وبما أن قلقها اختفى فقد بدأت تقوم بالحداد على أبيها، أحيانا حيث “يستعير” الفرد ألما وَسَم حياته أو نهاية حياة شخص متوفى، فيأخذُ على عاتقهِ جزء منهُ كي يحتفظ بالكُل كما لو كانَ المتوفى لا يزال بذلكَ على قيد الحياة، والألم يُحفظ رمزيا بشكل ما على الشخص المفقود باعتبارها الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بأثرٍ منهُ، إنهُ عذاب الذكرى.

فوكو كانَ يَرى أنَ الألم أو التَعذيب، الذي تفرضهُ السُلطة، هو سر حفاظها على مكانتها، فأنين المُجرم الذي تودعهُ في السِجن، هو أمر أخلاقي حتى لو ضَر ذاتهُ علنا، بل هو يكونُ بمثابة تكريم لها، لأنها المالكة لجسدهِ، هو حصتُها من التَعذيب والسَلخ، فمُنذ عصور الإمبراطورية والمماليك، المُعذَب يُشهَّر بهِ حتى يكونَ عبرةً في شق أول، ثم يكون مفزعا للشَعب في شقٍ ثاني، وكذلكَ هو تصديق لقدرة النفي التي تملكها.

هناكَ مصطلح يُترجَم إلى اللُغة العربية بـ “انفعالات المشنقة”، هو من تأليف فوكو، يُصرح فيهِ أن الشَعب جزء من قضية التعذيب، ففي احتفالات التعذيب، يبدو الشعب كشخصيةٍ رئيسية، وحضورهُ الحقيقي والماثل مـطلوب لاستكمالها، فالتَعذيب، حتى ولو كانَ معروفا، إذا جرى بصورةٍ سرية قلما يكون لهُ معنى، فالفَضحُ سِمةٌ رئيسية، يكون فيها التمتُعَ بالتعذيب ذا مغزىً، ليس هذا فقط، بايقاظ الوعي العام، الجَمعي، الدولَوي، في أن أقل مخالفةٍ سوف تَلقى العقاب القوي، بل بإثارة مفعول الرُعب بمشهَد السُلطة وهي تصب سُعارَ غضبها على الجاني، في الشأن الجنائي، من بندٍ قانوي، تبدو النُقطة الأكثر صعوبة في إنزال العقوبة، فهو الهدف وهو الغاية من كُل العملية، وهو الثمرة الوحيدة، بالعبرة وبالرعب والتخويف، فهو صيدٌ ثمين. هذا الأدَب السُلطوي، “أدب المشنقة”، يتحاكَم فيهِ الشعب بالدَرجة الأُولى، فهو المُشارك في حفلاتِها، وهو الضحية المُنتظَرة التي توضَع نصب الاحتمال، لكن في مشهد التَعذيب يكون الشعب حاضرا، فهو المدعو لهذهِ الحفلة التي أولويتها الشُهرة، فهي تصفق للمَشانق وتُطَبل على المنصات، بل ليسَ الكافي يكون الشعب سامعا للخَبر، بل أعينهُ مفتوحة وتُعرَض الجُثث أمامه، لأنه تذكير بالخَوف، فلا رعاية للجَسد إذا تعرض للزَلل، كذلك العين الشاهدة هيَّ تصديق آخر للوَعي أن يكونَ ضامنا “الشعب” لمسألة العقاب المُدوي على جسده، إذا هو مُهَددٌ من الوجود، ومُهدد من السُلطة.

التعذيب إذن، يلعب وظيفة قانونية سياسية، إنه احتفال من أجل إعادة إقرار السيادة بعـد جرحِها لحظةً، إنه يُعيدها بأن يُظهرها في كُل أُبهتها وألقها، فالتَنفيذ العلني العام، مهما بدا مُتسرعا ويوميا، يدخُل في سلسلةِ مراسم السُلطة المُغيبة والمُبتَعثة، تتويج، دخول الملك إلى مدينة مفتوحة، وخضوع الرعية الثائرة، وفوق الجريمة التي احتقرت العاهل، يُضفي التعذيب، في عيون الجميع، قوةً لا تُقهر، وهدفهُ ليسَ فقط إعادة توازن بقدر ما هوَ إظهار التفارق، إلى حدهِ الأقصى، بين فردٍ من الرعية تجرأ على خرق القانون والعاهل الكُلي القوة، الذي يُبرز قدرته.

إعلان

إذا كانَ إصلاح الضَرر الخاص الذي تسببَ بهِ الجرم، يجب أن يكون متناسباً، وإذا كان الحُكم أن يكون عادلاً، فإن تنفيذ العقوبة مجعول لا لإبراز الاعتدال والتوازن، بل لإظهار اللا توازن والشَطط، يجب أن تظهر في شعائرية العقوبة هذهِ، شدة مفخمة للسلطة ولامتيازها الضمني، وهذا الامتياز، ليس هو مُجرد امتياز الحق، بل هو امتياز القُوة المادية للعاهل تنصب خصمه وتتَحكم بهِ، إن المُخالف، حين كَسر القانون، قد نال من شخص الأمير بالذات، فيحق لهُ، أو على الأقل يَحق لمن أنابَ إليهم قوتهُ أن يتحكم بجسم المُدان لكي يظهرهُ موسوما، مغلوبا، محطَما.

إذا فالاحتفال العقابي هو في مجمله “إرهابي”، فقد كانَ على مُشرعي القرن التاسع عشر عندما بدأ سجالهم مع دُعاة الإصلاح أن يقدموا تأويلا للقسوة الجسدية للعقوبات، حصريا و”حداثويا”، إذا كانَ لا بُد من عقوبات قاسية، فذاك لأنّ المثل يجب أن يدون عميقا في قلوب الناس، والواقع، مع ذلكَ، أنَ الشيء الذي دعمَ، حتى ذلكَ هـذهِ المُمارسة للتعذيب، ليس هو فلسفة المثل، بالمعنى الذي فهمهُ في تلك الحقبة الأيديولوجيون “إنَّ تصور العقوبة ينوف على أهمية الجريمة”، بل هو سياسة الترهيب: إشعار الجميع، وفوق جسم المُجرم، بوجود العاهل غاضبا، إن التعذيب لا يُعيد العدالة، إلى نصابها، بل يُقوي السلطة.

في القرن السابع عشر، ومطلع القرن الثامن عشر أيضا، لم يكن التعذيب بَعد -مع ما فيهِ من مسرح الرعب- بقيةً باقية لم تُمح بعد، من عهد آخر، إن عنفهُ، وعلنيتهُ والإكراه الجسدي، لعبة غير متكافئة بين قوى التصارع، احتفالية مدروسة، وباختصار إن جهازهُ كلهُ يدخل من الوظيفية السياسية، إلى العقوبة.

هناكَ ثمة ما يَجب احترامهُ في المُجرم، غيرَ أنينه وصُراخه، غيرَ محطات الانهيار وتَلف أعصابه، “إنسانيتهُ”. هناكَ الكثير من الجرائم لا تَتناسبُ عقوبتَها مَع مدى الجُرمية المُرتَكَبة، فُهناكَ احتجاجات تُقام في آخر ثلاثمئة عام، سنَجدها ضِمنَ دائرة فلاسفة وحقوقيي النصف الثاني من القَرن الـ 18، عندَ فُقهاء القانون وفلاسفته، وكُتاب السجلات الجُرمية، ومُدراء سجون، بما في ذلكَ بعض اللِجان التَشريعية، نَدَدوا أن العقاب الذي يُخضِع الجِسمَ عادةً ما يكونُ مرعبًا، ليسَ بمشهدهِ، بل بالتقاءه معَ الضعَف الموجه له، فهناكَ من رفض المواجهة بينَ الشعب والمَجني عليهِ، خصوصا قضية فَصل العاهِل، الموقَر، ذو الوَجه “العادِل الغاضب”، عن المُراد إعدامه، خصوصا أُولئكَ الذينَ قُيِّدوا متلبسينَ بالثَورة، فالسُلطة ترِدُ لهم ثوريتهم انتقاما بالدَم، لأنهُم هزوا كيانها، فبربرية التعذيب التي تحولَت إلى قانون أخلاقي حاليا، سلسلة من ممارسات النَفيِّ للإنسان، فهيَّ على خطٍ مُزدوَج معَ تأريخ العُنف البشري.

الفيلم الوثائقي اُنتِج عام 1993 للمُخرج جون ستيوارت، عن حياة ميشيل فوكو: بعنوان ما وراء الخير والشر، يحقق في ذهنية هذا الفيلسوف العقلاني وحياته المعقدة والمريبة من خلال لقاءات مع شُركاء وكتّاب سير ذاتية.

“ما الذي يجعل الإعدام يؤلمنا أكثر من جريمة القتل؟ إنهُ هدوء القضاة، إنها الاستعدادات لتنفيذ العقوبة، إنها فكرة كون الذي سيَعدِم إنسانا يتم استخدامهُ كما تُستخدم وسيلة لإخافة الآخرين، لأن مُرتكب الخطأ لم ينل جزاءهُ، حتى وإن كان هناك، خطأ، فهذا الخطأ نجدهُ في المُربين، في الآباء، في الوسط، إنهُ فينا، وليس في القاتل، أعني أن الخطأ يوجدُ في الظروف الموجبة”.

نيتشه / فقرة 70 من كتاب / إنسان مُفرط في إنسانيته،

“عندما يطلب القاضي من المتهم الاقرارَ بالذَنب الذي اقترفهُ وأن يَذل، حرفيًا، نفسهُ أمامه، في الأساس، يُعطينا القاضي الانطباع، بالفعل، أنهُ يرغب في أن يدوس المُتهم، وكأنهُ يطلب منهُ أن يقول له: سيدي القاضي، ليس أنتَ الذي تحكم، إنهُ المجتمع بأسرهِ، إنه المجتمع الذي أنتمي إليهِ، وبالتالي إذا طلبتُ عقوبتي، فأنا من يعاقبني، ولستَ أنت، فأنا أبرؤك سيد القاضي، هذا ما يرغب القاضي في سماعه”. فوكو مُقابلة 1993

يصفُ فوكو هندسية إحدى السِجون، وهي تُشبه إلى حدٍ ما المدارس الطُلابية، في كتابه “المُراقبة والمُعاقبة”، قائلاً: إن “مُشتمل – Panopticon – بانتهام” هو الصورة الهندسية البنائية لهذهِ التركيبة، ومبدأهُ معروف، عندَ الجوانب بناء من حلقات، في الوسط ثَمة بُرج، وفي داخل هذا البرج نَوافذ واسعة تفتحُ على الوَجه الداخلي للحلقة، ويُقسَم البناء الجانبي إلى غرفٍ معزولة، كُل واحدة مِنها هي بطول سماكة أي عُرض البناء، ولكُل غرفة شباكان، شُباك من ناحية الداخل، مطابق لشبابيك البُرج وشباك، يطلُ على الخارج، يتيح للنور أن يَقطع الغُرفة من جهةٍ إلى جهة، عندها يَكفي وضع ناظر في البرج المركزي، وفي كُل غرفة يحبس مجنون أو مريض، أو محكوم، أو عامل أو تلميذ، وبفعل النور المعاكس، يُمكن، من البرج، رؤية الظِلال الصغيرة الأسيرة الموجودة في غُرف الأطراف، تنعكسُ تماماً على الضوء.

وبقدر ما توجد أقفاص، بَقدر ما توجد مَسارح صغيرة، حيث ينفردُ كُل ممثلٍ وحيدا، متفردا تماما ومنظورا بصورة دائمة، إنَ التجهيز المكشـافي “البانوبتي” يُعد وحدات زمنية تسمح بالرؤية اللا مُنقطعة، وبالتعرف الآني، وبالإجمال، يعكسُ مبدأ الزنزانة، أو بالأخرى تعكسُ وظائفها الثلاث، الحبس والحرمان من الضوء والإخفاء، ولا يحتفظ إلا بالوظيفة الأولى وتُلغى الوظيفتان الأخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسر أكثر مما يأسر الظل الذي يحمي في النهاية، إن الرؤية هي شَرَك.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد العيساوي

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا