لغز آثينا

“لا أحد يعلم ما كان سبب طاعون آثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. إحدى الفرضيات الشائعة ترى أن سبب الوباء هو الإيبولا. لكن لاكتشاف مصدر وباء بعد آلاف السنين من حدوثه، يحتاج الباحثون لبقايا الضحايا والقليل من الحظ”. سايمون دايفيس

في صيف سنة 430 قبل الميلاد، ضرب وباء ضخم مدينة آثينا قضى على سكان المدينة، وذلك طوال الخمس سنوات التالية. قام المؤرخ ثوسيديداس الذي عايش الوباء بوصف الأعراض التي ظهرت على الضحايا في كتابه “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”: “حرارة عالية على مستوى الرأس، احمرار والتهاب العينين، كما يصبح شكل اللسان والبلعوم دمويًا وتنبعث منهما رائحة غير طبيعية ونتنة. قد يكون المصابون قد مروا بومضات حرارية عالية حتى أنهم لم يتمكنوا من تحمل أية ألبسة على أجسامهم أو حتى قماشة كتان حتى أخف من ذلك”. في أواخر مراحل الإصابة قد ينتهي المرض ب”تقرح شديد وإسهال” التي في معظم الأحيان تبقي الجسم ضعيفًا جدًا للبقاء على قيد الحياة.

بعد أكثر من ألفي سنة لا زال طاعون آثينا لغزًا علميًا. كانت قصة توسيديداس -الوصف الوحيد الباقي للوباء- أساسًا للعشرات من الفرضيات الحديثة حول سبب الوباء من بينها: الطاعون الدبلي، الكوليرا، سخونية التيفوييد، الإنفلونزا، ومرض الحصبة. وفي شهر يونيو (2018 سنة نشر المقال الأصلي)  اقترح مقال نشر في صحيفة كلينيكل انفكشيوس ديزيزس أن الجواب على هذا اللغز هو: مرض الإيبولا. كتب المقال المختص في الأمراض المعدية (بوال كازانجيان) وهو أحدث مقال من بين مجموعة مقالات تفترض أن آثينا كانت ذات يوم بؤرة وباء الآيبولا. أول من اقترح هذه الفرضية هو الجراح غايل سكاروو وكان ذلك في صحيفة دا انشنت هيستوري بوليتين سنة 1988. بعد ثماني سنوات من ذلك نشر عالم الأوبئة باتريك أولسن ورقة في صحيفة (إيمارجين انفكشيوس ديزيزس) التابعة لمراكز المراقبة والوقاية من الأمراض، حيث قارن أعراض طاعون آثينا بأعراض مرض الإيبولا الذي انتشر في الكونغو الديموقراطية (زائير سابقًا) وأيضا في السودان، سنة 1976. يختم المقال بالقول أن أعراض المرض القديم (كناية على وباء آثينا) وأغراض الإيبولا متشابهة جدًا. لكن لم يكن الجميع متفقًا مع فرضية أولسن.

نُشر حوار سنة 1996 في صحيفة نيويورك تايمز، حيث تضمن أن عالم الأوبئة (ديفيد مورنز) يرى أن ثوسيديداس ليس بالمصدر الأكثر وثوقًا: بخلاف حداثته فلم يكن سقراط طبيبًا، والكثير من المصطلحات التي استعملها لوصف المرض كانت مبهمة؛ فمثلًا كلمة فليكطاينا phlyktaina وهي كلمة يونانية قديمة يمكنها أن تشير إلى بثور أو قشور، كما نلاحظ أنه حسب أقوال توسيديداس فأصل الوباء هي مناطق من إثيوبيا متواجدة أعلى مصر (يطلق عليها الآن جنوب صحراء إفريقيا)  ويتساءل (مورنز) كيف لأناس مصابين بمرض الإيبولا شديدة العدوى والقاتلة، قد تمكنوا من الوصول إلى اليونان دون أن يفارقوا الحياة في الطريق؟.

إذا كانت إيبولا منتشرة منذ آلاف السنين، لماذا لم تظهر مرة أخرى على الأرض حتى سنة  1976؟

إعلان

عرضت مدة وباء آثينا مشكلًة آخرى؛ لأن خمس سنوات هي مدة طويلة جدًا مقارنة بأي وباء، فإيبولا حصل قبل ذلك، معظمهم لم يتجاوز السنة. وأخيرا يتساءل (مورنز) إذا كانت الإيبولا موجودةً حقًا خارج إفريقيا قبل آلاف السنين، لماذا لم تكن هنالك أية قصص عن ظهورها في أي مكان آخر حتى سنة 1976؟

للأسف لم يكن لكل من (أولسن ومورنز) على أية حال وسيلة فعلية لدعم حججهما، اعتمد جهدهما للتعرف على طاعون آثينا فقط على المدونة التي تركها ثوسيديداس مثل كل الجهود السابقة، والذي جعل إثبات صحة فرضياتهما شبه مستحيل.

يكون هذا باختصار هو التحدي بالنسبة للأمراض الغابرة، حيث جعل اختبار الحمض النووي التعرف على أسباب وباء وُجِدَ من مئات أو حتى آلاف السنين ممكنًا ولكن العثور على بقايا ضحايا الوباء لإجراء الاختبارات عليها تبقى قصة أخرى.

قد يحالف الحظ الباحثون في بعض الأحيان؛ فمثلا سنة 2001، اكتشفت مقبرة جماعية في موقع قيد البناء في مدينة فيلنوس، ليتوانيا. اعتمادًا على أشلاء متماثلة وجدت في المقبرة تم التعرف على هوية الجثث: فهي تخص جنود جيش نابوليون، حيث دفن ما بين ألفي وثلاثة آلاف منهم في مكان ما على نحو سريع عند الانسحاب من موسكو. عندما فحص فريق من علماء الأنثربولوجيا عينة من لب الأسنان مأخوذة من جثث الضحايا، اكتشفوا أن حوالي ثلث عدد الضحايا قد ماتوا بسبب مرض التيفوس. تم تأكيد الاكتشاف من خلال فحص قمل ميت تم العثور عليه في الموقع (كان المرض ينتقل عن طريق القمل). لطالما ظن الباحثون أن مرض التيفوس كان ربما قد ساهم في هزيمة نابوليون، لكن بسبب نقص المعرفة بالمرض في زمانه تبقى القصص التاريخية وحدها غير كافية لتأكيد المعلومة.

 أما بالنسبة لوباء أثينا فيبدو أنه ثمة نقطة تحول حدثت تشبه التي ذكرناها سابقا، سنة 1994، حين اكتشفت مقبرة قديمة خلال اشغال حفريات لبناء محطة مترو أثينا بكراميكوس (اليونان)، تعود المقبرة إلى العصر البرونزي في عهد الرومان. كشفت الحفارات عن آلاف القبور التي لم يسبق الوصول إليها، مجموعة منها تبدو كأنها كانت لدفن جماعي سريع وغير رسمي يرجع لسنة 430 قبل الميلاد، وهي السنة التي توافق حصول وباء آثينا. تحولت مسؤولية مراقبة الموقع من شركة البناء إلى وزارة الثقافة اليونانية المسؤولة عن اكتشاف الآثار القديمة آنذاك.

أرسل علماء الآثار سنة 2000 ثلاثة أسنان عثر عليهم في موقع الحفر إلى فريق جامعة آثينا لإجراء اختبار الحمض النووي عليها وذلك بقيادة المختص في تقويم الأسنان وأستاذ طب الاسنان (مانوليس باباغريغوراكيس). بعد فحص لب الأسنان، أجرى فريق باباغريغوراكيس عليها اختبارات بمطابقتها مع سبعة أمراض افترضت قبل ذلك من طرف علماء آخرين: الطاعون، التيفوس، الجمرة الخبيثة، السل، جدري البقر، مرض خدش القطط، وسخونية التيفوييد. الرابط الوحيد الذي وجد بين الأسنان الثلاثة هو مرض سخونية التيفوييد. بعد الدراسة التي قام بها الباحثون نشروا اكتشافاتهم في صحيفة انترناشيونال انفكشيوس ديزيزس سنة 2006.

بعيدًا عن إيجاد حل للغز ما قام به فريق باباغريغوراكيس زاد الأمر تعقيدًا. يرى مختصون في علم الحيوان من جامعة أوكسفورد وجامعة كوبنهاغن في رسالة إلى رئيس تحرير نفس الصحيفة (انترناشيونال انفكشيوس ديزيزس) أن الطريقة التي سلكها باباغريغوراكيس في دراسته معيبة لأنهم فشلوا في إنجاز تحليل التطور الجيني (وهذه طريقة لاختبار العلاقات التطورية) على السن.

استطاع هؤلاء الباحثون من إجراء تحليل التطور الجيني بأنفسهم اعتمادًا على معلومات الحمض النووي التي نشرت في دراسة باباغريغوراكيس. استخلصوا أن الحمض النووي الخاص بالسن مرتبط بالبيكتيريا الموجودة عليه لكنها لا توافق العامل المسبب في سخونية التيفوييد. يقولون: “تسلسل الحمض النووي لطاعون أثينا والتيفوييد قد يشتركان في نفس السلف في حدود ملايين السنين السابقة”. كما اقترحوا فرضية أخرى و هي أنّ الحمض النووي الموجود على السنّ ليس له علاقة إطلاقا بالعامل المسبب لطاعون آثينا. يقول فريق البحث: “بما أننا لا نستطيع استبعاد فرضية عدم توافق الحمض النووي لطاعون أثينا مع أي عامل عدوى معروف سابقًا، من المعقول جدًا اعتبار أن الحمض النووي المكتشف يعود لبكتيريا ترابية حديثة، تعيش حرة طليقة، وتوجد إمكانية فحص ذلك عن طريق استخراج الحمض النووي من العينات الترابية المحيطة للمراقبة السلبية”. (المراقبة السلبية هو اختبار تجريبي يُجرى بموازاة التجربة، يسمح بتحديد تأثير العوامل الخارجية على الاختبار للتمكن من السيطرة على كل العوامل التي قد تخل بالنتائج النهائية).

قد لا تكون بقايا الضحايا كافية لتحديد المرض

بدأ باباغريغوراكيس مؤخرًا في إنجاز دراسة معتمِدًا على تقنيات حديثة وبعدد أكبر من عينات أسنان، يتمنى بذلك أن يساعد في حسم النقاش حول وباء أثينا.

منذ العقد الذي نُشرت فيه دراسته حول وباء أثينا، سَمح التقدم في “تكنولوجيا تسلسل الحمض النووي” للعلماء عن الإجابة على عدد من الأسئلة العالقة حول الأوبئة القديمة، أدّت إلى اكتشافات جديدة عن طريق عينات قديمة جدًا من الأسنان.

فمثلًا سنة 2011، استعمل الباحثون أسنان أخذت من جثث كانت قد عايشت أحد أوبئة لندن ما يسمى ب”حفر الطاعون” لتحديد تسلسل الحمض النووي لبكتيريا يرسينيا بستيس  (Yersinia . pestis) التي كانت مصدر الوباء الأسود القاتل الذي اجتاح أوروبا في القرن 14. بعد مقارنة الحمض النووي القديم مع سلالات العصر الحديث، تمكن الباحثون من إعادة إنشاء صورة جديدة لمسار التطور البكتيري على مر القرون ووجدوا دعمًا لفكرة أنه من المحتمل أن عامل العدوى المنتشر في القرن الرابع عشر يعتبر مصدر للشجرة التطورية التي أدت إلى ظهور العديد من الأوبئة الحالية.

نشر باحثون دراسة في (لانست انفكشيوس ديزيزس) سنة 2014، حيث استطاعوا لأول مرة إثبات أن سبب وباء (جوستينيان) الذي قتل حوالي 50 مليون إنسان في أوروبا وإمبراطورية بيزنطا بين سنتي 600 و800 قبل الميلاد، هي سلالة من بكتيريا يرسينيا بستيس، وبذلك يكون أول وباء قديم اكتشف سببه. قام فريق البحث بهذا الاكتشاف عن طريق تحديد تسلسل الحمض النووي لأسنان أخذت من بقايا بشر وجدوا في مقبرة ألمانية ترجع لزمن انتشار الوباء.

بالرغم من وجود عينات للتجريب، قد لا تكون كافية لتحديد المرض، بكتيريا الطاعون أو التيفوييد؛ فالأخيرة مثلًا يمكن التعرف عليها عن طريق عينات من الحمض النووي لكن لا يتماشى ذلك دائما مع الفيروسات. فالكثير منهم بما فيها فيروسات الإيبولا، الإنفلونزا ومرض الحصبة يحتاجون لعينات من الحمض النووي الريبي(RNA) للكشف الإيجابي عنها.

لحد الآن، يعود أقدم حمض ريبي محفوظ لجينوم فيروسي إلى عينة من فضلات وعل عمرها 700 سنة، أحدث بكثير من عينات طاعون آثينا التي ترجع للقرن الخامس قبل الميلاد.

تجعل بنية الحمض النووي الريبي الفيروس أقل استقرارًا، لذلك سيميل إلى انحلاله بشكل أكبر من الحمض النووي، وذلك يعني إذا كان وباء أثينا سببه فيروس وليس بكتيريا، فقد يبقى مصدر الطاعون لغزًا.

قال (فينسنت راكانييللو) وهو أستاذ ميكروبيوجيا في جامعة كولومبيا ومقدم بودكاستات هذا الأسبوع في علم الفيروسات (This week in virology): “إذا كان فيروس إيبولا هو سبب الوباء فقد لن نستطيع معرفة ذلك أبدًا وسنحتاج آلة زمن للرجوع إلى وقت الوباء وأخذ عينات من الفيروس”. ومن جانب آخر، بسبب هذه القيود لم تتمكن الدراسة الأخيرة لكازانجيان الخوض في معلومات حول تحاليل لب الأسنان. كانت حجته مبنية على التشابه بين أعراض طاعون أثينا والإيبولا، يظن أن ما يدعم حجته هي الملاحظات التي تم رصدها في آخر وباء لإيبولا، ينتهي المقال بجدول يتضمن الأعراض التي وصفها توسيديداس، بأنها مدرجة جنبًا إلى جنب عكس أعراض ثماني أمراض حديثة التي سبقت واعتبرت تفسيرات ممكنة لوباء أثينا وتعتبر أعراض الإيبولا هي الأكثر تشابها من بينها كلها.

بالرغم من ذلك حذر كازانجيان من الإشارة لإيبولا كسبب محتمل أو شبه أكيد للوباء ويقول: “تعتبر الفرضية الأكثر دقة هي أن سبب طاعون آثينا يبقى مجهولًا والأسباب المحتملة تبقى عديدة، من بينها هو انقراض المرض الآن بأعراضه المتشابهة مع فيروس الإيبولا”. كما يعترف الباحث أن الصعوبة في القيام بالمقارنة بين وصف ثوسيديداس والمعرفة الطبية الحديثة، ويقول: “أحاول أن لا أقع في فخ قول الشيء الأكثر احتمالا”.

ولكن بالنسبة لكازانجيان وهو مؤرخ أيضًا، حل أحجية طاعون أثينا هو أقل أهمية من استكشاف كل الحلول الممكنة ويقول المؤرخ: “إن البحث العلمي هو من الأشياء الممتعة  القيام بها مهما كانت خلفيتك المعرفية”.

مصدر المقال:  

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

ترجمة: وصال بوشحيط

اترك تعليقا