ما الذي يُحدِّد من نكون: هل الثقافة أم الجينات؟ مناقشة كتاب «المُخَطَّط الوراثيّ DNA» لروبرت بلومين

يمكن اعتبار الإصْدَار الأخير من سلسلة عالَم المعرفة «المخطط الوراثي DNA» كأحد أفضل أعداد هذه السلسلة في مجال العلوم. إنه مُساهَمة علميَّة في علم النَّفس أساسًا، وإن شئت الدِّقة لقلت إنه في “علم النَّفس الوراثيّ”. صاحبه “روبرت بلومين Robert Plomin“، له تكوين أكاديميّ في علم النَّفس أساسًا، ثُمَّ في علم الوراثة والجينات تاليًا، بل إنه أحد المُتَخصِّصين عالميًّا في التفسير السيكولوجيّ للسلوك، إلا أنه تفسيرٌ ليس علـى أساس البحث في عَلاقة الإنسان بمحيطه الخارجيّ بشكلٍ حصريّ كما هو حال علم النَّفس الكلاسيكيّ، بل إنه تفسيرٌ سيكولوجيّ على أساس “المُخَطَّط الوراثيّ” للإنسان.

 تُعرِّف فصول الكتاب بالثَّورة العِلميَّة الهائلة التي حدثت في العقود الأخيرة في مجال عِلْم الوراثة، وكيف انعكس هذا التطوُّر المذهل لعِلْم الوراثة على علم النَّفس؟ إلى حَدّ أننا نتوَّفر اليوم على تحليلات جينيَّة “للاضطرابات النَّفسيَّة”، وهو ما يُحكم تحديدنا لطبيعة “الاضطرابات النَّفسيَّة“. على عكس ما تتركه تأويلات التحليل النَّفسيّ الكلاسيكيَّة مع فرويد مثلًا من مناطق باهتة في خريطة فهمنا للاضطرابات النَّفسيَّة. إنه تطوُّرٌ لم يحلم به محرِّروا أوَّل نسخة من “الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليَّة” المعروف اختصارًا بـDSM، وهو المرجع الدّوليّ الوحيد في تشخيص وتصنيف الاضطرابات النَّفسيَّة والعقليَّة، الذي تقوم على إصداره مؤسَّسة أكاديميَّة مرموقة، وهي: “الجمعية الأمريكيَّة للأطباء النَّفسيين”. تبدو اليوم هذه النسخة من الدليل المذكور مُقارَنة مع نسخته الأخيرة (الخامسة)(1)، وكأنها عملٌ فضفاض ولا يرقى إلى الدِّقة العِلميَّة. الفرق بين النسختين: أن الأولى اعتمدت على التشخيصات الإكلينيكيَّة، في حين اعتمدت الثانية -إلى جوار مسائل أخرى طبعًا- على التحليل الجينيّ للمُخَطَّط الوراثيّ للأشخاص المُضْطَرِبين.

يُوضِّح الكتاب كم يصبح الأطباء النفسيون أكثر دِقة في تشخيص الاضرابات النَّفسيَّة والتنبؤ بها اعتمادًا على التحليل الجينيّ، مقارنة مع الاكتفاء بالتشخيصات الإكلينيكيَّة المُعتَادة. إنه بحق “عصر آخر” دخل فيه عِلْم النَّفس بفضل عِلْم الوراثة.

رهان “الدِّقة” في التَّفْسير بين العلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة

كنت دائمًا ما أتساءل: لماذا يهتم المتخصِّصون في العلوم الدقيقة بـ”ما يمكن ضبطه وإحكامه بصرامة“، كما يُجسِّد ذلك الدراسات التي يُبسِّطها هذا الكتاب، في حين يهتم حَدّ الهوس بعض المتخصِّصين في الفَلْسَفة والعلوم الإنسانيَّة بـ”ما لا يمكن ضبطه” وما يبقى منفلت من كل تحديدٍ صارم؟ فـمثلًا عندما تبحث عن ما معنى كلمة “وجود” في فَلْسَفة هايدجر، فإنك لن تجد جوابًا محدَّدًا فحسب، بل ستجد بأن من ناحية المبدأ لا يمكن الإجابة عن سؤال “ما الوجود؟” حسب كتابات الرَّجُل، كما يُلاحِظ أحد المهتمين بهذه الفَلْسَفة(2)، وقل نفس الشيء عن مفاهيمٍ أخرى، مثل “تفكيك” عند جاك دريدا، أو “بنية” عند كلود ليفي ستراوس.

إعلان

لعل حِدَّة التساؤل تخفت لو تذكَّرنا بأن “أوجست كونت” في تصنيفه للعلوم، قد اعتبر العلوم الاجتماعيَّة أعقد بكثيرٍ من العلوم الطبيعيَّة. ربما من هنا يأتي نزوع الأولى لـ “لا محدَّد”، والثانية لـ “المحدَّد بصرامة“، أو قد يكون لنا في “نظرية الفوضى” تصوُّرًا إبستيمولوجيًّا مختلفًا للعِلْم ينسحب على كل من العلوم الطبيعيَّة و الإنسانيَّة، بموجبه تصبح الدِّقة المتناهية في التَّحليل والاستنتاج العِلْميين مظهرًا للسذاجة لا للنضج العِلْمي(3)، بذلك تكون العلوم الإنسانيَّة أمينة لروح العِلْم غير الساذجة وَفق هذا التصوُّر، أكثر من نظيرتها الموصوفة بالدَّقيقة والحقة.

يميل بلومين في هذا الكتاب إلى التَّفسير الدَّقيق للسلوك البشريّ الذي يقوم على ضبط عوامل نشوئه والمسارات المُحْتَمل سلكها من طرف هذا السلوك. وكما هو معروف في تاريخ العِلْم فإن لُغَة الدِّقة هي الرياضيات (المؤشرات الكميَّة)، لهذا نجد الرَّجُل يتكلَّم عن الموضوع بأرقامٍ وبنسبٍ مضبوطة ومُحْكَمة بإحصاءاتٍ رياضيَّة (4). أكثر من ذلك، فإن ما يُعبِّر عن الدِّقة العِلْميَّة في أعلى مستوياتها، إنما هي القدرة على ضبط وتمييز التأثيرات بين متغيِّرات موضوع الدراسة  (Effets entre les variables)، إذ في عِلْم الوراثة نتكلَّم عن متغيِّرات بالملايين، عكس المتغيِّرات في العلوم الاجتماعيَّة التي لا تتجاوز عشرين متغيرًا في أقصى الحالات. يقول روبرت بلومن في هذا الصدد: «لقد أصبح من الممكن أخيرًا إجراء تقويم مباشر لكل من ملايين الاختلافات الموروثة لـ DNA فيما بيننا، ومعرفة أي منها مسؤول عن التَّأثير الوراثيّ الطاغي في السمات النَّفسيَّة؟ وتتمثَّل أحد الاكتشافات الاستثنائيَّة في أننا لا نبحث عن بضعة اختلافات في الـDNA ذات تأثيرات كبيرة فقط، بل عن الآلاف من الاختلافات الصغيرة التي يمكن أن تجمع آثارها الصغيرة لخلق متنبئات قوية بالسمات النَّفسيَّة»(5). بعبارةٍ أخرى، فإن أبسط الفروق الجينيَّة في المُخطَّطات الوراثيَّة بين البشر يمكن للباحثين في عِلْم الجينات تحديدها وتتبُّع آثارها في سلوك الإنسان. فهل يوجد مستوى أرقى للدِّقة العِلْميَّة بعد هذا؟ الجواب لا يستدعي التعجُّل، فلنتابع.

من جهةٍ أخرى، فإن “دِقة التَّشْخِيص” كذلك تُتَرجم على مستوى “دِقة التنبؤ” بالمسارات المُحْتَمل السير فيها من طرف السلوك البشريّ. يؤكِّد صاحب الكتاب بأن المتخصِّصين في عِلْم الوراثة يجدون في هذا الجانب دِقة خياليَّة، حيث يمكن لهم التنبُّؤ بالحالة النَّفسيَّة والعقليَّة للإنسان في مرحلة الشيخوخة وهو لا زال في بطن أمه تقريبًا. يقول: «في حالة المرض العقلي، لم يَعُد يتعيَّن علينا الانتظار حتى يُظْهِر الأشخاص علامات دماغيَّة أو سلوكيَّة على المرض ومن ثَمَّ الاعتماد على سؤالهم عن أعراضه. فمع وجود متنبِّئات الـ DNA نستطيع التنبُّؤ بالمرض العقليّ منذ الولادة، أي قبل وقتٍ طويل ٍمن اللحظة التي يمكن فيها اكتشاف أي علاماتٍ دماغيَّة أو سلوكيَّة على المرض»(6).

مع ذلك تطرح هذه الدِّقة المتناهية كما تبدو عِدَّة أسئلة حول أداء العِلْم الدَّقيق، وحول مدى المتغيِّرات التي يتحكَّم فيها. فكما هو معروف، فإن حدود هذا المدى يتحدَّد أساسًا بما هو قابل للرَّصد والتَّجريب (L’expérimentable). لكن ألا تبقى بعد المُتغيِّرات الجينيَّة متغيِّرات أخرى متحكِّمة هي كذلك في السلوك البشريّ، وتكون خارج الضبط العِلْميّ لعِلْم الجينات والأعصاب، أي متغيِّرات لا تتوفَّر فيها قابلية الرَّصد والتَّجريب والإحْصَاء الرياضيّ، كما نعرفها في العلوم المسماة بالعلوم الحقة؟ فلندع صاحب الكتاب يجيب: «إن الاختلافات البيئيَّة (أي الثقافيَّة والاجتماعيَّة) مهمة، غير أنها عشوائيَّةٌ على الأغلب، أي أنها غير مُنْتَظِمة وغير مستقرة، ما يعني أننا لا نستطيع فعل الكثير حيالها»(7).

كم هو بليغ هذا الاعْتِراف من طرف أحد أبرع المتخصِّصين في العلوم الدَّقيقة في زماننا. إنه يُجسِّد حَدًّا من حدود هذه العِلوم، التي يمكن أن نتوهَّم تحت سحر بعض نتائجها المُبهِرة بأنها قد أوفت وبزيادة على غاية كل عِلْمٍ. غير أنها في نهاية المطاف تبقى وَفِيَّة للطريقة التي وضع بها “إمانويل كانط” العلوم بشكلٍ عام، أي الطريقة التي أحد أضلاعها: “القابليَّة للتَّجريب” بأدواته المعروفة والمتطوّرة جدًا في زماننا الحالي، والضلع الآخر: هو “القابليَّة للانتظام في زمانٍ ومكانٍ محدَّدين” بدِقة (Le conditionné par l’espace-temps)(8). خارج هذين الضلعين ليس أمام الباحث العِلْميّ سوى أن يقول لك كما قال صاحبنا روبرت بلونين: «في هذه الحالة لا نستطيع فعل الكثير حيال الأمر»(9). لماذا؟ لأن المتغيِّرات المُنْفَلِتَة من التَّجريب -بمعناه الإمبريقيّ Empirique- والتي يَصعُب تحديد تأثيرها ونمط عَلاقتها بالزمان والمكان، مثل المتغيِّرات الثقافيَّة والاجتماعيَّة والروحانيَّة والنَفسيَّة والسياسيَّة، لا يمتلك بشأنها المُتَخصِّص في العِلوم الطبيعيَّة أي أدواتٍ منهجيَّة لدراستها. إلى حَدّ أنها تبدو كما قال صاحب الكتاب: “عشوائيَّة“، وهو تعبيرٌ قد يكون عفويًّا، إلا أنه لا يخلو من سخريةٍ، لأن الأشياء التي لا يستطيعون فهمها يَطلقون عليها مثل هذه الأوصاف. في الحقيقة لهذه المسماة “عشوائيَّة” ميدان دراسة آخر، إنه ميدان فرويد، وكارل يونج، وكليفورد جيرتز، ولودفيج فتجنشتاين، وبيير بورديو… وجوديث بتلر.

حينما يدرس كليفورد جيرتز مثلًا تأثير “الرَّمز” في الحالة الذهنيَّة للإنسان وبالتالي على سلوكه(10)، كيف لعَالِم أنثروبولوجيا مثله ضبط تأثير “رمز ثقافيّ” معين على الإنسان داخل زمكان محدَّد؟ لهذا نتحدَّث عن “السياق Le contexte” بدل “الزمكان L’espace-temps” في العلوم الاجتماعيَّة(11)، السياق الذي يتضمَّن بطبيعة الحال زمكنات متعدِّدة جدًا، بالتالي تصبح عملية ضبط عَلاقة متغيِّرات الدراسة في العلوم الاجتماعيَّة بهذه الزمكانات المتعدِّدة واللا نهائيَّة -فضلًا عن أنها متعذِّرة- فإنها عديمة الجدوى عِلْميًّا. لهذا قد تبدو تحليلات المُتخصِّص في العلوم الاجتماعيَّة مرتهنة إلى أشياء “لا محدَّدة بدِقةٍ”، إلا أنها مرتبطة بسياقٍ معين. وبالمقابل تتميز أبحاث علماء الطبيعة “بما نُحدِّده بدِقَةٍ”، أي بالزمان والمكان وبالتَّجربة. بذلك نكون قد فهمنا لماذا اعتبر “أوجست كونت” العلوم الاجتماعيَّة أعقد بكثيرٍ من العلوم الطبيعيَّة.

في المُحصِّلة،  فإن الدِّقة بين العلوم الاجتماعيَّة والطبيعيَّة لا تنتظم وَفْق إيقاع واحد، بالتالي لا تُقَاس بمعيارٍ واحد، كما نخطئ حينما نُفكِّر فيها وَفْق منطق إبستيمولوجيّ مشترك. إذ إن توهُّم تحصيل دِقَة متكاملة في تفسير سلوك الإنسان بشكلٍ إحصائيٍّ ورياضيٍّ وتجريبيٍّ، قد يَنمُّ في الحقيقة عن جهلٍ عميقٍ بمكنونات الإنسان الخارجة عن آلة الرَّصد التَّجريبيَّة. ألم نقل سابقًا: بإن الوجه الآخر للدِّقة العِلميَّة قد يكون هو “السَّذّاجة”؟!

ما الذي يحدِّد سلوك الإنسان، هل التنشئة الاجتماعيَّة أم الجينات؟

رافق صدور الكتاب ارتفاع عَقِيرة بعض المُعلِّقين، بأن الدراسة تُبيِّن تفاهة تحليلات العلوم الإنسانيَّة للسلوك البشريّ. إذ بالنسبة لهؤلاء المعلِّقين، فإن هذا السلوك تتحكَّم فيه الجينات بشكلٍ حصريٍّ، وليست التربية والأسرة والدِّين والعادات والتقاليد والآيديولوجيات بمختلف أنواعها. والحقيقة أن أقل ما يقال عن هذا الموقف هو إنه “موقفٌ ساذج”، بل مبالغ في ساذجته. لماذا؟ لنترك صاحب الكتاب يجيب: «لقد أكدت طوال مسيرتي العِلميَّة على الأهمية التَّفسيريَّة لكل من الطبيعة والتنشئة معًا، وليس على الطبيعة مقابل التنشئة»(12). ويضيف شهادة حاسمة بقوله: «إن الأبحاث الوراثيَّة توفِّر لنا أفضل دليل نمتلكه على أهمية البيئة -في تفسير السلوك- لأن الوراثة مسؤولة على نصف الاختلافات النَّفسيَّة فيما بيننا فقط»(13). هكذا، فإن من يُنْكِر تأثير البيئة التي ينشأ فيها الإنسان على سلوكه وحالته الذهنيَّة والنَّفسيَّة والفِكريَّة، فإن موقفه هذا لا تسنده في الحقيقة لا علوم الطبيعة ولا علوم المجتمع. وقد تنبَّأَ صاحب الكتاب فعلًا بأن تأليفته هذه قد تحيي النقاش المشهور بين مَن له أهلية تفسير السلوك البشريّ: هل الثقافة أم الطبيعة(14). وهو النقاش الذي تجاوزه بكثير منطق العِلْم حاليًا، بما أن العالم اليوم يتحدَّث عن La Pluridisciplinarité أو البحث العِلْميّ العابر للتخصُّصات، حيث نجد في بعض المختبرات الأكاديميَّة، الفَلاسِفَة وعلماء النَّفس وعلماء الأنثروبولوجيا إلى جوار علماء الأعصاب والجينات والفيزيولوجيا، يدرسون نفس المواضيع من زوايا نظر مختلفة. ثُمَّ، ألا تُعبِّر عن هذه الرُّوح العِلْميَّة المُستجَدة ما يُسمى بـ”إبستيمولوجيا التعقيد L’épistémologie de la complexité”، كما بشَّرت بها الإنتاجات الفِكريَّة المرموقة لفيلسوف دارس للعلوم كـ”إدجار موران”(15).

في الحقيقة لا عِلْم فوق كوكب الأرض يستطيع أن يُفسِّر لنا بالاعْتِمَاد على التَّحليل الجينيّ وحده: لماذا الإنسان المُسلِم مثلًا يُصلي بهذه الطريقة بالذات؟ هل الصَّلاة على طريقة أهل السُّنَّة والجماعة توجد في الكروموزومات؟ ولماذا يركب الإرهابيّ في سيارةٍ مفخَّخةٍ، فيقتل نفسه وغيره؟ كما لا يمكن تفسير سلوك إنسان مُبْدِع يُنْتِج الفَنّ، بواسطة تحليل جينيّ؟ في الواقع هناك شيء اسمه التَّعليم والتَّربية والتَّقليد، فالفَنَّان يتعلَّم الفَنّ في معاهد خاصة، والمُسلِم السُّنيّ يتعلَّم الصَّلاة وَفْق ما يقرِّره مذهبه الدِّينيّ، والإرهابيّ يتعلَّم الإرهاب فْكريًّا وثقافيًّا، ثُمَّ فيما بعد سلوكيًّا.

ثُمَّ إذا كانت الجينات هي المُتحكِّم الحصريّ في السلوك البشريّ، إذًا فلا معنى كُليًّا «للطب النَّفسيّ»! يصبح مَضْيَعَة للوقت، لأن الاضطراب وَفْق هذا المنظور يتسبَّب فيه عوامل جينيَّة داخليَّة لا تتأثَّر بثرثرة المُحلِّليل النَّفسيين أو الأطباء النَّفسيين. فهل هذا يُعْقَل سواء طبيًّا أو عِلميًّا؟ هذا ما يُبيِّن تهافت الخِطْاب الذي يُقصي أهمية العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة في تفسير السلوك البشريّ.

يؤكِّد روبرت بلومين إلى أي حَدٍّ نتائج أبحاث عِلْم الوراثة مدهشة لكل من المنغلقين على التَّفسيرات البيولوجيَّة أو التَّفسيرات السيكو-سوسيولوجيَّة. إذ يوضح بأن تأثير الجينات يظهر على كل تصرفاتنا تقريبًا، إلى حَدٍّ أن الرَّجُل يقول: «حالما تبدأ في التَّفْكِير بمدى أهمية الـ DNA، يصبح من الصعب الإشارة إلى أي تجارب نَفسيَّة خالية تمامًا من أثر وراثيّ محتمل»(16). إن تأثير الجينات ينسحب على سلوكيات نعتبرها مُتولِّدة من طبيعة تجاربنا المعيشيَّة، مثل الإرهاق النَّفسيّ، الطَّلاق بين الأزواج، حوادث السير، حتى مدة مشاهدتنا للتلفاز، تتحكَّم الجينات فيها جزئيًّا. إنها نتائج لا تصدَّق بسهولةٍ حتى من طرف عُلماء الوراثة أنفسهم، الذين سَخروا من صاحب الكتاب بعد أن نشر دراسة حول العوامل الوراثيَّة المُتحكِّمة في مدة مشاهدة الأطفال للتلفاز(17).

ويبقى الشيء المثير للدهشة في نتائج هذه الأبحاث، هو ذلك المرتبط بـ”التَّحصيل الدراسيّ”. فالكل دَأبَ على الاعتقاد بأن التفوُّق الدراسيّ أو الفشل الدراسيّ مرتبطٌ أساسًا بمجهود التلميذ، وتأثير بيئته الاجتماعيَّة عليه، أي أن المسألة تربويَّة جوهريًّا. أليس هذا ما تقول به نظريات علوم التَّربية: من جون ديوي، وبيير بورديو، إلى فرونسوا دوبي، مرورًا برايمون بودون؟(18) المُثير أن صاحب الكتاب يقول: «إن أفضل المتبِّئات التي بحوزتنا حتى الآن بشأن السلوك البشريّ، اعتمادًا على التَّحليل الجينيّ، هي المُتعلِّقة بـالفِصَام إلى جوار الإنْجاز الدراسيّ»(19). ويضيف في ناحيةٍ أخرى أن: «الأبحاث الوراثيَّة تُظْهِر بصورةٍ ثابتة أن أداء الطُلَّاب في اختبارات الإنْجاز الدراسيّ يعود لعواملٍ وراثيَّة بمعدل 60% في المتوسط»(20).

 هل هذا يعني أن لا تأثير للمجتمع والثقافة والتَّربية في قرار الطَّلاق أو السلوكات المتهورة المؤدية إلى حوادث السير، أو مدة مشاهدة الأطفال للتلفار، أو في التفوُّق أو الفشل الدراسي؟ يجيب صاحب الكتاب: بأن الأمر لا يتعلَّق بتوجيه جينيّ حتميّ للسلوك، وإنما بما يُسمِّيه هو بـ«التَّنشئة المُطبَّعة»(21). بمعنى أن احتمالات سلوكنا في هذا الاتجاه أو ذاك نختارها بحُرِّية وبإرادة، إلا أننا نجد في التَّحليل الجينيّ أن جيناتنا تُدِّعم هذا الاتجاه أو ذاك من سلوكياتنا، ما يعني أن تأثير الجينات مُعزِّزٌ وليس حتميًّا. يقول روبرت بلومن: «إن رغبتك في قضاء الوقت خارج المنزل أو ميلك للاكتئاب يتأثَّر جزئيًّا بعوامل وراثيَّة»(22). وبما أن التأثير الجينيّ جزئيٌّ، فهذا ما يفسح المجال إلى عوامل أخرى للتأثير في السلوك، مثل تلك المرتبطة بالثقافة والتَّربية. هكذا، فـالسلوك لا تُوَجِّهه الجينات كليًّا، كما لا تُوَجِّهه الثقافة كليًّا، بل كلاهما معًا. يبقى أن نسبة تأثير هذا النوع من العوامل أو ذاك تختلف حسب الحالات والظروف، أحيانًا يكون توجيه الجينات للسلوك أكثر من توجيه الثقافة، وأحيانًا أخرى العكس. مع ذلك، كيف تطبَّع التنشئة؟

الرَّجُل يقصد بذلك أن ما نعتقد بأنه أثرٌ بيئيٌّ ثقافيٌّ محض، نجد بأن له خلفية وراثيَّة مُعزِّزة، أي أنه أثرٌ طبيعيٌّ. يقول روبرت بلومن: «ما تبدو آثارًا بيئيَّة منهجيَّة طويلة الأمد، تكون في كثير من الأحيان انعكاسات لآثار وراثية، تدفعنا بشكل خفي إلى تشكيل تجارب اجتماعية متوافقة مع المضمون الجيني لهذه الآثار”»(23). بمعنى أن حتى ما نُشكِّله كتجاربٍ حياتيَّة خاصة بنا، فإنه يكون بشكلٍ خفيٍّ مُعزَّز من طرف الـ DNA الخاص بنا. قد تكون هذه التجارب الشَّخصيَّة متأثرة بما هو اجتماعيّ أو ثقافيّ، إلا أن اختيار اتجاه معين لهذه التجارب يكون مُحفِّز من طرف قُوى طبيعيَّة، أي الجينات. هذا ما يُسمِّيه بلومين بـ«التَّنشئة المُطبَّعة».

أكثر من ذلك، يميل صاحب الكتاب إلى مُنَاصرة الرأي الذي يقول بإن المُوجِّهات الثقافيَّة لا تدوم، عكس التجارب الحياتيَّة الموجهة بمأثرات وراثيَّة، أي طبيعيَّة. يقول: «التشابه بين أفراد الأسرة مرده في الحقيقة إلى الـDNA الذي نمتلكه، وليس إلى تجاربنا المشتركة، مثل الرعاية المُتَّسِمة بالحُبّ والحنان، أو لأننا تربينا على أيدي أبوين داعمين، أو لأننا نشأنا في أسرةٍ مُفكَّكة. إن ما يجعلنا مختلفين بيئيًّا هو تجارب عشوائيَّة، لا قُوى منهجيَّة مُنتظِمَة مثل الأسرة، ولهذه النتيجة تداعيات هائلة، فمثل هذه التجارب تؤثِّر فينا، غير أن  آثارها لا تدوم؛ فبعد هذه الصدمات البيئيَّة نعود تلقائيًّا إلى مسارنا الوراثيّ»(24). هذا ما يثير جملة من الأسئلة: أليس ما تبثَّه فينا الثقافة التي ننشأ فيها من: أديانٍ، ومعتقداتٍ، وآيديولوجياتٍ، وعاداتٍ، وأساطيرٍ، وقِيَمٍ، وأخلاقياتٍ، تتزوج بنا دون فراق من المَحْبَرة حتى المقبرة؟ أي مسار وراثيّ نعود إليه بعد الدخول في دِين الإسلام مثلًا؟ ألا يضارع تأثير الثقافة في الإنسان تأثير الطبيعة؟

يتخذ في الحقيقة روبرت بلومين موقفًا اتجاه هذه الأسئلة، إذ إنه يقرِّر الابتعاد عن موقف القائلين بغلبة تأثير الثقافة والتنشئة في الإنسان، كما هو حال جوقة لا بأس بها من علماء النَّفس في القرن العشرين الميلادي. يقول: «الـDNA ليس الشيء الوحيد المهم، غير أنه مع ذلك، الشيء الأكثر أهمية من كل الأشياء الأخرى مجتمعة، من حيث السمات النَّفسيَّة الثابتة التي تحدِّد من نكون»(25).

الخُلَاصة: إعادة بناء التَّصوُّر حول الإنسان

هل الإنسان “آلة” يتحكَّم فيها مُخَطَّط جينيّ مُبرمَج خارج وعي وإرادة الإنسان؟ ألا تضفي عليه المقاربة التَّجريبيَّة الطبيعيَّة هذه السمة؟ إجابة عُلماء الأعصاب والوراثة عن هذا السؤال تبقى غير مُتماسِكة، بل غامضة عن عَمْدٍ أحيانًا. ثُمَّ ألم تُنْتَقد هذه المُقَارَبة في دراسة الإنسان بعمقٍ لا نظير له منذ بدايات القرن العشرين الميلادي؟ ألا يستدعي هذا المنظور إعادة بناء تصوُّرنا حول «الإنسان»؟

في الواقع، تُذكِّرنا هذه المناقشة بأعمالٍ واحد من أهم الأطبَّاء النَّفسيين في العَالَم، وهو «إدوارد زاريفيون Edouard Zarifian»، حيث أقْدَم الرَّجُل في نظري على أعمق محاولة لإعادة بناء تصوُّر الإنسان في عِلْم النَّفس المُتأثِّر بعِلْميْ الأعصاب والجينات، وذلك في كتابه الرائع: «بُستانيوا الجنون Les Jardiniers de la folie»، حيث قام بمناقشة أصيلة حول «ما الجنون؟» هل يتسبَّب فيه المجتمع والثقافة؟ أم هو نتيجة لخللٍ في الجهاز العصبي؟ أم تؤدي إليه حالة نَفسيَّة خاصة؟ يستعرض زارفيون تفسيرات كل من علم الاجتماع، والتَّحليل النَّفسيّ، وعلم الأعصاب، موضحًا مبلغ اعتداد كل تخصُّص بتفسيره الذي يَدَّعي له الوجاهة والصحة، وبالمقابل يُجرِّد تفسيرات التخصُّصات الأخرى من أهلية فهم الجنون عِلميًّا، دون بناء جسور للتواصُل أو التعاون بين  التخصُّصات الباحثة في هذا الأمر. إلى حَدّ أن زاريفيون يقول: «لقد انتشرت آيديولوجيا عِلْم الأعصاب البيولوجيّ على يد أطبَّاء نفَسيين لا يفهمون أي شيءٍ في عِلْم الأعصاب، وعلى يد عُلماء أعصاب لا يفقهون أي شيءٍ في الطب النَّفسيّ»(26).

 في المُحصِّلة حسب هذا العَالِم والطبيب راسخ القَدَم في تخصُّصه، فإن أي عِلْم يَدَّعي أن فهمه بشكلٍ حصريٍّ، أو أنه هو الأكثر أهمية في فهم السلوك البشريّ، إنما هو على التَّحقيق ليس عِلْمًا، بل “آيديولوجيا”(27). ذلك أن الدرس الذي يُعلِّمنا إياه تاريخ العلوم، هو أن السلوك البشريّ شديد التعقيد، وأن كل ادِّعَاءات احتكار تفسيره شموليًّا من طرف بعض التخصُّصات العِلميَّة لم يحالفه إلا الفشل بل الكساد. ولقصة حجم ادِّعَاءات المتخصِّصين في عِلْم الأعصاب اتجاه الاضطرابات العقليَّة والنَّفسيَّة تشخيصًا وعِلاجًا في أوَّل الأمر، ثُمَّ كيف تواضعوا في ادِّعَاءاتهم هذه بعد سنواتٍ، كما يرويها هذا الكتاب، عبرة، لا يتنكَّر لها إلا مُعَانِد أو جاهل.

هكذا خرج الرَّجُل في النهاية بكتابٍ آخر وعلى النقيض من ادِّعَاءات عُلماء الأعصاب في إمكانية القضاء على الاضطرابات العقليَّة والنَّفسيَّة بالدواء، انتهى إلى خُلَاصة سنوات من العمل البحثيّ والطبيّ، مفادها أن أقوى وأهم طريقة للتعامل مع المريض النَّفسيّ إنما هي «المعاملة الإنسانيَّة» أساسًا(28). الشيء الذي يؤكِّده تيارٌ كامل موازٍ بدأ يتنامى في السنوات الأخيرة داخل الطب النَّفسيّ وعِلْم الأعصاب، فوَقْع «الكلمات» أبلغ أثرًا في نَفسيَّة الإنسان من «أدوية» لا تُدَاوي في الحقيقة سوى جشع لوبي شركات الأدوية(29).

لا يمكن فهم هذه الخُلَاصة إلا في إطار التصوُّر الذي أعاد بناءه “إدوارد زاريفيون” للإنسان في أعماله. فهذا الأخير كائن ثقافيّ واجتماعيّ من ناحية، ويتأثَّر بحالةٍ ذهنيَّة ونَفسيَّة من ناحيةٍ أخرى، كما أنه قبل كل هذا كائنٌ طبيعيٌّ. كل هذه المناحي الكُبرى لوجود الإنسان تؤثِّر فيه، وأي إنْكَارٍ لأهمية أحدها إنما يُفْسِد فهم الإنسان من حيث يريد تعميق الاقْتِراب من جوهره. قد تكون هذه الخُلَاصة هي ما يفتقد إليه كتاب “روبرت بلومين” فَلْسَفيًّا ومنهجيًّا، ما دام يعتقد بحماس أن: «اختلافات الـ DNA الموروثة تشكِّل جوهر شخصيَّة الفرد»(30). بمعنى أن فرادتنا كبشر تتحدَّد في أغلبها قبل أن نولد حتى، أي بشكلٍ نرثه وراثةً، لا يبقى إلا هامش ضيق تؤثِّر فيه التنشئة وظروف الحياة الاجتماعيَّة، الذي بدوره سرعان ما يخفت عائدًا بنا إلى طبيعيتنا الجينيَّة، أي الآليَّة.

___________________________

مراجع:

(1) Jeffrey Akaka, Carol A. Bernstein, Anita S. Everett, et al, (2013). “Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders: Dsm-5“. New York, American Psychiatric Association.
(2) كريستيان دولاكومباني، “تاريخ الفلسفة في القرن العشرين”، ترجمة حسن أحجيج، جداول، مؤمنون بلا حدود، الرباط 2015، ط1، ص 175-176.
(3) Heinz-Otto Peitgen, Hartmut Jürgens, Dietmar Saupe, (2014). “Chaos and fractals: new frontiers of science“. New York, Springer.
(4) روبرت بلومين، “المخطط الوراثي: كيف يجعلنا الـDNA من نكون”، ترجمة نايف الياسمين، العدد 495 عالم المعرفة، الكويت 2022، خصوصا الفصلين 12-13، ص196-197-212-213.
(5) نفسه، ص 15.
(6) نفسه.
(7) نفسه، ص 18.
(8) Sophie Grapotte, (2011). “Kant et la science : la théorie critique et transcendantale de la connaissance“, Paris, Société d’études kantiennes de langue française, pp 113-167.
(9) نفسه، ص 18.
(10) Clifford Geertz, (1973). “The Interpretation Of Cultures“, New York, Basic Books Publishers, p 126.
(11) Delphine Mercier, Ewan Oiry. (h2010). «Le contexte et ses ingrédients dans l’analyse de processus : conceptualisation et méthode pour l’analyse temporelle en sciences sociales», Academia Bruylant, pp.29-41.
(12) نفسه ، ص 17.
(13) نفسه ، ص 14.
(14) نفسه ، ص 17.
(15) Morin Edgar, (1990). “Science avec conscience“, Paris, Seuil.
Morin Edgar, (2005). “Introduction à la pensée complexe“, Paris, Seuil.
(16) بلومين، نفسه، ص 77.
(17) نفسه، ص 70-71.
(18) Martine Fournier (dir). (2018). “Les Grands Penseurs de l’éducation“, Paris, Éditions Sciences Humaines, Collection: Petite bibliothèque.
(19) بلومين، نفسه، ص 15.
(20) نفسه، ص 31.
(21) نفسه، ص 65.
(22) نفسه، ص 76.
(23) نفسه، ص 14.
(24) نفسه، ص 14.
(25) نفسه، ص 14.
(26) Zarifian Edouard, (1999). «Les Jardiniers de La Folie», Paris, Éditions Odile Jacob, p 201.
(27) op.cit, p 193.
(28) Zarifian Edouard, (2001). «La Force de guérir», Paris, Éditions Odile Jacob, p 55.
(29) Mark Robert Waldman, Andrew Newberg, (2013). “Words Can Change Your Brain“, New York, Hudson Street Press.
(30) بلومين، نفسه، ص 245.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مهدي جعفر

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا