استعمار مصر .. كيف أقام محمد علي الدولة الحديثة في مصر؟

يرى الكاتبُ أنَّ الدولة الحديثة التي نشأت في مصر بأيدي باشاوية ( محمد على باشا) وبعيون أوربية (إنجليزية وفرنسية) إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس. وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف والقانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجينُ نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب وأن هناك ثمة من يترصده.

وهكذا وعلى هذه الشاكلة يتّفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هى الحارس القابع في البرج.

ويسلتزم بناء هذا السجن، عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق (عملية هندسة اجتماعية)؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة والتي فتحت الطريق سهلًا أمام الاستعمار الإنجليزي؛ حيث إن هذه العملية قد تمّت أساسًا بعيون وأيدٍ أوربية ومباركة باشاوية.

بناء الجيش الحديث:

كان أول ما قام به محمد علي في رحلته لبناء دولة حديثة في مصر، هو بناء جيش قوي يستطيع من خلاله فرض سيطرته على الداخل وصدّ أي عدوان خارجي قد يهدد مشروعه الطموح، بل وتطور هدف هذا الجيش ليخدم أطماع الباشا التوسعية.

وهكذا واعتبارًا من عام 1822 وجد المصريون أنفسهم يؤخذون بعشرات الآلاف ويحوّلون لأول مرة في التاريخ إلى جنود. وقد وجد ضباط الجيوش الفرنسية ومهندسوها المهزومين بعد نهاية الحروب النابليونية طريقهم إلى مصر، حيث عملوا في إنشاء النظام الجديد.

إعلان

كان القصد تكوين جيشٍ جديدٍ شديدَ الانضباط، على ألّا يكون كما في السابق من فطاطرية ومراكبية و قهوجية وبقالين، فلم يعد يجري النظر إلى الجيش بوصفه جهازًا ظرفيًا يجري تجميعه لشن حملات موسمية. بل يتعيّن وجود قوّة منظمة مؤلفة من رجال مرغمين على العيش معًا بصورة دائمة كجماعة متميّزة تتلقى التدريب بصورة مستمرة حتى في الوقت الذي لا تكون فيه حرب.

وانتهى الأمر إلى صنعِ جيشٍ جديد على شكل آلة مصطنعة قادرة على التدمير بسرعة وبقوة غير مسبوقة في ذلك الوقت.

الدولة الحديثة وبناء القرية النموذجية:

كان المرسوم الذي صدر في يناير 1830 بحبس الفلاحين داخل قُراهم وعدم السماح لهم بالخروج منها إلا بموجب حصولهم على تصريح، معبّرًا بقوة عن النمط الجديد لشكل الحياة التي يُراد للمصريين أن يعيشوها.

كان الفلاح المصري قبل التنظيم الجديد على يد محمد علي باشا، جزءًا من الأرض التي يعيش فيها وتتمحور حياته حولها، وكانت حياته تنتظم وفقًا لنمط حياة متناغم مع الناموس الكوني، وذلك فيما يخص مواعيد البذر والري والحصاد، وحتى داخل بيت الفلاح؛ من حيث شكل البيت وتنظيمه (مكان النوم والمعيشة ومكان المأكل والاجتماع ومكان الماشية والبهائم) كل هذا ينتظم وفقًا لتفاعل وتناغم بين الفلاح والفضاء الخارجي حوله.

غير أن هذا لم يكن مُناسبًا لشكل التنظيم الجديد المبتغى لبناء الدولة الحديثة. ومن ثم تم هندسة القرى وهدمها وإعادة بنائها مرة أخرى بما يتفق مع نمط الإنتاج الجديد الذي تريده الدولة ويتفق أيضًا مع عملية الضبط والمراقبة التي ستفرضها الحكومة على القرية، والذي سيحيلها مع الوقت إلى سجن مغلق على الفلاح، يمتنع عليه الخروج منه وإلا تعرض للعقاب، و تصبح القرية المغلقة بمثابة مصنع للإنتاج، تُهدر فيه حياة الإنسان ويتحول لآلة مُصطنعة.

المجتمع كثكنة عسكرية:

صدرت الأوامر بإنشاء الثُكنات ومعسكرات التدريب قرب المدن الرئيسية على مجمل طول النيل، من أسوان إلى القاهرة وعبر الدلتا، وجرى تجنيد الرجال في الجيش ليس من أجل حملات منفردة بل لسنوات عديدة ثم إلى مدى الحياة.

وجَلْبُ العسكريين وأسرهم للعيش داخل الثكنات، وتم توحيد الزى العسكري، وذلك لمنع المجندين من الهروب من الجيش. وهكذا تم فصل المجندين والعسكريين عن الجماعة المدنية وفُرضَ عليهم أقصى درجات الانضباط.

وجرى إدخال مدارس التدريب العسكري لمزيد من تحديث وتطوير الجيش المصري، وفُرض فيها قواعد موحّدة تحكم الانضباط، وكان يتعيّن إخضاع الطلاب للرقابة المستمرة، ليس في الفصول فقط، وإنما أيضًا خلال مشيهم ابتغاء النزهة خارج المدرسة وخلال وقت الراحة وفي عنابر النوم.

وهكذا تم استخدام هذه القوة الضاربة الجديدة في فرض النظام والانضباط على القرى التي تم تحويلها إلى ثكنات بدورها، واستخدمت في ضبط المجتمع وتمكين الدولة من رسم نمطٍ جديدٍ للحياة قائمٌ على عسكرة الحياة الاجتماعية وتصيير المجتمع كثكنة عسكرية.

التربية والتعليم كأداة لفرض الانضباط:

كان الغرض الرئيس من تطوير التعليم واستيراد نماذج المدارس الأوربية (مدرسة لانكستر ومدرسة باريس) في عهد محمد علي، تزويد الجيش بأفراد مؤهلين ذي تعليمٍ جيد ومؤهلات تناسب التطوير الحديث للجيش، وهذا ما يفسّر نمط التعليم الذي تم استيراده من أوروبا؛ فهو نمطٌ عسكري شديد التحكم والضبط، فالمدرسة كانت عسكرية في كل أبعادها، والغرض هو إنتاج أفراد مناسبين لنمط الحياة الجديد الذي يتم فرضه من قبل الدولة.

وإن كانت أهداف محمد علي التوسعية وحركة تحديث الجيش قد تراجعت في عهد إسماعيل؛ إلا أنّ النظام الجديد ظل قائمًا ومستمرًا، ويمكن التعبير عن الغرض الجديد الذي أنيط بالتعليم في كلمات تليماك فينيلون والتي ترجمها رفاعة الطهطاوي، حيث يقول:

” نحن السادة ٠يجب أن نستولي على رعايانا في شبابهم المبكّر، إننا سوف نبدّل أذواق وعادات كل الشعب. وسوف نعاود البناء بدءًا بالأسس نفسها ونعلّم الشعب أن يحيا حياةً مقتصدةً، بريئةً عامرةً بالنشاط وفق نمط قوانيننا”.

وهكذا تحددّت أهداف عملية التعليم ونظام التعليم الذي سيبنيه إسماعيل باشا، وهو تربية وتنشئة الشباب على ما يريده السادة أصحاب المال (مُلّاك الأراضي ورأس المال) والسلطة.

السيطرة على الجسد:

تنتهي عملية الهندسة الاجتماعية هذه إلى السيطرة المادية على الإنسان؛ وبمعنى أكثر وضوحًا تجعل الإنسان مكشوفًا أمام الدولة (السلطة). فقد تم تسطيح المجتمع وإعادة رسم معماريته على النسق الأوربي الحديث وتم تربية وتنشئة الفرد بما يتفق وهذه الهندسة، بحيث يصبح الفرد سهلًا مُسلّمًا بالطاعة للسلطة من ناحية، ومكشوفًا لعين البوليس – ممثل السلطة- من ناحية أخرى.

ويعبِّر عن هذا بشكل واضح وصريح، ما كتبه ضابط عسكري فرنسي في الجزائر في تقرير عن انتفاضة أخمدتها قواته عامي (1845- 1846) يقول: إن هناك طريقتان لتأسيس سلطة سياسية على مكان ما: طريقة القمع وطريقة التربية. والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل، أما الأولى فتعمل على الجسد ولا بد أن تأتي أولًا. ويتضح أن السيطرة على العقل هى الهدف الثاني بعد السيطرة على الجسد.

بعد أن أسرنا أجسادهم:

كانت الخطوة التالية لسيطرة الحاكم والدولة على الأجساد هى السيطرة على العقول وتشكيل النظام الأخلاقيّ وما يتفرّع عنه من عاداتٍ وسلوك، وتوجيهها لم يحقّق الصالح العام كما يراه الحاكم ( الذي سيكون فيما بعد هو المستعمر الإنجليزي).

وهكذا بدأ المثقفون المصريون الذين تلقوا تعليمهم في الخارج (إنجلترا وفرنسا) وعادوا حاملين لواء التنوير والتجديد، في ترجمة الكتب التي تتناول المنظومة الأخلاقية الجديدة المراد بثّها في عقول المصريين. فتمّ تصوير المصري على أنه إنسان كسول وخامل، يضيع معظم عمره بلا طائل ولا إنتاج ولا عمل حقيقي؛ والسبب الرئيس في هذا أن الشعب المصري بطبعه وأخلاقه لا يميل للعمل ولا الإنتاج. ولذا يجب إعادة تشكيل ورسم أخلاق المصريين بما يجعلهم منتجين وذي فائدة.

وكثرت الكتابات التي تتناول هذه المسألة ووضعت كمقررات تعليمية في المدارس، وخُصّص لها أعمدة في الصحف، وتولى هذه المهمة مثقفون مثل: رفاعة الطهطهاوي وعبدالعزيز جاويش. وأخيرًا يمكن القول بأن الغرض الأساسي لهذا التوجه هو أن تصبح الدولة وما تفرضه من سياسيات هي المُشكّل للعادات والأخلاق الفردية. والفكرة في جوهرها وأساسها أوربية هادفة إلى دفع الشعوب المستعمَرة إلى زيادة الإنتاج وإفناء أعمارهم وحياتهم في العمل، باعتباره طريق التقدم والازدهار.

الدولة الحديثة ودور المرأة الجديد:

إنَّ الأسرة هى المرحلة التالية لتنظيم الجيش والإسكان والمدرسة، فالأسرة هى منزل الانضباط الذي سيستطيع مع الممارسات الأخرى التي ذكرناها، أن يُنتج العقلية المناسبة للمصرييين لبناء النظام الاجتماعي المُبتغى.

وفي هذا انبرى قاسم أمين، مستجيبًا لكتابات أوربية مفادها أن النمو المتخلّف للأمة يناظر النمو المتخلّف للمرأة المصرية، وقد عبّر جليًا عن هذا اللورد كرومر حين قال: “إن وضع النساء في مصر هو عقبةٌ قاتلةٌ أمام بلوغ ذلك السمو في الفكر والأخلاق الذي لا بد أن يصاحب إدخال الحضارة الأوربية”. وبهذا رأى قاسم أمين أن الحل الأمثل لبث الأخلاق والقيم المراد غرسها في المصريين ليس في بناء جامعة قومية في مصر لتُنتج نخبة متعلّمة، وإنما في تكوين أمومة مصرية متعلّمة؛ وجادل أمين أن عملية خلق نظام حديث لا بد أن تبدأ على حجر الأم ذلك أن من يملكون السلطة داخل البيت المصري هنَّ النساء وليس الرجال.

الاستعمار يقود الآلة:

كان ما انتهت إليه هذه العملية الطويلة من الهندسة الاجتماعية وما صاحبها من عمليات تربية وتنشئة وضبط وتوجيه، أن تحول المجتمع إلى كتلة صمّاء كما الآلة تحتاج فقط إلى من يقودها ويوجهها. فالنهضة التي أحدثها محمد على كانت بعقلية أوربية وعيون أوربية، تشرّبت النظرة الغربية للمجتمعات الشرقية ولما ينبغي أن تكون عليه، والتي كانت بالأساس محكومة باعتبارات الاستعمار والرغبة في السيطرة على تلك البلاد.

لم يكن البانوبتيكون مجرد نموذج خيالي أو صورة نحاول وصف الدولة الحديثة بها، وإنما كان نموذج حقيقي طُبّق في الواقع. فقد تراسل جيرمي بنتام مع محمد علي باشا في مصر، ودعاه إلى إدخال المبدأ البانوبيتي وتقنيات جديدة أخرى في عملية إنشاء الدولة. بل إنّ جورج بورنج، صديث بنتام ومساعده، قد زار مصر وعمل مستشارًا للباشا.

وقد مثّلت مصر في القرن التاسع عشر وجهة للأوربيين من خبراء عسكريين ورجال تعليم وخبراء طب، وساهموا جميعًا في إنشاء دولة حديثة قائمة على المناهج الجديدة للسلطة الانضباطية.

خاتمة:

يتضح مما سبق أن الاستعمار لم يكن فقط عملية غزو عسكري ونهب لثروات البلاد وخيراتها، بل كان عملية هندسة اجتماعية شاملة، بدأت بالتغيير العمراني والديمغرافي وإعادة رسم العلاقة بين المدني والعسكري، ثم تطرقت للتعليم والأسرة والعلاقات الاجتماعية، كما عمدت إلى السيطرة على الجسد بعد أن تملّكت العقل، وبذلك تُحقّق للمستعمر وضع جديد يمكّنه من قيادة الدولة المستعمرة بسهولة، بعد أن قام بهدم تكونها التقليدي وشبكة علاقاتها الاجتماعية القديمة، وشيّد بدلًا منها بناءً جديدًا ونمطًا جديدا للحياة الاجتماعية يسهل له القيادة والتحكم في المستعمَر.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الرحمن عادل

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا