الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية

مقدِّمة:

تسعى هذه الدراسة إلى بحث ” الأعراض المرضيَّة للتمدُّن في العالم العربي” وذلك باستخدام مقولة رئيسة مفادها أنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين ثلاثيَّة؛ الإنسان والعمران واللسان، والعلاقة بين الثلاثة هي علاقةٌ مركَّبةٌ قائمةٌ على التأثير والتأثُّر؛ فالخلل الحادث على مستوى الهويَّة الإنسانيَّة عنفًا واستبعادًا وميزًا حضاريًا، يصاحبه خللٌ على المستوى العمراني متمثِّلًا في التلوُّث البصري والتشوُّه المجالي، وكذا خلل على مستوى الهويَّة اللسانيَّة اغترابًا وتفكُّكًا لغويًّا واضطرابًا تواصليًّا.

وتعتبر الدراسة دراسة بينيَّة؛ تربط بين عدَّة حقولٍ معرفيَّة، فالباحث يعتمد أدواتٍ ومقارباتٍ من حقول ٍمتعدِّدة هي: علم الاجتماع اللساني، وعلم النفس اللساني، وعلم النفس المعماري. ويستند في مقاربته إلى إمكانيَّة النفوذ الحرِّ بين تلك المناهج المختلفة والحقول المتعدِّدة.

ويختبر الباحث في دراسته صحَّة الفرضيَّة التي بنى عليها الدراسة والقائلة بأنَّ هناك تشابهًا بين ثلاث بُنى مركزيَّة: بنية الإنسان وبنية العمران وبنية اللسان، والبنى الثلاثة متَّصلةٌ اتصالًا وثيقًا، سلبًا وإيجابًا؛ ففساد بنية الإنسان، بما يعني تعطُّل إحدى قواه الماديَّة أو العقليَّة، يستتبع فساد بنية العمران وبنية اللسان، حتى إذا تطرَّق العطب إلى الوجود الإنساني، انهدمت قيم العدل والكرامة والحريَّة التي بها قيامه في حياته ليتداعى له الوجود العمراني واللساني بالمرض والانهيار.

المدينة وتدفُّق العلامات

يتناول الفصل الأول “المدينة وتدفُّق العلامات” مكان الإنسان بين العمران واللسان؛ فالعمران في وجهٍ الوجوه تجسيدٌ لإرادة الإنسان في انطلاقها أو انقباضها، في فاعليَّتها أو سلبيَّتها، وهذه الإرادة يعكسها الإنتاج والمادَّة العمرانيَّة في تداخلها وتعبيرها عن الحاجات. وقد أصبحت هذه الإرادة الآن مسيَّرة، وفقدَ المجتمع القدرة على التحكُّم فيها، وأضحت العمارة تُفرَض قسريًّا على المجتمع لا لتلبِّي حاجاته بل لتشكِّل هي احتياجاته وفقًا لمصلحة رأس المال أو السلطة

وإذا كان الإنسان يأوي إلى العمران ليسكن فيه ويضمن له حاجيَّته الماديَّة والجماليَّة، فإنَّه يأوي إلى اللغة ليسكن فيها أيضًا ويضمن حاجيَّة التواصليَّة والرمزيَّة، فالإنسان يسكن في لغته ويستأمنها عن أفكاره ومعتقداته وأساطيره وجميع خيالاته.

إعلان

وهكذا يتفق العمراني واللساني في انطلاقهما معًا من “الفكرة” التي تنتمي إلى عالم المعقولات وهى تنشأ في مخيَّلة الإنسان وبين ثنايا روحه، لكنَّها حين تريد أن تخرج إلى الوجود تتفتَّق عبر المادَّة في صورتها الصوتيَّة أو المرئيَّة.

وهكذا بحث المؤلِّف في باثولوجيا التمدُّن محاولًا فهم أعراض المرض الذي ألمَّ بالمدينة العربيَّة، ووجد أنَّ أمراض التمدُّن هى أمراض الإنسان المقهور في المدينة الحديثة؛ الإنسان الذي تحوَّلت حياته إلى مجالٍ واسعٍ للاستغلال والاستثمار من رأس المال المتوحِّش الذي يبيع ويشتري في كلِّ شيء.

أمراض التمدُّن هى تلك الأمراض أيضًا التي تنتج عن النخبة البيروقراطيَّة التي تتحكَّم في مصير الإنسان بما تخطِّطه وترسمه من سياسات لا تراعي فيها المعطيات الثقافيَّة المرتبطة بنسيج الأعراف والتقاليد وتتجاهل خصوصيَّاتها وتغض الطرف عن الانسجام والتوازن الحيويين ولا تؤمن إلَّا بالحسابات الرقميَّة الدقيقة، وتتناسى أنَّ دور العمران هو في النهاية تلبية حاجات الإنسان الماديَّة والنفسيََة الفرديَّة والجماعيَّة.

وحينما تناول الباحث المدينة باعتبارها فضاءً من التدفُّقات، عقَدَ مقارنةً بين المدينة الإسلاميَّة قديمًا والمدينة العربيَّة حاليًا، فوجد أنَّ الأولى كانت مكانًا للتدفُّق الروحي والتدفُّق التجاري، الدين والدنيا، فضاءً للشهادة ومكانًا لتبادل المنافع (المسجد والسوق) وهى في إطارٍ من التبادل الحضريِّ المتدفِّق دائمًا، أمَّا المدينة المعاصرة فقد أضحى التدفُّق فيها تدفُّقًا رقميًّا عدديًّا سواءً كان في المال أو البشر، وهو تدفُّقٌ مفتقرٌ إلى الرابطة أو المعنى.

العمران والهويَّة ونظام المعاملات

في الفصل الثاني “هويَّة الفضاء وديناميّّة الرمز”، تناول المؤلِّف الهويَّة العمرانيَّة التي تعبِّر عنها المدينة عندما تُبنَى باعتبارها مجالًا حياتيًّا للاجتماع الإنساني؛ فهويَّة العمران تختزل تركيبًا معقَّدًا ومزيجًا من عطاء الفكر في تفاعله مع التاريخ والأرض والمناخ والدين والمجتمع ومعاش الناس أو طريقة تدبيرهم للاقتصاد.

تعاني المدينة العربيَّة الحديثة من أزمة هويَّة؛ بسبب دخول  فنِّ العمارة الغربيَّة عليها مسبِّبًا انهيار المشهد المعماري العربي الأصيل. وممَّا يتَّصل بالهويَّة العمرانيَّة في المسار الذي اتَّجهت إليه المدينة العربيَّة الحديثة في مسألة امتدادات الفضاء الذي يحتوي الكائن الحضري هو ما سمَّاه المؤلِّف جدل الضيِّق والواسع؛ فقديمًا كانت بيوتات المدينة العربيَّة العتيقة في العموم تتَّجه داخليًّا لتنفتح الغرف والفراغات على مساحات مزروعة، وتتسم بالاتساع وتضمُّ في داخلها جميع شروط الحياة الماديَّة والجماليَّة، فالقاعدة كانت ضيِّقًا يفضي إلى الواسع، وهو الشكل الذي تفتقده المدينة العربيَّة المعاصرة.

ارتبط ظهور أغلب المدن العربية الحديثة بالمرحلة الاستعماريَّة، وما تطلَّبته الحاجات المتزايدة والمستجدَّة إدرايًّا من خدمات وإدارات حكوميَّة وتمثيليَّات دبلوماسيَّة. وارتبط بهذا نزوح قطاعات كبيرة من الريف في اتجاه المجال الجديد الذي بدأ يؤدِّي دورًا استقطابيًّا بعد أن تحوَّل الريف إلى بيئة طاردة. وقد قامت هذه المدينة الجديدة على أساس التمييز الطبقي؛ فالأوربيُّون والأعيان يسكنون في الجزء الجديد، ويتكدَّس السكان الأصليُّون والنازحون من الأرياف في الجزء القديم، أو على هامش المجال الجديد. وهو ما سمَّاه المؤلِّف الترييف وإعادة إنتاج نظام المعاملات؛ فأولئك الذين قدموا من الريف في اتجاه المدينة طوعًا، أو الذين داهمتهم المدينة بفيضانها الأسمنتي الزاحف قهرًا، سوف يكونون كلّهم ضحايا التوزيع المجالي الجديد.

الريف والعشوائيَّات: إنتاج العنف والحقد

أمَّا الفصل الثالث “آلة المشاعر السوداء”  فركَّز فيه الباحث على كيف أن يكون الريف موضوعًا للحقد، ويبحث نظرة المدينة لأولئك النازحين من الريف، الذي حوَّلته السياسات التنمويَّة إلى مجرَّد مجال منسيّ تنخره الأميَّة والعصبيَّات القبليَّة؛ فطرد أهله وهجَّرهم لينزاحوا إلى المدينة التي رأتهم عبئًا وكدَّست تجاههم مشاعر الحقد والغضب، كونهم سبب كلِّ آلام المدينة وفاقتها.

إنَّ أحد الأسباب الأخرى في توليد المشاعر السوداء في المدينة هو ما ورثته تلك المدينة من أثر استعماري في تقسيم المجال بداخلها؛ فالاستعمار كان أحد العوامل الفاعلة بقوَّة في هندسة توزيع الثروة في التاريخ وتبعًا لها توزيع البشر وحاجاتهم، وهو من حدَّد بموضوعيَّة مزيَّفة المجال النافع الذي يجب العناية به والمجال غير النافع الذي لا فائدة ترجى من الاستثمار فيه، وهو ما يُعَدُّ اغتيالًا باردًا للإنسان نابعًا من رؤية نفعيَّة للأشياء ومجزَّأة، ثمَّ خرج المستعمر وبقي أثره فيما تعيشه المدينة من مخلَّفات الاستعمار في تقسيم المجال.

حينما يمتلأ فضاء المدينة بأكثر ممَّا يحتمل ويفيض بسكَّانه تظهر العشوائيَّات، و”العشوائيات ثآليل تفيض بالعنف”، فهي تجتذب نوعين من البشر المحروم: الأول هو تلك الأسر التي تعاني من مشكلات؛ كأن تعاني من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي، والآخر نوع يسبِّب المشكلات؛ كالأسر التي يسبب سلوكها مشكلات للآخرين، إمَّا لما تقترفه من أفعال كالبلطجة والجريمة، أو بسبب أفعال غير عمديَّة كإحداث الضوضاء والصخب. وبهذا تمثِّل العشوائيَّات على وجه المدينة ثآليل قابلة للانفجار في أيِّ لحظة.

المدينة والعزلة الإجتماعيَّة

في الفصل الرابع من كتاب الإنسان والعمران واللسان بعنوان “إنسانٌ معزولٌ وسط الزحام” يعالج الباحث ما يصيب الإنسان من جرَّاء سكنه في المدينة الحديثة؛ فيجد أنَّ أوَّل ما يصيبه هو العزلة الإجتماعيَّة، والعزلة التي يعانيها إنسان المدينة هي مظهر من أخطر المظاهر السوسيولوجي التي تخفي شبكةً من الأمراض النفسية؛ أمراض الصدام والخشونة وانعدام الثقة والكراهية الثقيلة للمحيط وللأشخاص الذين يشاركونا هذا الفضاء الحضري. يحاول المهاجر إلى المدينة حلَّ هذه العزلة عن طريق الإدماج الحضريّ القسري، فالثقافة التي يحملها المهاجر القرويُّ تتميز بهيمنة التقاليد والأعراف، وهي تختلف تمامًا عن الثقافة الحضريَّة التي تتميَّز بسيادة الفردانيَّة والرأي العام والقانون الوضعي.

وهكذا تشهد المدينة هجرةً للأنماط والقيم؛ فالمهاجرون إليها من الريف يحتفظون بعلاقاتهم معه وتبدو المدينة في ذلك كما لو كانت مجموعة قرى متجاورة، فتزداد فيها العزلة والتباعد، حيث لا تندمج القيم ولا تتفاعل.

ويصبح إنسان المدينة في زمن البوبيلوجيا منتجًا للنفايات بامتياز وآلةً لصنع الفضلات على مدار الساعة؛ هذه الأخيرة تصبح مزعجةً ومشوِّشةً ومقزِّزةً وضاغطة، ويكون أقرب طريق للتعامل معها هو التخلُّص منها بعيدًا، وبهذا تظهر مأساة جديدة للمدينة وجيرانها؛ حيث يستحيل محيطها وهوامشها محارق ومدافن لبقايانا ولأجزائنا ولذكرياتنا المتلاشية. يمثِّل هذا مزيدًا من ترسيخ العزلة والأنانية وفقدان الذات الحضاريَّة؛ حيث تصبح المدينة بلا هويَّة وسكانها بلا ملامح ولا يشعرون بأيّ انتماءٍ إلى المدينة التي تضمُّهم.

وتتجسَّد المدينة في صورة مقبرة تغيب عنها ملامح الحياة الإنسانيَّة وتخلو من روحها ومن صور اللقاء الطبيعي والتلقائي بين الناس، وتفقد الاتصال والتواصل الذي يصنع الجماعة، ويبرز السؤال: هل المدينة العربيَّة خليَّة نحلٍ أم مقبرة؟ 

المدينة والعلاقات الاجتماعية

أمَّا القسم الثاني من الكتاب والمعنون “من علم نفس العمران إلى الاقتصاد السياسي للّسان”؛ فتناول في أوَّله -تحت عنوان/ انسدادت وتحوُّلات- فكرة انسداد الخاص، ذلك أنَّ فضاء الخاص في العمران العربي المعاصر أضحى يعبر عن تمايزٍ طبقيٍّ ونوعيٍّ بين السكان؛ فهناك المساكن الخاصَّة والمستشفى الخاصّ والمدرسة الخاصَّة والنادي الخاصّ، وفي المقابل يأتي الفضاء الآخر ذو الطابع العمومي حيث تتدنَّى سمعة الفضاء وسمعة الخدمات والمرافق الاجتماعيّ والصحيَّة، وترتفع مستويات الجريمة والعنف. ومن ثم يتحوَّل مفهوم “الخاصّ” إلى أداة تواصليَّة تمارس الإقصاء والتمييز المبطَّن وينضوي على عمليَّات تبخيسٍ وتنقيصٍ غير مباشر لمن يعيشون خارج “الخاص”. ومع شيوع التجمُّعات الخاصَّة والمغلقة في المدينة العربيَّة، والبوَّابات المحروسة والمراقبة؛ تراجع مفهوم “الجوار” و”الجيران” التقليديّ بما يحمله من امتدادٍ اجتماعيٍّ للعلاقات الاجتماعيَّة، فقدت علاقات الجيرة قدسيَّتها القديمة وتحوَّلت إلى علاقاتٍ سطحيَّةٍ باردة، واندثرت القيم الاجتماعيَّة التي كانت تغرزها علاقات الجيرة القديمة؛ مثل الواجب والمعروف والإكرام والتعاون، وهذا ما سمَّاه المؤلف علاقات في خبر كان.

وفي ظلِّ ما سبق ظهرت مدينة الاستعراض، وفيها يميل الناس إلى الاستعراضيَّة والطابع الفرجَوي، وقد رافق صعود المجتمعات الاستعراضيَّة الفقيرة معنويًّا ورمزيًّا تجرُّدٌ قيميٌّ في ميدان العمران، وهو ما أدَّى إلى انغماسٍ في الشكل؛ فاهتم الفكر المعماريُّ بشكليَّة الشكل بعيدًا عن مواجهة إشكالات التلوُّث البيئي والسكاني والذوقي، ومدينة الاستعراض تتمثَّل أفضل ما تتمثَّل في المدينة السوق؛ فنحن الآن نعيش عصر الأسواق الكبرى التي باتت توفِّر كلَّ ما يخطر وما لا يخطر على البال، وقد أضحت هذه الأسواق في ظلِّ الروج التجاريَّة التي جلبتها حتميَّة السوق بمثابة مدن؛ فتحوَّلت المدينة إلى سوقٍ والسوق إلى مدينة، هذه المدينة السوق بمعناها الجديد المكتسح ستدفع الناس إلى مزيدٍ من الاستهلاك ومزيدٍ من الشراء.

وفي هذا الفضاء يستعرض الناس قدرتهم الشرائية، ما ينتج في النهاية مجتمعًا مبذِّرًا وحضارةً تنتج أكوامًا من القمامة والمخلَّفات والبقايا فوق الحاجة. وهذا الشكل الجديد للمدينة يختلف تمامًا عن الشكل التقليديِّ القديم، حيث لكل حيٍّ بقَّاله الذي يوفِّي احتياجات الناس، وتنشأ بين صاحب البقالة وبين السكان علاقاتٌ فيها قدرٌ كبيرٌ من الإنسانيَّة والجيرة والتسامح، وهذا ما أطلق عليه الكاتب أسواق عملاقة تبلع بقال الحيّ.

اللغة وفقدان الذات الحضاريَّة

تناول الفصل السادس “السيطرة الرمزيَّة وهوامش المقاومة الصاعدة” فكرة تكسير النظام الأكسيولساني للمدينة العربيَّة؛ فالمدينة هى فضاءٌ مكوَّنٌ من سلسلةٍ من العلامات المعبِّرة، يتداخل في بنائها “اللساني” بـ”القيمي” وهو ما يعطي للغة والمجال مضمونًا أخلاقيًّا؛ تلك اللغة التي يتواصل بها مرتادو الفضاء وساكنوه، وهنا نجد أنَّ المدينة العربيَّة بما تشهده من تدفُّقٍ دائمٍ للبشر؛ فهي تشهد حالةً مستمرَّةً من التكسُّر للنظام الأكسيولساني، بسبب تداخل القيم الجديدة ومحاولة الهيمنة التي تفرضها قيمٌ وهويَّاتٌ على أخرى.

وفي المدينة العربية الحديثة يمكن أن نكتشف بسهولةٍ وضعية التفوُّق اللغوي للألسنة الأجنبيَّة – وهو من أعراض مرض التمدُّن- كما أنَّه نتيجةٌ للتردِّي والتراجع اللذين تتعرَّض لهما اللغة الوطنيَّة والقوميَّة في الواقعين الوظيفي والمعيش، وهكذا نجد أننا نفقد السيطرة – بل السيادة- على الواقع من خلال هذا النمط من التدبير اللغوي، لأنَّنا نتحكم في الأشياء عبر العلامات، ومتى كانت هذه العلامات مستعارة؛ فإن قوَّتها الإنجازيَّة تبقى ضعيفةً محليًّا لأنها خارج سياقها، وبهذا يصبح المكان لا يتكلَّم لغته.

هذه الهيمنة للغات الأجنبيَّة في مدننا العربيَّة في إدارتها ومدارسها ومرافقها وأسواقها؛ خلقت حالةً من الاعتباط في الإقبال الشره على اللغات الأجنبيَّة في فضاء المدينة العربيَّة وهو ما يرسِّخ الهيمنة الغربيَّة ويعمل على إعادة إنتاج شروط التخلُّف عن صناعة تنميةٍ حقيقيَّةٍ تقوم على مؤهِّلاتٍ حضاريَّةٍ وذاتية، وهذا ما فسَّرته نظريَّات العجز اللساني التي تناولت تأثير اللغة الأجنبية في التباين الطبقي والانفصام الاجتماعي، بما يخلق طبقةً محتكرةً للميزات الاجتماعيَّة والثروة. وعلى إثر هذا ظهر ما أطلق الباحث عليه التحوُّل اللساني والذي يمكن دراسته والاستدلال عليه من خلال نصّ الشارع، فالشارع ظاهرةٌ نصيَّةٌ قابلةٌ للقراءة باعتباره نظامًا لعلامات ٍتحملها الإشارات والصور والتسميات.

وفي هذا نجد أنَّه على الرغم من مضيِّ أكثر من خمسين عامًا على استقلال الجزائر عن فرنسا (١٩٦٢)؛ فإن الملاحظ لا يزال يرصد في العاصمة الجزائريَّة بما هي مدينة حديثة؛ كيف أثَّرت أيديولوجية فرنسا اللغوية اليعقوبيَّة في هذه الحاضرة العربيَّة، فجعلت المكان لا يتكلَّم بلسانه، بل بلسان المستعمر الذي سكنه بالقوة والعسف، حتَّى أنَّ الظاهرة التي تكاد تكون متغلِّبة هي التحوُّل اللساني؛ إذ بمجرَّد إشعال أيِّ حديثٍ في أيِّ موضوع، يجد المتحدِّثون أنفسهم، سواءً كانوا متحدِّثين بالعربيَّة أو بالأمازيغيَّة؛ منتقلين إلى النسق اللساني الفرنسي، أو إلى النسق الإسباني كما هو الوضع في شمال المغرب (طنجة/ تطوان)، أو الانجليزي كمان في مدن الشرق العربي (القاهرة الحديثة نموذجًا).

إنَّ هذا التشوُّه اللساني بكلِّ أبعاده قد دفع الكثيرين في المدن العربيَّة إلى اللجوء إلى لغاتٍ متمرِّدة للتعبير عن موقفٍ ورؤيةٍ جديدة للعالم، إلى لغةٍ تخالف لغة السلطة والإدارة وتخالف الطبقة العليا التي ترعى وتستثمر في اللغات الأجنبيَّة المهيمنة، ومن أمثلة تلك اللغات المتمردة “الهيب هوب” و”الراب” وهي كلُّها أنماط غناء للتعبير عن الحال والنفس مخالفةٌ للنمط التقليدي المعروف. وصاحَب هذه الأنماط نمط تصويري متمثل في الرسم على جدران الشوارع والمعروف بالجرافيتي، وهو ما يمكن استقراؤه وملاحظته في فنون الشارع كما عبَّر الباحث.

المدينة الحديثة وإنتاج القبح

ويأتي الفصل السابع من كتاب الإنسان والعمران واللسان بعنوان “تراجيديات العنف الحضري والتلوُّث السائل”، تناول فيه المؤلِّف ظاهرة الغذاء والطعام في المدينة الحديثة؛ فالمدينة الحديثة هي مدينة استهلاكٍ مظهري، والاستهلاك كثقافة كان يتطوَّر في المدينة بمتوالية رهيبة وجنونيَّة ليغلِّف جميع جوانب الحياة المدنيَّة، وتتضاعف تأثيراته لتعبر مساحات اللباس والأنشطة والترفيه والعلاقات وأنظمة الاقتيات والأكل التي انقلبت رأسًا على عقب؛ مفضيةً إلى نقيض الغاية منها، أي إلى تدمير الإنسان بدلًا من توفير الصحة والتوازن.

ونتيجة لهذه الثورة الغذائية في أنظمة الأكل والغذاء، كان طبيعيًّا أن يحمل هذا الانقلاب جوائح فتكت بالتوازن الصحي العام في الحواضر. وفي هذه المدينة التي تأكل تسود ثقافة غذائيَّة تغلب المتعة على الصحة، وتصبح المدينة مصنعًا لإنتاج النفايات. وفي هذه المدينة التي تفتقر إلى الشروط الصحيَّة من حيث النظافة والتهوية والمناخ ودرجة الحرارة والرطوبة، يتصاعد السلوك العدواني. كما أنَّ الازدحام وضيق المكان يؤديان إلى الإرهاق والتوتُّر والصراع والرغبة في الهروب من المنزل؛ فالسكن فقيرٌ ثقافيًا ودلاليًّا، ولا يمكن الإنسان من أن يعيش فيه حميميَّته، ولا أن يستمدَّ أو يستوحي من خلاله أيَّ معنى، وتتحكَّم دوافع الربح وتحصيل الأموال في البناء والتعمير، وترتفع حدَّة التناقض بين العلامات العمرانيَّة لتفضي إلى تشوُّهاتٍ تأتي ضدًّا على المعنى والتاريخ.

كما أنَّها تشوهاتٌ تولد ثقافة القبح وتظهر التلوُّث البصري الذي تتعدَّد أشكاله في المدينة الحديثة، كزحف المحلَّات التجاريَّة وتعدِّي المقاهي والمطاعم على أرصفة المشاة، وكثرة الإعلات التي تحوِّل الشارع إلى مجرَّد مساحةٍ توظَّف من أجل الربح.

يصاحب هذا انهيارٌ شاملٌ يصب واجهة المدينة الحديثة التي أفسدها نشر الغسيل على الواجهات، وأغرقتها المكيِّفات وتزاحم الأطباق اللاقطة،؛ فمحت جميع التفصيلات الثقافيَّة، وقللت من القيمة العمرانيَّة للمدينة.

التلوث البصري هنا نتاج فسادٍ بصريٍّ يورث امراضًا بصريَّة هي جزءٌ من أعراض التمدُّن التي تضاعف اضطراباتنا النفسيَّة والعصبيَّة، وتؤشِّر على انحدارٍ في الذوق العام.

استعادة الأمل

وتأتي خاتمة كتاب الإنسان والعمران واللسان لتبين سبيل العلاج لهذه المدينة المريضة والمُمرضة، حيث يرى الباحث ألَّا سبيل لعلاج أمراض المدينة العربيَّة إلا بالتربية والعدالة؛ فالتربية لازمة من أجل أنسنة المدينة وترقية الوعى والحسِّ الجمالي والذوقي، واستعادة الثقافة الأصيلة لحضارتنا الإسلاميَّة والعربيَّة التي تعطي المدينة وكينونتها الحضريَّة مضمونًا، ومحاولة تفعيلها في الواقع بما يتناسب مع روح العصر بدون الاندماخ الأعمى في الحضارة الغربيَّة وثقافتها العمرانيََة التي فرضت علينا قسرًا.

ومن ناحية أخرى فإنَّه لا سبيل لذلك إلا بالعدالة وحفظ الحقوق والحريَّات والكرامة الإنسانيَّة التي من غيرها لا رجاء في أيِّ تقدمٍ ولا نهوض.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الرحمن عادل

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

تحرير/تنسيق: هاجر عمر

اترك تعليقا