ثورة 1919 في تاريخ مصر المُعاصر

ينظرُ البشري في هذا الكتاب إلى تاريخ مصر المعاصر نظرةَ الطائر المُحلّق في السماء، ومن ثم فهو ينقل أحداث التاريخ من تشكُّلها الرأسي المُتتابع من ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ، ينقلها من هذا المنظور إلى المنظور الأفقي باعتبارها كلها حدثت وتمّت وصارت من الماضي.
وهذا المنهج يتيح له أن يستقرئ أحداث التاريخ في تشكلاتها التي جرت؛ ليستطيع بالمقارنة بين بعضها البعض أن يستخلص الدروس والعبر وعوامل التشابه والاختلاف والإنجاز والفشل. ومن ثم فهو يقرأ ثورة 1919 في إطارٍ واسعٍ يستوعب ماضيها وحاضرها وآثارها فيما بعد بالإضافة إلى الإحاطة بالواقع التي قامت فيه وكيف كان شكله وكيف كانت ملابساته.

أولًا: في تاريخ مصر المعاصر:

يُقسم المؤلف تاريخ مصر المُعاصر إلى ستة مراحل؛ المرحلة الأولى: من ولاية محمد علي في 1805 وتستمر حتى سنة 1840، وقد تميزت هذه الفترة بظهور جهاز الدولة المصري الحديث وأصبح لولاية مصر التابعة للدولة العثمانية حاكمًا واحدًا لا يتغير هو محمد علي. أما المرحلة الثانية فتتحدّد بعام 1840، ويستجد فيها دخول عنصر دولي أوروبي يتعلّق بإضعاف النفوذ المحلي والأثر القطري لسياسات الدولة والمجتمع، وبداية إلحاق مصر بالسوق الأوروبي وتوغّل النفوذ الغربي من الدول الكبرى وقتها المتربصة بالمنطقة العربية. 

وتأتي المرحلة الثالثة متداخلة مع نهايات المرحلة السابقة، فتبدأ مع ثورة أحمد عرابي والمصريين تحت شعار “مصر للمصرييين”، وفيها استدعى الخديوي توفيق الإنجليز لدخول مصر؛ لإجهاض ثورة العرابيين، ومن ثم كان الحدث الأبرز لهذه المرحلة وهو الاحتلال الإنجليزي لمصر والذي آلت مصر على إثره إلى سلطتين هما؛ السلطة الشرعية التي يملكها الخديوي المعين من الدولة العثمانية، والسلطة الفعلية التي يمثلها الإنجليز. 

وتمثل ثورة 1919 وما أنتجته من صدور التصريح البريطاني بالاعتراف بمصر بلدًا مستقلًا ذا سيادة، وما تلا ذلك من إصدار دستور 1923 بداية المرحلة الثالثة، وقد كانت السلطة في هذه المرحلة مجالَ مشاركةٍ وصراعٍ بين القوى السياسية الوطنية والديمقراطية التي قامت بالثورة ومثّلتها، وبين قوة الاحتلال العسكري البريطاني، وبين قوة الاستبداد السياسي الذي تحوزه أجهزة الدولة المصرية تحت رئاسة الملك، وانتهت هذه المرحلة بقيام ثورة 23 يوليو 1952 وطرد الملك فاروق من مصر وإلغاء النظام الملكي. 

إعلان

ومع تولي جمال عبدالناصر الحكم نكون قد وصلنا للمرحلة الرابعة، وفيها جرى إتمام تحقق ثورة 1919 من حيث استقلال مصر استقلالًا تامًا، واتبعت مصر سياسات وطنية مستقلة تستهدف حماية الأمن القومي المصري، غير أنها هدمت تمامًا البناء الديمقراطي الذي تحقق من قبل ودعمت نظام الحكم الاستبدادي الذي تمارسه الدولة وأجهزتها بغير رقابة شعبيّة نظاميّة ومؤسّسيّة فعَالة.

وأخيرًا فإن المرحلة السادسة تبدأ بتولي أنور السادات الحكم، والذي أبقى الحكم الاستبدادي الفردي، وفوق ذلك نكص عن كل ما تم إنجازه من سياسات وطنية مستقلة وأعاد مصر إلى مجال التبعية السياسية للغرب والولايات المتحدة خصيصًا.

ثانيًا: الثورات المصرية في التاريخ المعاصر:

شهدت مصر خمس ثورات شعبية في تاريخها المعاصر؛ أولهم الثورة التي أخرجت الحملة الفرنسية من مصر، والتي تضافرت فيها القوى الشعبية لطرد الغزو الإفرنجي، وانهارت عقبها قوة المماليك وانتهى حكمهم وتولى محمد علي السلطة منفردًا. 

والثانية هى ثورة عرابي والتي وقعت بين عامى 1881 و1882 وكانت مصر حينها قد غرقت في الديون الأجنبية وتوغل النفوذ الأجنبي، فقامت تلك الثورة وكان عمودها الفقري هو القوات المسلحة ورفعت شعار “مصر للمصريين” بحسبانه شعار الوطنية المصرية ضد النفوذ الأجنبي، وانتهت باستدعاء الخديوي توفيق للإنجليز للتدخل العسكري في مصر لقمع الثورة. أما الثالثة فهى ثورة 1919 وقد كانت ثورة شعبية خالصة لم تشارك فيها القوات المسلحة، جمعت بين مطلب الاستقلال الوطني وجلاء جيش الاحتلال وبين مطلب الديمقراطية ضد استبداد الحكم الفردي والحكم النخبوي المحتكر للسلطة. 

أما ثورة 23 يوليو 1952 والتي تعد بمثابة الثورة الرابعة، فقد عزلت الملك فاروق عن الحكم. وقامت بها القوات المسلّحة منفردة وانفردت على إثرها بشؤون الحكم في البلاد وألغت الأحزاب السياسية وطوّرت جهاز الدولة على نحو ينفّذ سياسات وطنية ويقوم ببناء اقتصاد وطني قوي ولكن في ظل حكم فردي استبدادي يخضع المجتمع لجهاز الدولة كجهاز وحيد ويخضع جهاز الدولة لسلطة فرد واحد قائم على الحكم هو جمال عبدالناصر. 

وأخيرًا تأتي ثورة 25 يناير والتي كانت ثورة شعبية قام بها جماهير الشعب ضد الحكم المستبد من أجل تغيير نظام الحكم إلى تنظيم ديمقراطي يُخضع الحاكمين للنفوذ الشعبي. غير أن التشكّل التنظيمي الشعبي القائم بالثورة كان من الضعف بحيث إنه لم يستطع السيطرة على الحكم، وتدخلت القوات المسلحة في 10 فبراير مما أدى إلى خلع رئيس الجمهورية حسني مبارك.

ثالثًا: المشهد السياسي قبل ثورة 1919:

دخل الإنجليز مصر على إثر دعوة الخديوي توفيق لهم لقمع الثورة العرابية. وعلى إثر ذلك عرفت مصر ازدواجية في السلطة الحاكمة في ذلك الحين، حيث انقسمت السلطة إلى سلطة شرعية والمتمثّلة في الخديوي وجهاز الدولة من وراءه بوزاراته وحكوماته وموظفيه، وسلطة فعلية والمتمثلة في المشيئة الأجنبية التي تفرضها القوة العسكرية لجيش الاحتلال.

وهذه الازدواجية في السلطة تولّدت عنها ازدواجية في المقاومة الشعبية لها، فظهر في السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، ما عرف باسم “حزب الأمة” و”الحزب الوطني”.

كان توجّه الأول توجّهًا ضد السطلة الشرعية بالأساس؛ سلطة الخديوي باعتبارها سلطة فردية تستبد بالحكم منفردة، وكان هذه التيار يتكون من كبار مُلّاك الأراضي الزراعية الذين ظهروا من قبل في تشكيلات المجالس النيابية الاستشارية في عهد الخديوي إسماعيل ثم في عهد الاحتلال البريطاني وكانت غاية هذا التيار المشاركة في الحكم بقوة ثالثة مع قوة الملك والإنجليز. أما التيار الثاني فكان توجّهه ضد السلطة الفعلية بالأساس، أى ضد الاحتلال الإنجليزي، وكانت غايته الاستقلال المصري التام في إطار الجامعة الإسلامية والحاضنة العامة في ظل الخلافة العثمانية.

إلا أنه بعد قيام الحرب العالمية الأولى وانضمام الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، أعلنت بريطانيا وضع مصر تحت الحماية البريطانية وعزلت الخديوي عباس حلمي، الخديوي المُعين من العثمانيين وعينت بدلًا منه عمه حسين كامل، وبهذه الإجراءات منذ 1914 اتّحدت السلطتان الشرعية والفعلية في يد الإنجليز وصارت مصر ليست محتلة عسكريًا منهم فقط، بل وتابعة رسميًا ودوليًا لهم. وهكذا اتّحد الحكم الاستبدادي مع الاحتلال العسكري الأجنبي، وأدى ذلك بطبيعة الحال لأن يتحد نقيضا الاستبداد والاحتلال في حركةٍ ديمقراطيةٍ وطنية واحدة، ومن هنا بزغ أول شعاع من شمس ثورة 1919 في مصر.

رابعًا: مقدمات الثورة:

ما إن تشكل مؤتمر السلام الذي كان سيعقد في فرساى بفرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في أواخر 1918، حتى طلب سعد زغلول وزميليه من الجمعية التشريعية عبدالعزيز فهمي وعلي شعراوي من المعتمد البريطاني السير ريجنالد وينجت التصريح لهم بالسفر لعرض قضية استقلال مصر على المؤتمر، فما كان من المعتمد إلا أن رفض طلبهم متسائلًا عن صفتهم التي يزعمون حملها للحديث عن الشعب المصري. ومن هذه اللحظة بدأ الحراك النخبوي والشعبي لتشكيل “وفد” من سعد زغلول وعبد العزيز فهمي ومحمد محمود وأحمد لطفي السيد وعبداللطيف المكباتي ومحمد على علوبة ومصطفى النحاس وغيرهم، لتمثيل مصر في المؤتمر وعرض قضية استقلالها. وبدأت حملة شاسعة لجمع توكيلات من الشعب لهذا الوفد يكون مفاد التوكيل هو أن الموقع عليه ينيب عنه هؤلاء في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة في استقلال مصر استقلالًا تامًا.

وبدأت حركة جمع التوكيلات في الهيئات الرسمية المُجمّعة للنخب السياسية، كأعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والمجالس البلدية، واتّسعت حركة جمع التوكيلات كحركة شعبية تعم المدن والأقاليم ، وتولّد من ممارستها تنظيم مؤسسي أهلي يقوم بها وينشرها بين الأهالي، فلما فطنت السلطة البريطانية لخطورتها أصدرت قرارًا بمنع تداول التوكيلات أو التوقيع عليها. فزاد هذا من نشاط المصريين في جمع التوكيلات، واستمر هذا النشاط السياسي من 13 نوفمبر 1918 حتى 8 مارس 1919، وفي هذا اليوم أصدرت السلطة البريطانية قرارها باعتقال سعد زغلول وجماعة من زعماء الوفد ونفيهم إلى جزيرة مالطة، ونفذ القرار في ذات اليوم.

وفي 9 مارس بدأت المظاهرات الشعبية من كلية الحقوق والهندسة والزراعة بالجيزة، ثم طلبة كلية طب قصر العيني وكلية التجارة بشارع المبتديان، ثم عمت المظاهرات ميدان السيدة زينب وميدان باب الخلق، وفي 10 مارس سقط أول شهيد، وفي 11 مارس عم الإضراب وفي الأقاليم في 12 مارس بدأت حركة تقطيع قضبان السكة الحديد وأسلاك البرق والتلفون. وواجهت السلطات البريطانية كل هذا بالقوة المسلحة فسقط قرابة الألف شهيد في الفترة من 9مارس إلى 15 مايو.

خامسًا: نتائج ثورة 1919:

تمثلت نتائج ثورة 1919 في ثلاثة أمور أساسية: أولها: تصريح 28 فبراير سنة 1922 والذي يعبر عن مدى استقلال مصر، والحاصل أن بريطانيا أصدرت التصريح في محاولة منها لامتصاص الغضب الشعبي وأعلنت فيه إلغاءها إعلانها السابق بفرض الحماية على مصر في 1914 ، كما أعلنت عن سماحها بإنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة ومن ثم سمحت أيضًا بوضع دستور، تعده لجنة مختصة من المصريين. 

وثانيها: دستور 1923 والذي يعبر عن مدى الديمقراطية المتاحة، فقد توزعت فيه السلطة السياسية بين محورين؛ محور الملك وهو قمة الاستبداد، ومحور الأمة بحسبانها مصدر السلطات، فالسلطة التشريعية يتولاها مجلس النواب والشيوخ، ومجلس النواب منتخب كله ومجلس الشيوخ خُمسان من أعضائه بالتعيين من الملك وثلاثة أخماسه بالانتخاب ورئيسه معين من الملك، والسلطة التنفيذية يتولاها الملك بواسطة وزرائه، والوزارة تستمد شرعيتها من مجلس النواب المنتخب، بما يفيد أن ليست للملك سلطة منفردة مستقلة. 

وثالثها: تكون تنظيم الوفد المصري كتنظيم شعبي يعبّر عن الأمة المصرية، فقد نشأ حزب الوفد في قلب أحداث الثورة، وتشكلت قيادة وأعضاء الوفد في خضم وقائعها، فصار تنظيمًا مؤسسيًا تجسدت فيه أهدافها، وإن كنا نسميه حزبًا هنا باعتبار ما صار إليه، إلا أنه أبى أن يطلق على نفسه هذا الوصف حتى نهاية وجوده واكتفى بعنوان “الوفد المصري” .

ومن ناحية أخرى أنتجت الثورة نتائجًا أخرى هامة مفادها، نوع من توازن القوى الداخلي بين ثلاث قوى سياسية هي: سلطة الملك وسلطة الاحتلال وسلطة الأمة. كما أن الأمة لم تعد بعد ثورة 1919 هى أعيان البلاد، ولكنها صارت جماهير الشعب المصري والتي يمثلها تنظيم “الوفد المصري”. وقد كانت المشاركة السياسية هى نوع من الصراع السياسي الممتد بين هذه القوى الثلاث، ولكنه صراع يدور في الإطار الذي رسمته مؤسسات الدستور وأساليب تشكيلها وعلاقاتها، وصار دستور 1923 نوعًا من أنواع تنظيم وسائل وأساليب الصراع على السلطة بين الأطراف الثلاثة. واستمر الأمر على هذا الحال حتى ثورة 1952.

سادسًا: الثورة وحركة الاستقلال الوطني:

كل حركة استقلال وطنى لابد وأن تتحقق من ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول هو ماسبق الحديث عنه وهو جانب الاستقلال السياسي الذي يحرر الإرادة السياسية للدولة من الخضوع لإملاء أجنبي عليها. ولكن هذا الجانب لن يتحقق كاملًا إلا باستكمال جانبين آخرين؛ هما الاستقلال الاقتصادي بالمدى الذي يكفل للدولة كفَّ ضغوط الخارج عليها ويحقق لشعبها درجة من الاكتفاء الذي تكفله موارده.

والجانب الثالث والأخير والمُكمّل هو الاستقلال التشريعي والثقافي، الذي يكفل للمجتمع قوة تماسك حضاري وإدراك لذاته المتميزة ويضمن له حفظ الذات الحضارية. أما عن جانب الاستقلال الاقتصادي فقد تمثل في إنشاء طلعت حرب لبنك مصر، حيث كان البنك في ذلك الوقت هو المؤسسة الحديثة التي يمكنها أن تجمع مدخرات الأهالي برضائهم ولصالحهم وتوجهها إلى الاستثمارات الاقتصادية في جوانب ما تحتاجه الجماعة من متطلبات حياتية تستغني بها بقدر الإمكان عن الاستيراد والاحتياج من الخارج.

لقد تأسس بنك مصر في مايو 1920 باكتتابات من مصريين بلغ عددهم 126 مساهمًا وبرأس مال قدره 80 ألف جنيه، وأول ما أنشأ البنك كان مطبعة مصر عام 1922، ثم شركة مصر لحلج الأقطان عام 1924، ثم شركة مصر للنقل والملاحة عام 1925، ثم شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1925، ثم شركة مصر حلوان للغزل والنسيج عام 1927 واستمرت مشروعاته إلى الآن. والجانب الثالث والأخير كان حركة الاستقلال التشريعي، وذلك بالاعتماد والرجوع إلى الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي كمصدر للتشريع وإصدار القوانين بدلًا من المرجعية الوضعية العلمانية الغربية التي فرضت على مصر قسرًا مع الاحتلال الإنجليزي، وإن كان كان هذا الجانب قد شهد جهودًا كثيرة أبرزها جهود الفقيه عبدالرزاق السنهوري، إلا أنه لم يتحقق فيها قدرًا كبيرًا من التقدم جرّاء هيمنة حضارة الغرب وثقافته على الدول العربية والإسلامية.

خاتمة:

كانت ثورة 1919 واحدة من أهم المحطات التاريخية في تاريخ مصر المعاصر بما امتد لها من آثار حتى المرحلة التاريخية التالية والتي بدأت مع حكم جمال عبد الناصر، وبما أنتجته من عوامل جديدة غيّرت شكل المشهد السياسي المصري وشكل المعادلة السياسية، وأفضت في النهاية إلى ثورة 1952 التي كملت أهداف 1919 وحققت الجلاء التام للإنجليز بمعاهدة 1954 وألغت النظام الملكي وإن كانت ألغت أيضًا الحركة الديمقراطية التي أنتجتها ثورة 1919. لكن تبقى ثورة 19 الثورة الشعبية الخالصة نموذجًا هامًا لفهم حركة التطور في تاريخ مصر المعاصر.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الرحمن عادل

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا