ماذا أراد قاسم أمين بتحرير المرأة؟

كتاب (تحرير المرأة) وإرهاصات الحركة النسوية في مصر

تمهيد

كانت ضرورة الإصلاح في شأنِ المرأة تكادُ تكونُ المسألةَ التي شغلتْ عقل قاسم أمين كل شُغْلٍ في أطوار حياته، ولم يكنْ ممن يطمعُ في تحقيق هذا الإصلاح الذي يرجوه في وقتٍ قريبٍ، بل أراد أن يحصل بالتدريج في نفس كل واحدٍ منا شيئًا فشيئًا، حتى يسريَ من الأفراد إلى مجموع الأمة.

لقد كان يعرف عُسْرَ مسلكه؛ لذا طلبَ من المُتَعَلِّمين والمُثَقَّفِين التَّعَاوُنَ معه، وأنْ لا يستسلموا لليأسِ والقنوط، وأنْ لا يتركوا أنفسَهم لتياراتِ الحوادث تتصرَّف فيهم كما تتصرَّف في الجمادَاتِ، وتقذف بهم إلى حيث يحبون أو لا يحبون. يطلب الأستاذُ تلك المعاونة وهو يعرف أنه لا يوجد واحد من المتعلمين المصريين يشكُّ في أنَّ أمتَه في احتياج شديد إلى إصلاح شأنها.

سلطان العوائد

إن الدين الإسلاميَّ قد تحول اليوم عن أصوله الأولى[1].

لم يأتِ قاسم بما يخرق قوانين الدين أو الشرائع، ولكنه -فيما يرى- أتي بما يخرق العوائد التي هيمن سلطانُها على عقول الناس وقلوبهم، حتى فاقتْ في سلطانها سلطانَ الدين نفسِه. يقول: “سيقول قوم: إنَّ ما أنشره اليومَ بدعة؛ فأقول: نعم، أتيتُ ببدعة، ولكنها ليستْ في الإسلام، بل في العوائد”[2].

نراه يبدأ كتابه (تحرير المرأة) حربًا شعواء على من يظنُّ أنَّ العوائدَ ثابتة لا تتبدَّلُ ولا تتغير، ويتعجب ممن يظن أنها من الثبات بمكان ونحن وهذا الكون كلُّه نقع تحت حكم  التغيير والتبديل في كلِّ آن. إنَّها -في رأيه- ثمرة من ثمرات العقل الإنساني، هذا العقل الذي يختلف دائمًا باختلاف الأماكن والزمان؛ فنجد لكل أمة من الأمم عوائدها وآدابها الخاصَّة حسب حالتها العقلية التي تتغير تحت سلطانِ الإقليم والوراثة والمخالطاتِ والاختراعات العلمية والمذاهب الأدبية والعقائد الدينية والنظامات السياسية وغير ذلك.

 

ومما يُؤْسَفُ له أنَّ لهذه العوائد سلطانًا أنفذ حُكْمًا في كلِّ أمة من كلِّ سلطان، يقول: “وهي أشدُّ شئونها لصوقًا بها وأبعدها عن التغيير، ولا حولَ للأمَّة عن طاعتها إلا إذا تحوَّلَتْ نفوسُ الأمة وارتفعتْ أو انحطَّتْ عن درجتِها في العقل؛ ولهذا نرى أنها تتغلَّبُ دائمًا على غيرها من العوامل والمؤثِّرات حتى على الشرائع[3].

إعلان

لا بدَّ للعوائد إذًا أنْ تتبدل إنْ أردنا إصلاحًا حقيقيًّا لشأنِ المرأة في مجتمعنا، العوائد قبل أيِّ شيء! لذا نراه يَنْتَقِدُ الرأيَ القائلَ أنَّ تَرَقِّيَ المرأة الغربية كان بسبب الدين المسيحيِّ الذي ساعدها على نَيْلِ حُرِّيَتِها؛ لأنَّ المسيحيةَ أولًا لم تتعرَّض لوضع نظام ما يكفل حقوقَ المرأة وحريتها، وأنه ثانيًا ليس في مقدور أي دين أن يفعل ذلك! ولو كان لدين ما سلطة وتأثير على العوائد لكانتِ المرأة المسلمة اليوم في مقدمة الأرض؛ لأنَّ الشرع الإسلاميَّ كان سابقًا لكل شريعة وقانون في تقرير مساواة المرأة للرجل، وهذا من أصول الشريعة ومبادئها.

يقول: “وبالجملة، فليس في أحكام الديانة الإسلامية، ولا فيما ترمي إليه من مقاصدها، ما يمكن أن يُنْسَبَ إليه انحطاط المرأة المسلمة، بل الأمر بالعكس؛ فإنها أكسبتْها مقامًا في الهيئةِ الاجتماعيَّة. ولكن، وا أسفاه! قد تغلبتْ على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام، ودخلتْ فيه حاملةً ما كانتْ عليه من عوائد وأوهام[4].

رُقِيُّ المرأة من رُقِيِّ المُجْتَمَع

رأى قاسم أمين نوعًا من التَّلَازُمِ بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحُّشِهَا، وبين ارتقاء المرأة وتَقَدُّمِ الأمةِ ومدنيَّتِها؛ فقد كان حالُ المرأةِ في بداية الحضارة لا يختلف كثيرًا عن حال الرقيق في أي شيء. إنه إذا أردنا أن نقيس مدى مدنيَّة أمة من الأمم؛ فليس علينا غير أن ننظر في أحوال المرأة فيها والمَدَى الحُقُوقيّ الذي تَتَحرَّكُ فيه.

 

إنَّ انحطاطَ أمة من الأمم مقرون دائما بانحطاط شأنِ المرأة فيها. انظر إلى العرب قبل الإسلام وإباحتهم قتل الآباء بناتهم، وأنْ يستمتع الرجلُ بالمرأة دون قيد أو عدد أو شرط! ولا تزال سلطة الرجل الشاملة على المرأة قائمة عند قبائل إفريقيا البدائيَّة وأمريكا المُتَوَحِّشَة على سبيل المثال. هذا حال الأمم التي لم تبلغ من الرُّقِيِّ الحضاريِّ مَبْلغًا، أما في البلاد التي ارتقتْ إلى درجة عظيمة من التَّمَدُّن نرى أنَّ النساء يرتفعن شيئًا فشيئًا عن هذا الانحطاط وتلك الضعة.

الاستبداد وأثره في انحطاط المرأة

إنَّ الأمةَ المظلومةَ لا يصلحُ جَوُّهَا، ولا تنفع أرضُهَا لنُمُوِّ الفضيلة، ولا يَرْبُوا فيها إلا نباتُ الرذيلة[5].

يرى قاسم أنَّ السلطةَ غير المحدودة تغري بسوء الاستخدام ما دامتْ لا ترى لها رأيًا يناقشها أو هيئةً تراقبُها، وقد مضتِ قرون على الشعوبِ الإسلامية وهي تحت حكم الاستبداد المطلق الذي أساء فيه الحُكَّامُ التصرفَ؛ فبالغوا في اتباع أهوائهم وفرض سلطانهم بالقهر إلا من رُحِم.

وكان القانون الذي يحكمُ به هؤلاء المستبدون هو قانون القوة لا غير، حتى أصبح كلُّ قويٍّ يقهر من تحته، وهكذا نجد الناسَ منقسمين بين قاهر ومقهور، وأصبح الشخص الواقع تحت نَيْرِ الظلم يُتَوَهَّمُ أنه مُحِب للعدل ويميل إلى الشفقة، وقد يكون في الحقيقة كذلك، ولكنْ كيف له أن يُفَعِّلَ قانون العدل في مجتمع يسري فيه قانونُ القوةِ بين أفراد الناس فردًا فردًا؟!

وكان من أثر الحكومات الاستبداديَّة التي توالَتْ علينا أنَّ الرجلَ في قوته أخذ يحتقر المرأة في ضعفها؛ فاهتضم حقوقها، وأخذ يعاملها باحتقارٍ وامتهان، وداس بأَرْجُلِهِ على شخصيَّتِها، حتى أصبحتْ خاضعةً للرجل خضوعًا تامًّا، فقط لأنه رجل ولأنها امرأة، وحتى أصبح الأمر كما يقول: “له الحرية ولها الرق، له العلم ولها الجهل، له العقل ولها البَلَه، له الضياء ولها الظلمة والسجن، له الأمر والنهي ولها الطاعة والصبر، له كل شيء في الوجود وهي بعض ذلك الكلِّ الذي استولى عليه!”[6]. إن أيَّ تقدم ملموس في شأن المرأة -في رأي قاسم- ليس إلا تبعًا لتقدُّمِ الفكر في الرجال واعتدال السلطة الحاكمة عليهم.

ضرورة تَعَلُّمِ المرأة

المرأة محتاجة إلى التعليم؛ لتكون إنسانًا يعقل ويريد[7].

كانتِ الفكرةُ الأساسُ التي ينطلق منها قاسم أمين هي أنَّ الرجل والمرأة لا يتخلفان إلا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف؛ فهما متساويان في الأعضاء ووظائفها، ولا يختلفان بعد ذلك في الإحساس أو الفكر أو غير ذلك مما يقتضيه كون الإنسان إنسانًا.

إذًا، لماذا قد يفوق الرجلُ المرأةَ في القوة البدنية أو العقلية ما داما يتساويانِ هذا التساويَ؟! إنَّ السببَ وراء ذلك بسيط، وهو أنَّ اشتغال الرجلِ بالعمل والفكر أجيالًا طويلة خَوَّلَ له أن يتميَّز هذا التميُّز، ولو لم تُحْرَمِ المرأة من هذا الاشتغال لسابقتِ الرجل في هذا المضمار.

يتعجب قاسم من الناس الذين لا يزالون يتساءلون عن وجوب تعليم المرأة، بل يملؤه العجب من هؤلاء الذين يتساءلون عن جواز تعليم المرأة من حُرْمَتِه! هؤلاء الناس لا يريدون من المرأةِ أنْ تَتَعَلَّمَ إلا ما يفيدها في إدارة منزلها فحسب مِنْ خياطة وتجهيز للطعام واستخدام المكواة وما أشبه ذلك. لا ينكر قاسم أنَّ تلك المعارف مفيدة لكل امرأة، ولكنه ينكر أن تكون هذه البضاعة من المعارف فحسب هي التي تُؤَهِّلُ المرأةَ إلى إدارة منزلها!

يقول: “إنَّ المرأة في رأيي، لا يمكنها أن تدير منزلها إلا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقلية والأدبية؛ فيجب أن تتعلم كل ما ينبغي أن يتعلمه الرجلُ من التعليم الابتدائيِّ على الأقلِّ حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها باختيار ما يوافق ذوقها منها وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت”[8].

يدعو قاسم إلى أنْ تتعلم المرأة حتى المرحلة الابتدائية على الأقلِّ حتى يكون عقلها أكثر استعدادًا لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافاتِ والأباطيل التي تفتكُ بعقول النساء بسبب الجهل؛ فالمرأةَ التي تتلقى هذا القدر من التعليم إذا ما تعودتِ الفضائلَ التي تكمل بها النفسُ الإنسانية في ذاتها أمكنها ذلك أنْ تقوم بوظيفتِها الاجتماعية والعائلية على أتمِّ وجهٍ وأكمله، وهذا ما حاول إثباته في الصفحاتِ التالية من كتابه (تحرير المرأة).

وظيفة المرأة تنتهي عند عتبة باب البيت؟!

إنه لا بد لحسن حال الأمة من أن تحسن حال المرأة[9].

حاول قاسم إثبات حاجة المجتمع؛ أي مجتمع إلى النساء تمامًا كاحتياجه إلى الرجال سواء بسواء؛ ذلك لأنَّ نساء كل بلدٍ يُقدَّرُونَ بنصفِ سكانه على الأقلِّ، وبقاء النساء في الجهل وحرمانهنَّ من التعلُّم ومِنْ ثمَّ العمل حرمانٌ للمجتمع من أعمال نصفِ عدَدِ الأمة.

ويُشَبِّه المرأةَ في مجتمعاتِنا الآن بالذهب الجميل الذي لا ننتفع منه إلا بالنظر منه والاستمتاع بمنظره دون محاولة استعماله ومضاعفته. وكونُ المرأةِ في مجتمعاتنا عالة لا تعيش إلا بعمل غيرها لا يعود بالضرر على المرأة فحسب، ولكنه يعود بالضرر على المجتمع ككل.

يقول: “ولو أُخِذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهَتْ عزيمتُها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيوية، واستعملتْ مداركها وقواها العقلية والجسمية، لصارتْ نفسًا حية فعالة تنتج بقدر ما تستهلك”[10].

من لوازم تصور المرأة في مجتمعاتنا أن يكون لها وَلِيٌّ يقوم بحاجاتها ويدير شئونها مع أنَّ الوقائع المُشَاهَدَةَ تُثبتُ أن وجود هذا الولي مُتَعَذَّر في كثير من الأحوال؛ فكثير من النساء لا يجدنَ من الرجال من يعولهنَّ كالمرأة التي فقدت أقاربها ولم تتزوج، والمطلقة، والأرملة وغيرهنَّ.

وأمثال هؤلاء المذكوراتِ “يحتجْنَ إلى التعليم ليمكنهنَّ القيام بما يسد حاجاتِهنَّ وحاجات أولادهنَّ إنْ كان لهنَّ أولاد. أما تجردهن عن العلم؛ فيُلْجِئهنَّ إلى طلب الرزق بالوسائل المخالفة للآداب، أو التَّطَفُّل على بعض العائلات الكريمة”[11].

والرجل الذي يعولُ أسرتَه ويكدُّ في ذلك قد يتحمَّلُ من النفقات ما يُعْجِز كاهلَه، بل قد يجد نفسَه مُضطرًّا إلى الإنفاق على من لا تلزمه النفقة عليهم؛ كي لا يموتوا جوعًا، ولأنهم -بسبب جهلهم- غير قادرين على الكسب. وحتى لو افترضنا وجود عائل لكل امرأة على وجه البسيطة، أفلا تكون مساعدة هذا العائل ضرورة من الضروراتِ إن كان فقيرًا، أو تخفيف أعبائه المادية إن كان غنيًّا؟

وحتى وإن كانت المرأةُ غنيَّةً لا تحتاج إلى عائل يقوم على أمرها؛ فإنها لا شكَّ تحتاج إلى التعليم؛ حتى تكون قادرة على إدارة أموالها، وحتى لا تكون مضطرة إلى تسليم أموالها إلى قريب أو أجنبي يقوم عليه بدلًا عنها. يريد أن ينتهي قاسم من ذلك إلى نتيجَةِ “أنَّ التعليمَ في حد ذاته هو في كل حالٍ حاجة من حاجات الحياة الإنسانية، وهو الآن من الحاجاتِ الأولى في كل مجتمع دخلتْ فيه المدنية”[12].

انحطَّتِ المرأة إلى منازل الضعة والهوان، وليس هذا إلا بسبب ابتعادها عن مواطن الرفعة والكمال مع ما وُهِبَتْهُ من العقل الذي وُهِبَ الرجل مثله، ومع أنَّ الولوع بطلب العلم في الأنثى قد يكون أشد منه في الرجل. أيظنُّ الرجل أن الله قد وهب المرأة من العقل ما وهبها عبثًا، أو أنه آتاها من الحواسِّ وآلات الإدراك ما آتاها لأجل إهمالها؟!

مضَتْ أجيال على المرأة والرجل يعاملها كحيوان لطيف في منزله يوفيه صاحبه ما يكفيه من لوازمه تَفَضُّلًا منه على أنْ يَتَسَلَّى به؛ فخضعت لسلطانه الذي هو حكم القوة حتى آل أمرها إلى العجز عن تناوُلِ أسباب العيش بنفسها. ولأنَّ المرأة أصبحتْ محصورةً في دور تسلية الرجل وجَّهَتْ ملكاتها العقلية والحسية وجميع قواها إلى التَّفَنُّنِ في طرق استمالته إليها والاستيلاء على أهوائه وخواطر نفسِه. مضى الزمان عليها وهي على هذا الحال حتى ضعفت منها القوة العاقلة والمفكرة، وانفرد الحسُّ بالتصرف في إرادتها، وأضحى هو المميز عندها بين الخير والشر ليس إلا، ولهذا تصدر عنها الأعمال -خيرها وشرها- عن محض الهوى لا أصالة الرأي.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أدى هذا العجز إلى اضطرارها استعمال الحيلة والمكر والخداع من أجل تحصيل مآربها، وأخذتْ تعامل الرجل الذي هو سيدها وولي أمرها كما يعامل السجينُ سجانَه؛ فنمت فيها ملكة المكر بسبب ذلك، ولا لوم عليها، وعذرها أنها ليستْ حرة.

الشقاء الأسري وعلاقته بجهل المرأة

 

يستحيل تحصيل رجال ناجحين إن لم يكن لهم أمهات قادرات على أنْ يُهَيِّئْنَهُمْ للنجاح[13].

إن ارتقاء مدارك المرأة مما يساعد على كمال نظام العائلة[14].

تساوتِ النساء في الجهل عندنا مساواةً غير محبوبة، بل أصبح الأمر أنه كلما ارتفعتْ في اليُسْرِ زادَ جهلُها، وكلما كان حالُها أَهونَ كلما كانتْ أكملَ عقلًا بالنسبة إلى حالها؛ فالمرأة الفلاحة مثلًا تعرف كل ما يعرفه الرجل الفلاح.

يدافع قاسم عن فكرة أنَّ التفاوُت التعليمي الملحوظ بين الرجل والمرأة من أكبر أسباب الشقاء بينهما، وأنَّ هذا الشقاء لا يمكن أن يزول أبدًا إلا بأن تقارب المرأةُ الرجلَ في التعليم؛ فالرجل المتعلم يريد أن يجد بجانبه إنسانًا آخرَ يُقاربه في الفهم، ويستطيع أن يشرح له ما يشعر به ويتسامر معه؛ فإذا كانتِ امرأته جاهلة، لم يلبث أن يرى نفسه في عالم وحده وامرأته في عالم آخر.

يقول: “ومتى رأى الرجل امرأتَه بهذه المنزلة من الجهل بادر إلى نفسه احتقارُها، وعَدها عدمًا، لا أثر لها في شئونه، وهي متى رأتْه أهمل وأغضى ضاق صدرُها وظنَّتْ أنه يظلمها”[15]، ومن هنا تنشأ المشكلاتُ وتبتدئ عيشة يصفها قاسم بأنَّ الجحيم ليس أشدَّ نكالًا منها!

إنَّ التجاوب الشعوريَّ بين الزوجين لازم لا محالة، وهذا التجاوب لا يمكن أن يكون ما دامتِ المرأةُ ليستْ كُفْئًا للرجل في التربية والتعليم. والحب الحاصل بين الزوجين لا بد أن يتكون من عنصرين أساسين؛ أحدهما مادي، والآخر معنوي. أما الحب المادي، فهو انجذاب غريزيّ يحدث بينهما، وهو عنصر هام من عناصر الحب، يقول: “متى وُجِدَ هذا الانجذابُ بين رجل وامرأة شعرا بضرورة اقترابهما؛ فإذا تلاقيا أخذتْ كل منهما هزة الفرح”[16].

لكن هل يكون هذا الانجذاب المادي الغريزي كلّ شيء؟! لا؛ لأنَّ الانجذاب المادي لا يلبث مدة حتى يأخذ في التلاشي ويتناقص شيئًا فشيئًا، ولا يمكن للحب أن يدوم بين شريكين إلا بعنصره الثاني من الحب، وهو الشق المعنوي، أو ما يسميه قاسم المَنْظَر الروحاني العقلي، ومن هذين العنصرين يتركب الحب التام، وبهذا تستمر المحبة بين الزوجين.

لا يمكن للمرأة إشباع شريكها روحيًا وعقليًا إلا إذا نالتْ قِسطًا من التعليم يُمَكِّنُهَا من ذلك، وإذا ما انعدمتِ المحبة من طرف الزوج؛ فلا يكون ذلك إلا لأنَّ امرأته متأخرة عنه في العقل والتربية تأخُّرًا فاحشًا، وأما عدمها من طرف الزوجة؛ فلأنها غالبًا تجهل معنى الحب بعُنْصُرَيْهِ؛ فلا تستطيع أن تذوقه.

حاول قاسم التدليل على ضرورة المساوة بين الرجل والمرأة في التعليم والتربية من أجل هذا التجاوُب العقلي الروحاني، ثم حاول بعد ذلك أنْ يُوَضِّحَ ضرورة هذا التقارب في إدارة البيت نفسه؛ فالمرأة التي يُسَلَّم لها زمام البيت -في رأيه- لا يمكنها أن تديره كما ينبغي إلا بالتعليم والتربية كما أسلفنا.

يقول: “والحقيقة أنَّ إدارةَ المنزل صارتْ فَنًّا واسعًا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة؛ فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمنصرف بقدر ما يمكن من التدبير حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة”[17].

ولا يتوقف الأمر عند إدارة البيت وشئونه فحسب، بل إنَّ المرأة الجاهلة لا يمكنها بحال أنْ تُربي أولادها جسمًا وعقلًا وأدبًا تربية صحيحةً؛ لأنَّ الطفل يكسب بالوراثة استعدادًا لكل مَيْلٍ كان عند الوالدين؛ صالحًا كان أو فاسدًا، وبالتربية يمكن للولد أن يغلب خيرُه شرَّه؛ فسلامة العقل لا تتم إلا بحسن الوراثة وحسن التربية.

يقول: “وإنْ كانتِ التربية فاسدةً، [وكان] كل ما يَرِدُ على الطفلِ إنما يُثِيرُ فيه أهواء باطلة؛ فإنَّ الاستعدادَ الخبيث يقوى، والاستعداد الطيب يضمحِلّ ويموت، ويَجني على أولاده تلك الجناية التي جناها عليه والداه”[18].

هل يُفْسِدُ التعليم المرأة؟!

إنَّ البطالة التي أَلِفَتْهَا نُفُوسُ النساء عندنا، وصارت كأنها من لوازم حياتهن، هي أم الرذائل[19].

لم يكن ينادي قاسم في قضية تعليم المرأة إلا أنْ تنالَ الحد الأدنى من التعليم، وأنها لا بد أن تساوي الرجل في التعليم الابتدائي على الأقل، وأنْ يُعْتَنى بتعليمها إلى هذا الحدِّ الأدنى مثلما يُعْتَنَى بتعليم البنين.

وكل العجب من اتفاق أغلب العقول على الخوف من أنَّ التعليم قد يُفسد أخلاقها! يقول: “رسخ في أذهان الرجال أن تعليم المرأة وعفتها لا يجتمعان[20]، “واستدلوا على نقصان عقلها واستعدادها للغشِّ والحيلة؛ فلو تعلمت لم يزدها التعليم إلا براعة في الاحتيال والخدعة واسترسالًا مع الشهوة”[21].

إنَّ التعليم إذا كان مصحوبًا بتهذيب الأخلاق؛ فإنه يرفع المرأة، ويردُّ إليها مرتبتها من حيث كونها إنسانه، ويُكمل عقلها، ويسمح لها أن تتفكر وتتأمل وتتبصر في أعمالها. وطهارة القلب موجودة في الغرائز والطباع وليس لها علاقة بالعلم أو الجهل؛ فإنْ كانت المرأة صالحة زادها علمُها صلاحًا وتقوىً، وإلا فلا.

يقول: “فأثر التعليم لا يمكن أن يكون ضررًا محضًا، ولا يمكن أن يكون منشأ حقيقيًّا لضرر؛ فالمرأة المتعلمة تخشى عواقب الأمور أكثر مما تخشاه الجاهلة، ولا تُقدم بسهولة على ما يضر بحسن سمعتها، بخلاف الجاهلة؛ فإنَّ من أخلاقها الطيش والخفة”[22].

الحجاب دينيًّا واجتماعيًّا

التربية هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وكل فساد يُتَوَهَّمُ في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق[23].

لم يكن يدعو قاسم إلى أن ترفع المرأة حجابها بشكل كليٍّ؛ فالحقيقة أنه كان يدافع عن شكلٍ مُعَيَّنٍ من الحجاب ويعتبره أصلًا من أصول الأدب التي يلزم التمسُّك بها، بل كان يطالب أن يكون محدودًا بما جاء في الشريعة الإسلامية، لا كما غلبت العوائد في المغالاة والاحتياط والمبالغة فيه. لقد كان يرى أنَّ الغربيِّين قد غلوا في إباحة التكشُّف للنساء، وأنَّ الشرقيِّين غلوا في طلب التَّحجُّبِ والتَّحَرُّج من ظهور النساء، وبين هذين الطرفين وسط هو الصحيح، وهو الحجاب الشرعي الذي يدعو إليه.

يرى قاسم أنه لا يوجد نصٌّ في الشريعة يوجب التشدُّد في تحجُّب النساء على الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضتْ على المسلمين من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوها، وأخذوا بها، وبالغوا فيها. يقول: “الحجاب الموجود عندنا ليس خاصًّا بنا، ولم يستحدثه المسلمون، ولكنه كان عادة معروفًا عند كل الأمم تقريبًا، ثم تلاشت طوعًا لمقتضيات الإجماع وجريًا على سنة التقدم والترقي”[24].

وقد “أباحت [الشريعة] للمرأة أن تُظْهِرَ بعضَ أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها، غير أنَّها لم تُسَمِّ تلك المواضع. وقد قال العلماء أنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفًا في العادة وقت الخطاب. واتفق الأئمةُ على أنَّ الوجه والكفين مما شمله الاستثاءُ في الآية، ووقع الخلافُ بينهم في أعضاء أخر كالذراعَين والقدمين”[25].

وحاجة المرأة إلى كشف وجهها وكفها حاجة لازمة، ينقل قاسم عن صاحب كتاب (حسن الأسوة) قوله: “وإنما رُخِّصَ للمرأة في هذا القدر؛ لأنَّ المرأة لا تجد بُدًّا من مُزَاوَلَةِ الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والزواج، وتضطر إلى المشي في الطرقاتِ وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهنَّ”[26].

والحجاب عند بعض الناس -فوق ما ذكرناه من التشدد فيه- يعني كذلك أن تبقى المرأةُ محجوبةً في بيتها؛ فلا تخرج منه أبدًا إلا عند الضرورة. يتساءل قاسم: “كيف يمكن مع هذا للمرأة أن تتمتَّع بما شاء الله أن تتمتَّع به مما هيَّأها له بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينها وبين الرجال، إذا حظر عليها أن تقع تحت أعين الرجال إلا من كان من محارمها؟”[27]. يرى قاسم أنَّ التحجب بهذا الشكل مضاره أكثر من منافعه المرجوة؛ لأنه يمنع المرأة عن ممارسة حياتها بشكل طبيعي، ويؤدي إلى مفاسدَ عديدة كعجزها عن طلب الرزق، وتدهور حالتها العقلية، وأن تصير إنسانًا غبيًّا عديم الخبرة في الحياة وشئوونها.

أما ما يراه البعض من أنَّ عدم تحجُّب المرأة بهذا الشكل قد يقود إلى الفتنة؛ فيرى قاسم أنه لا علاقة بالفتنة وكشف الوجه وستره؛ لأنَّ الأدب في الحقيقة شيء واحد بالنسبة إلى الرجل والمرأة على حد سواء، وموضوعه الأعمال والمقاصد، لا الأشكال والملابس. يقول: “وأما خوف الفتنة… فهو أمر يتعلق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره، ولا هن مطالبات بمعرفته، وعلى من يخاف الفتنة من الرجال أن يغض بصره… عجبًا! لِمَ لَمْ تُؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟!”.

والذي قد يؤدي إلى الفتنة حقًّا ما قد يصدر عن المرأة من حركات أثناء مشيها حتى وإن كانت في كامل حجابها، بل إنها قد تأتي ما لا تجرؤ امرأة تخففت عن حجابها الإتيان به؛ لأنها تخفي شخصيتها؛ فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد. وقد يكون الساتر نفسه من الزينة التي تؤدِّي إلى الافتتان، وتحمل الناظر على اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر على حد تعبيره!

يتناول قاسم أمين الحجاب بعد ذلك تناولًا اجتماعيًّا؛ فيرى أنه عندما يطالب بتخفيف الحجاب ورده إلى أحكام الشريعة الإسلامية، فإنه لا يميل إلى تقليد غيره من الأمم الغربية، وإنما يطلب ذلك؛ لأنه يعتقد أن رد الحجاب إلى أصله الشرعي مدخل عظيم في حياتنا المعاشية؛ فقصر المرأة في بيتها يؤدي بالتدريج إلى أن تنسى ما تعلمته؛ فتتغير أخلاقها وطباعها على غير شعور منها، وفي زمن قليل لا نجد فرقًا بينها وبين أخرى لم تتعلم. وقد وضح قاسم قبل ذلك مضار جهل المرأة على الأسرة والمجتمع.

وقصر النساء في بيوتهنَّ يؤدي -كما أسلفنا- إلى حرمان المجتمع من عمل وإنتاج نصف عدد سكانه إن لم يكن أكثر، ويؤدي إلى فساد البيت وقصور في تربية الأولاد إلى غير ذلك من إفسادٍ لصحتهن ما دمن لا يخرجن من منازلهن، ويُحْرَمْنَ الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة البدنية والعقلية.

نقد قاسم أمين للمفهوم الفقهيِّ للزواج

ما دامتِ المرأة على ما هي عليه اليوم من الجهل؛ فالزواج لا يكون -كما هو الآن- إلا شكلًا من الأشكال العديدة التي يستبد بها الرجل بالمرأة[28].

يُعَرِّفُ الفقهاءُ الزواج بأنه “عقد يملك به الرجل بُضْعَ المرأة“. يرى قاسم أنَّ هذا التعريف فيه نوعُ امتهانٍ ليس للمرأة فحسب، ولكن لهذا العقد السَّامي الذي سماه القرآنُ ميثاقًا غليظًا، وأنَّ فيه مخالفة صريحة للنص القرآنيِّ القائل: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً”. وبمقارنة التعريفين؛ الفقهي والقرآني، نرى إلى أيِّ درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا.

يقول: “ما وجدتُ [في تعريف الفقهاء لعقد الزواج] كلمة واحدة تشير إلى أنَّ بين الزوج والزوجة شيئًا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية”[29]، “وقد رأيتُ في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفًا له، ولا أعلم شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه[30].

وبذلك يتحول نظام الزواج الجميل -الذي يقوم على أساسٍ من المودة والرحمة كما في المفهوم القرآني- إلى أن يكون آلة استمتاع بيد الرجل! وكل هذا بفضل علمائنا الواسع على حد تعبيره!

يقول: “إن الانجذاب الماديَّ ليس كافيًا في الزواج، بل يلزم أن يوجد أيضًا توافق بين نفوس الزوجين، أي أنه يوجد -لا أقول اتحادًا؛ لأنه مستحيل- وإنما ائتلاف بين ملكاتهما وأخلاقهما وعقولهما”[31].

تعدد الزوجات عادة مرفوضة

والتعدد يكون في الأمة غالبًا عندما تكون حال المرأة فيها منحطة، ويقل أو يزول عندما تكون حالها مرتقية[32].

يأتي تعدد الزوجات -في نظر قاسم- عادة قديمة كانت موجودة ومألوفة قبل الإسلام في كثير من الأنحاء، ووجودها كان بسبب اعتبار المرأة في مرتبة بين الإنسان والحيوان، بل يرى أنَّ التاريخ يخبرنا أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحال المرأة الاجتماعية؛ فنراها لصيقة بالأزمنة التي تُحْتَقَر فيها المرأة وتُعَامَل فيها معاملةً وضيعةً.

والتعدد احتقار للمرأة شديد؛ لأنه لا يمكن أن تجد امرأة ترضى أن تشاركها غيرُها في حب زوجها، تمامًا مثلما لا تجد رجلًا يرضَى أن يُشَارَك في حب زوجته. وهنا يلعب قاسم على وتر المساواة؛ فالرجل والمرأة ينتميان إلى النوع الإنساني الذي يتقاسم الصفات نفسها من الحب والبغض والغيرة والرضا وغير ذلك. يقول: “وهذا النوع من حب الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل[33].

والمرأة التي تحترم نفسَها تتألم إذا رأتْ زوجها يرتبط بأخرى، ولا يخلو حال المرأة التي يُعَدِّدُ عليها زوجها من أحد أمرين: الأول: إما أن تكون مخلصة في محبة زوجها؛ فتلتهب فيها نار الغيرة والحقد، والثاني: إما أن لا تكون كذلك، ولكنها مع ذلك تشعر بأنها فقدت مقامها لدى زوجها، وفي كلا الحالين لا شك أنها تتألم وتعتمل النار في صدرها وقلبها اعتمالًا.

ولا تكاد تجد امرأة يمكن أن ترضى بهذا، ويخطئ من يظن أنَّ التجارب أثبتتْ إمكانَه؛ لأنَّ رضا الزوجة التي يُعَدَّدُ عليها لا يكون إلا في حالات نادرة جدًا، ولا يجوز أن تكون مقياسًا أو دليلًا هنا، أو أن يكون هذا الرضا ناشئ عن اعتقاد المرأة كونها متاعًا للرجل يجوز له أن يتملكها كما يجوز له أن يتملك غيرها كيفما شاء!

وللتعدد مضار شتى في نظر قاسم، منها ما ينشأ بين الزوجاتِ من تباغض وتنافر ومشكلات لا حصر لها، ويزيد تلك المشكلات ما صرح به الفقهاءُ من أنه لا يجب على الرجل أنْ يعدلَ في محبته بين نسائه، ومنها ما ينشأ بين الأولاد من أمهات مختلفة من عواصف الشقاق والخصام.

يفهم قاسم آية التَّعَدُّد[34] أنه لا يمكن أن تُفهم بعيدًا عن تلك الآية التي اشترطتِ العدل بين الزوجات[35]. يقول: “ومن هذه الآياتِ يتضح أنَّ الشارع علَّقَ وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرد الخوف من عدم العدل، ثم صرَّح أنَّ العدلَ غير مستطاع”، ثم يقول بعد ذلك: “وغاية ما يستفاد من آية التحليل إنما هو حلّ تعدد الزوجات إذا أمن الجور. وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكامُ الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح؛ فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجاتِ كما هو مشاهَد في أزماننا، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد في العائلات، وتَعَدٍّ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حد يكاد يكون عامًّا، جاز للحاكم رعاية للمصلحة العامة أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بغير شرط على حسب ما يراه موافقًا لمصلحة الأمة[36].

ولكن، ألا يُعْذَرُ لرجل أن يتزوج أخرى في حالة من الحالات؟ يرى قاسم أنه قد يُعْذَرُ الرجل في ذلك في حالة الضرورة كأنْ تُصاب امرأته الأولى بمرض مزمن لا يسمح بها بأداء واجبات الزوجية على سبيل المثال، ومع ذلك يرى أن الرجل الكريم لا يقبل ذلك حتى في هذه الحالة؛ فلا يوجد رجل مُهَذَّب تطيب نفسُه بمشهد العذاب والألم الذي تقاسيه المرأة جرَّاء التعدد.

الطلاق ضرر ضروري

الطلاق قديم في العالَم[37].

جاء في حواشي ابن عابدين: “أنَّ الأصل في الطلاق الحظر”[38].

إذا نظرنا إلى تاريخ الأمم سنجد أنَّ الطلاق كان موجودًا فيها وأنه عَرَض من الأعراض الملازمة للزواج، وأنه لم يمنع إلا في الديانة المسيحية وبعد مُضِيِّ زمن من نشأتها. نعم، الزواج عقد يُرَادُ منه أن يكون مؤبَّدًا، ولكن قد تعتريه بعضُ الآفات التي تؤدي إلى إنهائه مثله مثل أي عقد آخر، وهنا يكون الطلاق حلًّا أخيرًا، ولهذا دخل الطلاقُ في جميع الشرائع الغربية تقريبًا رغم معارضات الكنيسة.

يقول: “إنَّ إباحة الطلاق بدون قيد لا تخلو من ضرر، ولكنه من المضرات التي لا يُسْتَغْنَى عنها، ويكفي لتسويغه أنَّ منافعه تزيد على مضاره؛ فإن كل نظام لا يخلو من ضرر، والكمال التام في هذه الحياة الدنيا أمر غير مستطاع”[39].

وقد جاءتِ الشريعةُ الإسلامية مبيحةً للطلاق، ولكنها وضعت أصلًا يجب الالتفات إليه دائمًا، وهو أنَّ الطلاق محظور في نفسه، مباح للضرورة، ومن الشواهد على ذلك ما جاء في الكتاب العزيز: “فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا”، وما جاء في الحديث: “أبغض الحلال عند الله الطلاق”.

ينتقد قاسم بعد ذلك مسألة بحث الألفاظ التي يقع بها الطلاق دون النظر إلى النية والقصد، ويرى أنه لا يمكنه أن يفهم الطلاق يقع بكلمة لمجرد التلفظ بها مهما كانت صريحة، نعم، لا يمكن الاستغناء عن الألفاظ، ولكنَّ أيَّ عقدٍ صحيح لو حللناه سنجد في النهاية أنه يعني تطابُق إرادتين أو إرادات حصل الاستدلال على هذا التطابق بألفاظ صدرت شفاهيًّا أو كتابيًّا.

يقول:”اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلا من جهة كونه دليلًا على النية[40]، ويُنكر لذلك كون المسألة قد صارتْ “مسألة بحث في اللفظ والتركيب [الذي] ربما [يكون] مفيدًا للغة والنحو، ولكنه لا يفيد مطلقًا في علم الفقه بشيء”[41].

ولأنَّ الطلاقَ لا يخرج عن كونه عملًا شرعيًّا يترتب عليه ضياع حقوق وإنشاء حقوق جديدة، ولأنه لا يقل عن الزواج أهميةً، يقترح قاسم أن يكون الاستشهاد شرطًا في صحة الطلاق كما هو في صحة الزواج كما جاء عند بعض الأئمة، ولأنَّ المرأةَ مساوية للرجل من حيث كونها إنسانًا؛ فإنَّه يقترح كذلك أن يكون لها الحق في تطليق نفسها متى شاءت، ومجموع المذاهب الإسلامية قد حوت من الأحكام ما يمكن الاعتماد عليه في تقرير ذلك والجري عليه.

خاتمة

ولا نجد خير من نختم به من قول قاسم أمين: “متى تهذب العقل ورق الشعور أدرك الرجل أن المرأة إنسان من نوعه لها ما له وعليها ما عليه[42]، “متى تهذب العقل ورق الشعور في الرجل عرف أن حجاب المرأة إعدام لشخصها؛ فلا تسمح له ذمته بعد ذلك أن يرتكب الجريمة توسُّلًا إلى ما يظنه راحة بال واطمئنان قلب”[43]، “متى تهذب العقل ورق الشعور في الزوج وجد من نفسه أنْ لا سبيل إلى اطمئنان قلبه في عشرة امرأة جاهلة، مهما كان الحائل بينها وبين الرجال[44].

[1] تحرير المرأة، قاسم أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 96.
[2]المصدر السابق، ص 23.
[3]المصدر السابق، ص 24.
[4]المصدر السابق، ص 26.
[5]المصدر السابق، ص 28.
[6]المصدر السابق، ص 28.
[7] المصدر السابق، ص 33.
[8] المصدر السابق بتصرف بسيط، ص 32.
[9] المصدر السابق، ص 108.
[10] المصدر السابق، ص 33.
[11] المصدر السابق، ص 34.
[12] المصدر السابق، ص 35.
[13] المصدر السابق ص 103.
[14] المصدر السابق، ص 109.
[15] المصدر السابق، ص 39.
[16] المصدر السابق، ص 40.
[17] المصدر السابق، ص 46.
[18] المصدر السابق، ص 49.
[19] المصدر السابق، ص 57
[20] المصدر السابق، ص 55.
[21] المصدر السابق ص 55.
[22] المصدر السابق، ص 56.
[23] المصدر السابق، ص 85.
[24] المصدر السابق، ص 62.
[25] المصدر السابق، ص 62.
ذكر قاسم أمين هذا الكلام اعتمادًا على ما جاء في الكتاب العزيز: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ".
[26] المصدر السابق، ص 64 : 65.
[27] المصدر السابق، ص 66.
[28] المصدر السابق، ص 114.
[29] المصدر السابق، ص 109.
[30] المصدر السابق، ص 109.
[31] المصدر السابق، ص 112.
[32] المصدر السابق، ص 117.
[33] المصدر السابق، ص 117.
[34] وهي قوله تعالى: "فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا".
[35] وهي قوله تعالى: "وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا".
[36] المصدر السابق، ص 122.
[37] المصدر السابق، ص 123.
[38] المصدر السابق، ص 126.
[39] المصدر السابق، ص 125.
[40] المصدر السابق، ص 132.
[41] المصدر السابق، ص 132.
[42] المصدر السابق، ص 89.
[43] المصدر السابق، ص 89.
[44] المصدر السابق، ص 90.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

اترك تعليقا