تعدد الزوجات: ثَلَاثُ حَالَات، وثَلَاثُ فَتَاوَى

تتمُّ أغلب الحوارات التي تدور حول تعدد الزوجات كالتالي:

س: التعدد من الشرع، وله فوائده، وله مبرراته؛ من حهةِ أنَّ شهوة الرجل أكبر من المرأة، وأنَّ وصول المرأة لسِنِّ اليأس مُبَكِّرًا عن الرجل. وهو لا يعارض العقل أو الأخلاق أو العصر، بل هو أفضل من العلاقات الجنسية المحرمة!

ص: التعدد ظالم للزوجة الأولى والثانية، والعصر يعتبره عادة متخلفة، وهو تَصَرُّف شهوانيٌّ غير أخلاقيٍّ، ويجب منعه، وسماح الإسلام بالتعدد يقدح في نظرته إلى المرأة!

يتصوَّرُ كلَُ طرف حالةً بعينها، ثمَّ يحكم عليها؛ لذلك… يتحدثُّ كلا الطرفين عن حالةٍ مُختلفة، ويدور الحوار كخطوط متوازية.

ولتحديد محلِّ الخلاف، نبحث هذه القضية عبر ثلاث حالات:

حالة (1):

إعلان

زوجة لا تُنْجِب، والزوج لا يطيق عدمَ الإنجاب، خاصَّة أنَّ بيئته تعتبر الولدَ أمرًا غاية في الأهمية. هنا الزوج أمام اختيارين:

1. إما أنْ يتنازل عن شهوةِ الأبوة ويكمل حياته مع زوجته، وهو حلٌّ للمشكلة برمتها، ويستحسنه الدين، لما فيه من شهامة، وكسبِ مشاعر الزوجة، والوقوف معها، وترسيخ لمشاعر الثقة والاطمئنان والصبر معًا.

ولا يفوتنا هنا التأكيد على أن الدين يثيب الزوج على هذا الموقف؛ فالدين يثيب على كلِّ فعل حسن، حتى لو لم ينصّ عليه نصٌ شرعي، لقول النبي: “وفي بضع أحدكم (علاقته الجنسية) صدقة، تعدل بين اثنين صدقة، وتُعِين الرجل في دابَّتِه صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة”(1).

2. أو يُطلِّق زوجته، ثم يتزوج غيرَها، وهو تصرُّف لا يستحسنه الشرع، لكن لا يستطيع منعَه! لكنَّه يستطيع فتح باب ثالث: أن يتزوج من زوجة أخرى، وتظل الأسرة قائمة.

وهو اقتراح يتَّسِق تمامًا مع فلسفة هذا الدِّين، الذي يُقدِّس الأسرة، ويتحايل بأيِّ وسيلة يجدها؛ ليحافظ على هذا الكيان العظيم؛ فنجد اهتمام القرآن البالغ بقضية الطلاق، فيأمر بالشورى، ويستعطف الزوجين، ويقترح تدخل الحكماء، ويحرِّم الطلاق وقت الحيض، ويحرِّم الزواج مرة أخرى قبل انتهاء العدة؛ لعل الطرفينِ يُقَرِّرَانِ العَوْدة. ويعلن النبي بوضوح أنَّ الله يكره هذا الحلال: “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”؛ لذلك فور أن وجد الإسلام في التعدد حلًا أخيرًا يمنع انهيار الأسرة، أباحَه، ولم يمنعْه.

إذن… فالإسلام يرتب الاختيارات أمام الزوج على الترتيب: الصبر مع الزوجة، ثم التعدد، ثم الطلاق.

وشبيه بهذه الحالة: إِنِ اجتاحتْ حربٌ بلدًا، فأبادتْ عددًا كبيرًا من رجالها، وخلَّفت وراءها عددًا من الأرامل والأيتام بلا معيل، عندئذ يكون التعدد حلًا لمشكلة.

يقول إبراهيم الخليفة: “نزلتْ آيةُ التعدد عقب غزوة أحد التي استُشهِد فيها الكثيرُ من المسلمين، وخلفوا أرامل وأيتامًا لا يجدون من يعولهم في معظم الأحيان. وبدلًا من ترك أولئك اليتامى (أبناء الشهداء) للصدقات، التي قد تأتي وقد لا تأتي، وقد تفي بالحاجة وقد لا تفي، فتح الله للمسلمين بابًا يستطيعون من خلاله كفالة أبناء الشهداء (اليتامى) من دون منة أو أذى”(2).

ويقول محمد عبده: “لا يُعذر رجل يتزوج أكثر من امرأة، اللهم إلا في حالة الضرورة المطلقة، كأنْ أُصيبتْ امرأته الأولى بمرض لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية. أقول ذلك ولا أحب أن يتزوج الرجل بامرأة أخرى حتى في هذه الحالة وأمثالها، حيث لا ذنب للمرأة فيها، والمروءة تقضي أن يتحمل ما تُصاب به امرأتُه من العلل.

وكذلك توجد حالة تُسَوِّغ للرجل أن يتزوج بثانية، مع المحافظة على الأولى إذا رضيتْ، أو تسريحها إن شاءتْ، وهي إذا كانت عاقرًا لا تلد؛ لأن كثيرًا من الرجال لا يتحملون أن ينقطع النسلُ في عائلتهم.

أما في غير هذه الأحوال، فلا أرى تعدد الزوجات إلا حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية”(3).

إذن… تعدد الزوجات مباح عند الضرورة، بل في الأصل قد أُبيح لهذه الحالات تحديدًا.

***

حالة (2):

زوج وزوجة في وضع عادي؛ فيقرِّرُ الزوجُ التعددَ؛ لإحياء سنة النبي، ولتطبيق الشرع، ويرى أن الشرع رغَّب في التعدد!

إنَّ تعدد الزوجات حكمه مباح، لكنَّ مفهومَ الإباحةِ عند العامة اتَّخذ شكلًا غير المقصود؛ إذ يعتبرون إباحة الإسلام للتعدد، كأنه دعى إليه وتبنَّاه وشجَّعَ عليه، غير أن الإباحة لا تعني ذلك؛ فالسفر مباح، وأكل الشيكولاته مباح، هل في ذلك تشجيع عليها وتبنٍّ لها؟!

الإسلام -وإن أباح التعدد- فإنه لم يحث عليه في الحالات العادية، بل يطرحه كحلٍّ لمشكلة، ومما يشير إلى ذلك:

– لم يبتدع الإسلامُ التعددَ، بل كان عادة مترسخة بين العرب والفرس واليهود، وما أضافه الإسلامُ أنه وضع حدًا لهذا التعدد، ولم يسمح بأكثر من أربع زوجات، وبالتالي فالإسلام اتَّجَه إلى تقليل عدد الزوجات، لا التكثير.

يقول (جوستاف لوبون):

إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصاً بالإسلام، فقد عرفه اليهودُ والفرسُ والعربُ وغيرُهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم ترَ الأممُ التي اعتنقتِ الإسلام غُنماً جديداً إذن، ولا نعتقد مع ذلك وجود ديانة قوية تستطيع أن تحوِّل الطبائع؛ فتبتدع أو تمنع مثل هذا المبدأ الذي هو وليد جو الشرقيين وعروقهم وطرق حياتهم(4).

– لم يجعل اللهُ لآدم حفنةً من الزوجات؛ لأن شهوة الرجل أكثر! وإنما هي زوجة واحدة، مما يعني أن الأصل في الزواج هو الفردية.

– طبيعة الزواج وعموده قائم على الخصوصية، وهو ما يعبر عنه القرآن بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ)، وهو ما يتنافى مع التعدد.

– لا نجد حديثًا واحدًا للنبي يأمر، أو يحرض، أو يرغِّب، أو يَعِدُ بالثواب في التعدد.

– لم يرتضِ النبيُّ نفسُه التعددَ لابنته فاطمة، ورفض أن يتزوج عليٌّ امرأةً مع فاطمة.

– لم يبح القرآن التعدد دائمًا، بل اشترط العدل، ثم أشار إلى صعوبة تحقيقه؛ فقال: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).

ولا نقول: إن الإسلام علَّق إباحة التعدد على العدل، ثم قال أنَّ العدل لا يمكن أن يتحقق، إذن فالإسلام حرَّم التعدد!

بل نقول: إن الإسلام اشترطَ العدل، ثم لفت الأنظار إلى أنَّ العدل الكامل أمرٌ صعب ولا يتحقق؛ لذا فليحذر الرجالُ، وليتوقفوا، وليتدبروا، وليتراجعوا؛ فلا يقدمون على التعدد استخفافًا وتهاونًا وتساهلًا، بل لا يلجون هذا الباب إلا مضطرين، مجبرين، حلًا لمشكلة أكبر.

بل يُنَفِّرُ القرآنُ الناسَ من هذا الباب بالكلية: فيقول صراحة ووضوحًا ومباشرةً: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).

وإن كنا لابد مضطرين إلى هذا الباب، وإن كان العدل الكامل لا يتحقق، فلا أقل من الحفاظ على الحدود الدنيا للعدل؛ (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ).

هل بعد كل هذا التحذير والتنفير والتشديد، نقول أن الشرع يشجع التعدد ويحرض عليه، والتعدد أفضل؟!

يقول علي شريعتي: “إن التمعُّن والتأمل الدقيق في الآيات المتعرضة لمقولة (تعدد الزوجات) يوضح لنا فلسفة التعدد وشروطه الموضوعية. فالقرآن يلزم الرجل أولًا بمراعاة العدل بين النساء، ولا يلبث أن يعترف بأن ذلك غير ممكن: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ).

إن هذا البيان الفني البديع لا يدع مجالًا للعارف بمبادئ اللغة وروح القرآن وفنون التفسير وغير المغتر بأحدوثة (تعدد الزوجات)، لأن يفكر بشيء سوى الإقرار بأن هذه الشروط التعجيزية والثغرات الضيقة جدًا لا يمكن أن يمرق منها إلا حالات نادرة، وبظروف استثنائية جدًا، وفي موارد فردية واجتماعية لا يسع الإنسان العاقل إلا القبول بمبدأ تعدد الزوجات فيها، مراعاة للضرورة الروحية أو الأخلاقية. ويمكن استشعار الموارد الفردية للقضية من النص القرآني نفسه، حيث جاء هذا الحكم في سياق الكلام عن أحكام اليتامى”(5).

ويقول العقاد: “إن الإسلام لم يمنع الاكتفاء بزوجة واحدة بل استحسنه وحض عليه، ولم يوجب تعدد الزوجات بل أنكره وحذر منه، ولكنه شُرِّع لأزواج يعيشون على الأرض ولم يُشرع لأزواج تعيش في السماء. ولا مناص في كل تشريع من النظر إلى جميع العوارض والتقدير لجميع الاحتمالات، وفي هذه الاحتمالات ولا ريب ما يجعل إباحة التعدد خيرًا وأسلم من تحريمه بغير تفرقة بين ظروف المجتمع المختلفة”(6).

ويقول عبد المتعال الصعيدي: “تعدد الزوجات مباح غير مرغوب فيه”(7).

وأفتى كثير من الحنابلة بكراهة التعدد إن لم تدفع إليه ضرورة، مثل ابن قدامة(8)، والنووي(9)، والكلوذاني(10)، وابن مفلح، وابن رزين(11)، والناظم، وابن خطيب السلامية، وابن الجوزي(12).

وأفتى بعض الشافعية أيضًا بكراهة التعدد عند عدم وجود ضرورة، مثل الشربيني، والإسنوي، والرافعي(13).

إذن… في الحالات العادية، التعدد غير مرغوب فيه.

***

حالة (3):

زوج وزوجة عانوا معًا في الفقر، وتعاونَا معًا لجمع المال، وبعد أن تحسن وضعهما المادي، وكبر الأولاد، وحان وقت رد الجميل والتمتع بالمال معًا، قرر الزوج أن يتزوج امرأة أصغر منه سنًا لتسعده، ثم يرمي الزوجة الأولى تتحسر حالها وحدها!

كذلك نجد من يسافر ويعمل في دولة أجنبية – رغم توفر فرص عمل له في بلده – ويتزوج أجنبية ويترك زوجته وأولاده، كأنه مات، وقد يرمي إليهم ببعض المال، أو يزورهم أسبوعًا كل عام!

هذه الحالة يحكم العقل بأنه تصرف ظالم، وغادر، وبخس لحقوق الزوجة الأولى.

هل يرتضي الشرع هذه الحالة؟

قولًا واحدًا فاصلًا: هذا التصرف يحرِّمه الشرع.

ودليل ذلك باختصار: لما كان هذا الفعل ضارًا فهو محرم عند الله.

وأدلة ذلك تفصيلًا:

1. الضرر يُزال:

من ملاحظة مئات الأحكام الشرعية تبين أن الشرع متى وجد ضررًا، حكم تلقائيًا بتحريم سبب الضرر. ومن هنا وضع الفقهاء قاعدة: الضرر يُزال.

وهي قاعدة تتخلل أحكام الشرع جميعًا، بل مقدمة عليها، لأن دفع الضرر مقدمٌ على جلب المصلحة. مثلًا صيام رمضان فرض، لكن متى كان الصيامُ مضرًا للمريض، يحل له الإفطار، ومتى كان مضرًا للصالح العام، كصيام الجنود، يحل الفطر للجنود، وكذلك كل العبادات تتعطل متى نتج عنها ضرر.

هذا في العبادات المفروضة، فما بالك في المباحات؟

وكم اتخذ الفقهاء أحكامًا لا تستند إلا على هذه القاعدة، مثلًا… أفتى المجلس الأوروبي للإفتاء بحرمة زواج المصلحة الذي يستهدف به الزوج أخذ تصريح إقامة. فرغم أن أركان الزواج ظاهريًا متوفرة، إلا أنهم أفتوا بحرمته لأنه يضر بمفهوم الأسرة(14).

كذلك اتفق الفقهاء على تحريم التخبيب؛ والتخبيب هو إفساد العلاقة بين الزوجين حتى الطلاق، ثم يتزوج المُخَبِّبُ المطلَّقة. فرغم أن هذا الزواج ظاهريًا مكتمل الأركان، إلا أنه أجمع الفقهاء على تحريمه بسبب الضرر الواقع على الأسرة. حتى أن المالكية لم يكتفوا بتحريمه، بل أفتوا ببطلانه؛ أي أنه ليس زواجًا أصلًا، بل هو زنا!

والصحابة أسقطوا الطلاق على فرش الموت؛ فإنْ طلَّق زوجٌ زوجتَه وهو في مرض الموت حتى لا ترثه؛ فهذا الطلاق صحيح من الناحية الظاهرية، ويلزم عنه ألا ترثه فعلًا، غير أنه مضر للزوجة، فمنع الصحابة وقوعَه وألغوه.

ومن الأمثلة الحياتية نجد من يسافر لمجرد التنزُّه، ويترك أمه المريضة بلا عائل، فرغم أن السفر والتنزه في الأصل مباحان، لكن في هذه الحالة أصبح حرامًا، لأنه تسبب في ضرر.

كذلك فإن كان تعدد الزوجات، في هذه الحالة، مضر للزوجة الأولى، أو الثانية، أو الأطفال، فهو محرم لضرره.

ويقول النبي: “كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيِّع من يعول”(15).

يقول محمد عبده: “غاية ما يستفاد من آية التحليل إنما هو: حل تعدد الزوجات إذا أمن الجور، وهذا الحلال كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما، بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح. فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو مشاهد، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد في العائلات وتعد للحدود الشرعية، وشيوع ذلك إلى حد يكون عامًا، جاز للحاكم – رعايةً للمصلحة – أن يمنع تعدد الزوجات”(16).

2. يجوز تقييد المباح:

تعدد الزوجات ليس فرضًا دينيًا، ولا حتى مندوبًا، بل هو مباح، وبإجماع الأمة يجوز تقييدُ المباح؛ للمصلحة.

وهو ما نجده في حظر التجوال، أو حظر السفر إلى دول محددة، أو حظر الجهات القضائية والعسكرية من الترشح للرئاسة، ووجدنا القضاء الإداري يسقط الجنسية المصرية للزواج من إسرائيلية(17). فكل هذه مباحات، إلا أن السلطة حين ترى مصلحةً في منعها، تمنعها بعض الأوقات.

كذلك لو رأت السلطة التشريعية ضررًا من تعدد الزوجات، أو الزواج بأجنبية، أو الزواج من إسرائيلية، أو إنجاب أكثر من ثلاثة، يجوز لها تقييد هذه المباحات لوقت ما، أو إعطاء القضاء سلطة تقييد هذه المباحات لبعض الحالات على حدة.

يقول عبد المتعال الصعيدي: “إن الإسلام قد أعطى تعدد الزوجات حكم الإباحة ليتصرف المسلمون فيه في كل زمان ومكان بحسب المصلحة، فيأخذون به إذا اقتضت المصلحة أن يأخذوا به، ويكفوا عنه إذا اقتضت مصلحتهم أن يكفوا عنه، ويكون بهذا حكمًا صالحًا لكل زمان ومكان”(18).

ولما كان التعدد في هذه الحالة مضرًا للزوجة الأولى، يجوز للقضاء تقييده.

3. المقاصد:

لكل حكم شرعي مقصد وعلة، ماذا لو قلت لك: سأتَّبع ظاهر النص، وليستْ لي علاقة بالمقاصد والعلل، هل تستطيع تحريم عملي؟ سأتزوج امرأة طمعًا في مالها، وأتزوج امرأة فقط لممارسة الجنس ثم أطلقها، ثم أتزوج غيرها، هل تستطيع تحريم هذا الزواج رغم أنه مطابق للشروط؟ سأوزع مالي قبل أن يمر عليه عام، ثم أجمعه، هل تستطيع أن توجب علي زكاةً؟

فرَّق الفقهاءُ بين صحة الفعل وحكمه؛ فقد يكون الفعل صحيحًا، لموافقته للشروط والنصوص، لكنه محرم، لمخالفته مقصد الشرع، مثلما يسرق أحد أرضًا ويصلي عليها؛ فالصلاة صحيحة، لتوفر أركانها، لكن محرمة.

ويطلق الفقهاء على هذه الحالات: الحِيَل الشرعية، أي يوافق المكلَّف الشروط والأسباب بغرض أن يحل حرامًا أو يحرم حلالًا، مثلًا… لو دخل وقت الصلاة عليه؛ فتعمد السفر، فقط ليقصر في الصلاة! أو جاءه شهر رمضان؛ فسافر فقط ليفطر! أو كان له مال يقدر على الحج به؛ فوهبه أو أتلفه، كي لا يجب عليه الحج!

فعن هؤلاء يقول الشاطبي: “هو تحيل على قلب الأحكام الثابتة شرعًا إلى أحكام أخر، بفعل صحيح الظاهر لغوٍ في الباطن .. فالحيل في الدين بالمعنى المذكور غير مشروعة في الجملة. والدليل على ذلك ما لا ينحصر من الكتاب والسنة”(19).

ومن هذه الأدلة:

طبق المُحَلِّلُ نص الآية: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، إلا أن النبي قال عنه: “لعن اللَّه المحلِّل والمحلَّل له”؛ لأنه خالف المقصد.

– وأصحاب السبت الذين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت، لكن تحايلوا على الحكم، فنصبوا شباكهم السبت، واصطادوا بعد السبت. ظاهريًا لم يخالفوا ظاهر النص، لكنهم خالفوا مقصده وتحايلوا عليه، فلعنهم الله؛ لتحايلهم.

– والذي يُرجِع امرأته بعد الطلاق فقط لمضارتها، هو فعل يستغل الإباحة الشرعية، إلا أنه محرم، لأنه استخدم رخصة لمقصد قبيح غير مقصد الشارع، وفي ذلك نزل قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)؛ فوصف سبحانه من يستخدم حكمًا شرعيًا لتحقيق غاية دنيئة بأنه (يتخذ آيات الله هزوًا).

وأُمُّ الأدلة قولُ النبي: “إنما الأعمال بالنيات”.

– ويلخص الشاطبي القضيةَ بقوله الحاسم: “كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غيرَ ما شُرِّعت له، فقد ناقض الشريعة. وكل من ناقضها؛ فعمله في المناقضة باطل. فمن ابتغى في التكاليف ما لم تُشرع له، فعمله باطل”(20).

واعتمادً على هذا التأسيس يمكننا القول بثقة ويقين أن التعدد المضر للزوجة الأولى، أو الثانية، أو الأطفال، هو تحايل على الشرع لتحقيق الأذى، صحيح هو زواج صحيح وليس زنا، لكنه محرم لضرره.

***

إذن… بوضوحٍ تام: إنْ كان تعدد الزوجات سينتج عنه ضرر، فالإسلام يحرِّمه، مثلما يحرِّم كلَّ ضرر.

وفي الحالات العادية، لا يحرِّض على التعدد.

وعند الضروره، جعله مباحًا حَلًا لمشكلة.

نرشح لك: دعوى ذكوريّة الفقهاء، هل الفقه صناعةٌ ذكوريَّة؟

المصادر:

1. (صحيح البخاري)، ص 737، رقم (2989).
2. (تجديد فهم الوحي)، ص 404.
3. (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده – في الكتابات الاجتماعية)، ص85.
4. (حضـارة العرب)، ص 397.
5. (معرفة الإسلام)، ص 362.
6. (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، ص 185.
7. مقالة: (نعم نملك تحريم تعدد الزوجات)، مجلة الرسالة – العدد 770.
8. (الشرح الكبير)، ج 7 ص339.
9. (العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير)، ج 7، ص 468.
10. (الهداية على مذهب الإمام أحمد)، ص 381.
11. (الفروع)، ج 8،  ص 181.
12. (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)، ج 8، ص 16.
13. (مغني المحتاج)، ج 4، ص 278.
14. 
15. (المستدرك على الصحيحين)، ج 4، ص 545، رقم (8526).
16. (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده – في الكتابات الاجتماعية)، ص86.
17. 
18. مقالة: (نعم نملك تحريم تعدد الزوجات)، مجلة الرسالة – العدد 770.
19. (الموافقات)، ج 3 ص 107.
20. (الموافقات)، ج 3، ص 27,

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

تدقيق لغوي: عبدالعاطي طُلْبَة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا