كل الحيوانات متساوية: الأدب و المستقبل بعيون الجائحة

كانت للناس ذات يوم نظرة تفاؤلية نحو الآتي لدرجة أنهم كتبوا أدب اليوتوبيا، كتبوا عن عالمٍ تختفي فيه الشرور وتعمُّ السعادة على الجميع ڪ” الجمهورية” لأفلاطون. لا يعني هذا أنَّ الأقدمين كانوا ذوي نظرةٍ مثالية أو أنهم كانوا لا يواجهون المرارة في حياتهم، بل ربما كانت نظرة التفاؤل منبعثة من تيقنهم أنهم يتمكنون قليلاً فقليلاً من السيطرة على المجاهيل في عالمهم. لكن هذه النظرة المثالية خبت، انطفأَت وانقلبت الآية، حتى أن سيطرةَ الإنسان على العالم باتت منبعَ الشؤم والخوف.
ما الذي يخيفنا في المستقبل؟ -خاصة حين نراه بعيون الحروب الكبرى أو الجائحات والأوبئة الكونية- ما الذي نخشاه كأناس عاديِّين لا مصالح كبرى لنا لتهتز ولا سياسات نخشى انكساراتها؟ الإجابة عن مثل هذا السؤال ستكشفه لنا فنون الخيال من سينما وآداب وغيرها؛ حيث أن الرؤية المرتكزة على الواقع تعطينا صورة متخيلة -وفي بعض الأحيان صادقة- عما سنكونه في المستقبل كما الحال في أدب الديستوبيا (نقيض اليوتوبيا) وأدب نهاية العالم (الأبوكاليبس).

تستند الروايات الديستوبية التي تستشرف المستقبل في انطلاقتها على ظواهر من الحاضر تنبئ بوادرُها بمستقبلٍ عاتم، ويرافق هذا عادةً رفاهية أو تقدماً تقنيّاً أو تغيراً سياسيّاً أو جائحة معينة. وقد بدأ الازدهار الفعلي لأدب الديستوبيا مع الثورة الصناعية حين وجد الإنسان نفسه ينتقل بواسطة الآلة إلى نمط عيش لم يألفه، ويُذكر أن آلفرد دو ڤيني -الكاتب الفرنسي المعروف المولود في نهاية القرن الثامن عشر- قد استنكر اختراع القطار لأنه رأى في العجلة التي يستوجبها نقيضاً للإنسانية التي تعيش وتزدهر في البطء والتأمل لا في العجلة والسرعة. وكان القطار عنصراً فعالاً في بدء الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ولم تتوقف منذئذ العجلة وتزايدت المخاوف من الآلة نتيجة التغيرات الفعلية التي أحدثتها في بنى المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مثل ظهور طبقات اجتماعية مرفَّهة وأخرى مسحوقة. ومع كل تقدم صناعي وتكنولوجي تزدادُ الصورة قتامةً في الأدب، حتى أن النوع الأدبي المسمى أدب نهاية العالم -إلى جانب الفلسفات والأفكار العدمية- قد ازدهر فعلياً بعد الحرب العالمية الثانية مرتبطاً بالمخاوف من الأسلحة النووية.

وقد سمعنا مؤخراً عن التداعيات العقلانية واللاعقلانية للمجتمع المجنون القادم بعد موجة كوفيد-19 من تحكُّمٍ تقنيٍّ بالأفراد على مستوى عالمي غير مسبوق، بحيث يمكن لكل هذا التنبؤات أن تكونَ أرضيةً لسرود وأخيلة غير منتهية في الأدب العالمي. كل هذه التغيرات انطلاقاً من بداية الثورة الصناعية كانت مصدر خوفٍ عظيم في البداية ثم ما لبث الإنسان أن اعتاد التغيرَ وألِفهُ حتى صارت التغيرات التي رفضها البارحةَ ضرورةً حياتيةً لا بديل عنها اليوم، لكن لا يعني هذا أن الخوفَ من المجهول القادم لم يتنامَ يوماً بعد يوم ليُمسك بخناق الوجود الإنساني ويصبح مصدر تهديدٍ على كافة الأصعدة.

نعود لسؤال الخوف ونسأل مجدداً: ما الذي يخيفنا حقاً؟

إن الآداب المستشرفة للمستقبل تحذِّرنا من نظم سياسية شمولية بأن تُصوِّر لنا مستقبلاً مفزعاً يدور حول محور أساسي وهو سيطرة اللون الواحد وفقدان الخصوصية والتحول من “أنا” متمايزة ﻟ”نحن” لا نهائية.
فالخوف يكمن في إخضاع الجانب الإنساني للإنسان وفي افتقاده لفردانيته وعواطفه ومشاعره نتيجة تشييئه في آلة التقدم التي لا تتوقف. أما الرؤى التي تصدِّرها هذه الروايات بشقيْها العلمي والسياسي فلها قدر كبير من الجانب الأخلاقي؛ كونه هو الذي ينقذ إنسانيتنا في نهاية المطاف، فرسالة مثل هذه الآداب هي رسالة تحذيرية تلفت النظر إلى سياساتِنا عبر وضع أخلاقياتِنا على المحك.

هذا الخوف الذي برز في أدب المناهضين للأنظمة الشمولية كما في رواية “ترتيلة” للفيلسوفة والكاتبة الروسية الأمريكية آين راند يزداد حدةً اليوم كما في تنبؤاتِ مَن يسميهم ديفيد آيك المنظِّر المعروف لنظرية المؤامرة بـ”النخبة العالمية” في كتابه “المعرفة تحررك“. تلك النخبة التي تسعى للسيطرة على العالم من خلال أذرعها الطويلة لخلق نظام عالمي واحد بجيش عالمي واحد وبنك مركزي واحد يحكمه ثلة من الأشخاص.
في رواية “ترتيلة” الشبيهة بقطعة شعرية طويلة تنتقد راند جانب إرغام الفرد على التماهي مع الجماعة، وترمز الكاتبة لهذا التماهي المقيت من خلال اختيار صيغة “نحن” كضمير المتكلم للراوي الفرد.

إعلان

من منطلق الجماعة يخاطب الراوي -الذي يدعى (مساواة 2521-7)- نفسه كما الآخرين بصيغة جمعية في بلدٍ شعاره الأسمى هو «نحن لا شيء، الجماعة هي كل شيء». في هذا البلد المستقبلي البدائي الواقع في زمنٍ أُبيدت فيه البشرية يقتضي العيش رفض “الأنا” بكل أشكالها وحاجياتها، من مِثل رفض الحب لأنه يعني تفضيل شخصٍ على آخر، ورفض العلوم والاختراعات التي يقدمها أحد العلماء لأنها تعني أن أفكار الواحد يمكن أن تسموَ على أفكار الجماعة، وبنفس الطريقة يُرفَض الاختيار في العمل والمأكل والملبس والمبيت لأن كلَّها خياراتٌ فردية. تتضمن هذه الاستماتة في هدف “أنا” جماعية أو “نحن” مسحاً للخصوصية؛ فـ”نحن” لا تشمل أيّاً من سمات التآلف والتعاضد هنا، بل هي نوع من الجبرية التي تهدف لخطف اللون والتميز والروح من الأفراد: «رؤوس إخوتنا مطرقة، أعين إخوتنا غائرة، وهم لاينظرون إلى أعين الآخرين قط، أكتاف إخوتنا محنية، عضلاتهم مشدودة، كأن أجسادهم تتصاغر وهم يودون لو تتصاغر حتى تختفي عن الأنظار، تسللت كلمة إلى عقلنا ونحن نتأملهم، هذه الكلمة هي الخوف.»

قد يتعرف معظمنا على نموذج هذه الدولة بقدر أو بآخر لأننا حُكمنا من قبل أنظمة شمولية شبيهة، تلك التي تلغي تحت مسمى الجماعة الواحدة أو الإيثار أو الأخوة فردانيةَ الفرد بغير حق. في روايتها رفضت راند مثل هذه الأخوة الفاسدة، ومنطلق راند هنا هو فلسفتها الموضوعية التي تنادي بالفردانية والعقلانية والمنطق والمشيئة الحرة.

في رواية أخرى بعنوان “نحن” للكاتب الروسي يفيغني زامياتين (نيويورك 1924) تتجسد الفكرة كما يشير العنوان إلى عالمٍ مستقبليٍّ فيه الأنا مُستَبدلة عملياً بـ”نحن”، حيث أن أفراد هذه الدولة والذين يشكلون اثنين بالمائة من سكان الكرة الأرضية قد قاموا بعد حرب المائتي عام العظيمة ببناء عالمهم المغلق والشفاف في آنٍ واحد على أنقاض الماضي البشري الذي يوسمه الراوي بأنه ماضٍ بدائي ومتوحش. رواية زامياتين الديستوبية كما “ترتيلة” آين راند تنتقد الأنظمة الشمولية، وقد أثرت في الكثير من الروايات الديستوبية التي نعرفها مثل رواية 1984 لجورج أورويل.

في رواية زامياتين على عكس رواية “ترتيلة” تكون الرواية بلسان أحد الأفراد المؤيدين والمنصهرين في مجتمع الجماعة وهو المهندس باني “التكامل” المركبة التي ستُطلق للعالم الخارجي لنشر نموذج دولة الشفافية في أصقاع الأرض. تبدأ الرواية بالكثير من الانتقادات الموجهة لعالمنا البشري الذي يعد مقارنة بعالم الدولة الشفافة التي ينتمي لها الراوي عالماً بائساً كئيباً ممتلئاً بالجريمة والأخطاء، حيث البيوت المقسَّمة بجدران عازلة هي السبب في الكآبة والنفسية الانعزالية للبشر على حدِّ قول الراوي. في الدولة المستقبلية لرواية “نحن” التي شُيِّدت من الزجاج بحيث يتمكن الجميع من رؤية الجميع ليس هناك أفراد، فالكل يفكر كما البقية: «لا أحد هنا “واحد فرد” بل “واحد من”؛ فنحن كلنا متشابهون، كلنا واحد»، وعليه فلا خصوصية ولا فردانية ولا عوازل بين الأنوات. وللأفراد كما في رواية “ترتيلة” أرقامٌ يُعرفون بها بدل أسماء علمٍ تميزهم، ولهم أوقات محددة من قبل السلطة للعمل والاستراحة والتنزه وممارسة الحب والنوم. ويرى الراوي أن شكلَ دولة الشفافية هذه هي الشكل الأسمى في تاريخ البشرية لأنها الأكثر استقراراً، ذلك أن التاريخَ البشريَّ في منظوره أثبت أنه تاريخ انتقال من أشكال الترحال إلى أشكال أكثر إستقراراً؛ فيقول:

«عادة الاستقرار هذه لم تأتِ من دون تعب، كما أنها لم تأت في لحظة واحدة، ذلك أنه حين تخربت الطرق كلها في أثناء حرب المائتي عام وعلاها العشب، لا بد من أنه بدا للناس في الفترة الأولى آنذاك أنه من المشقة عليهم العيش في مدنٍ الواحدة فيها معزولة عن الأخرى بمجاهلَ خضر، لكن ما الغريب في هذا؟ فبعد أن سقط ذَنَب الإنسان، لابد من أنه لم يتعلم فوراً طرد الذباب من دون ذنب، ولا بد من أنه عانى وكابد في الفترة الأولى وهو من دون ذنب، لكن الآن، هل تستطيعون أن تتصوروا أنفسكم بأذناب؟ أو هل تستطيعون تصور أنفسكم في الشارع عراة من دون جاكتة؟… والأمرنفسه هنا: لا أستطيع تصور مدينة لا تتمنطق بالسور الأخضر، ولا أستطيع تصور حياة لا تتشح بملابس اللوح الرقمية.»

رسائل راوي دولة الشفافية تفيد بسمو هذا النموذج فوق الإنساني؛ حيث أن كلَّ المعاييرِ المُمجَّدة في عالمنا منبوذةٌ في مجتمع الشفافية. فالحرية التي نرنو إليها جميعاً هي بالنسبة له معادِلةٌ للجريمة، فإذا كانت حرية الإنسان صفراً فهذا يعني أن معدل الجريمة هو صفر، وعليه فـ«الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الإنسان من الجريمة هي في إنقاذه من الحرية» على حد تعبير الراوي. وعالمٌ بلا حرية هو العالم النمطي لعوالم المستقبل كما في دستوبيا “عالم جديد شجاع” لإلدوس هكسلي حيث النظام المطلق والآلي وافر العملية ومعدوم الحرية. وبالتساوي فإن المساواةَ والشعاراتِ الرنانة كالتكافل والتآلف والتضامن وروح الجماعة هي الوحيدة المتداولة في الروايتين، وكلنا نعرف ما تعني المساواة حين تنطقها الأنظمة الشمولية الماضية أو المستقبلية المحتملة. ولعل قول جورج أورويل في روايته “مزرعة الحيوان” هي أفصح ما يمكن أن يُقال عن تناقض مفهوم المساواة أو غيرها من الشعارات الثقيلة والفارغة في نفس الوقت: «جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضَها أكثرُ مساواةً من غيرها.»

يبقى سؤال الخوف هو السؤال المُلحُّ في أيِّ رؤية مستقبلية للكائن البشري، أولاً: لأن المستقبل يعني المجهول، وثانياً: لأنَّ بوادرَ الحاضر تنبئ -كما أنبأَت سابقاً- أن الإنسان نفسه هو من يدفع أغلى الأثمان في تقدمه.

تنتهي الروايتان باسترجاع الفرد لفرديته وإنسانيته، لكن هل يمكنُ أن نأملَ عودة الإنسانية بعد الأوبئة والحروب التي تخبرنا على الدوام أننا نتشيأُ وننصهرُ على نار التكنولوجيا أكثر فأكثر كل يوم؟ وإن كانت الروايات تُظهر في النهاية فرداً واحداً أو قيمةً عليا كالحب تُعيد السلام والمنطق والجمال إلى العالم، فهل سيكفي بروز فرد ما لإنقاذنا من ضلالات الأجيال كلها؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: هيفا نبي

تدقيق لغوي: عبد الرحمن سامح.

اترك تعليقا