لمحات من مصر العثمانية.. تجارة مصر بين الانحدار والازدهار (1)

أسطورة الركود

سأحاول في سلسلة المقالات هذه التحدث عن بعض مظاهر الحركة في مصر العثمانية. والتي تخالف ذهاب البعض إلى ركود ذلك العصر بالكامل، وسنناقش بعض تلك المظاهر كما فصّلها الباحثون في كتبهم المختلفة..

في كتاب “التحولات الاقتصادية في مصر أواخر العصور الوسطى”، يناقش محمد فتحي الزامل مظاهرَ انحدار الزراعة والصناعة والحرف المختلفة والتجارة والأزمات النقدية، في عهد المماليك الجراكسة (857 – 923 هجريًا) – (1453- 1517 ميلاديًا). ففي عهد المماليك الجراكسة، حدث لمصر انحدار كامل في كافة القطاعات، وبكافة الأشكال.

وسنناقش فقط مظاهر تدهور التجارة الخارجية في ذلك العصر مستعينين بدراسة الباحث، وكيف أنّ تلك التجارة وجدت لها منافذ أخرى في العصر العثماني، بل كيف نشطت في العصر العثماني بشكل متزايد كثيرًا مما أدى إلى تراكم الثروات، وظهور طبقة رأسمالية تجارية قوية، وطبقة وسطى كانت سببًا في كثير من المظاهر الثقافية، ولكن ذلك سنناقشه في مقال آخر.

عوامل تدهور تجارة مصر الخارجية:

  • فشل الإدارة والقراصنة الفرنج

يتحدث محمد فتحي الزامل عن أسباب أهمّ عوامل تدهور تجارة مصر الخارجية، والتي من خلالها نكتشف أسطورة أخرى، وهي أنّ فشل الإدارة كان عاملاً حاسمًا في انهيار التجارة، وليس فقط الكشف الجغرافي لطريق رأس الرجاء الصالح، على يدِ الرحالة من البرتغال.

كانت تجارة العبور هي المورد الرئيس لسلطنة المماليك، وكانت توفّر لها الحدّ الأدنى من احتياجاتها المالية، في ظلّ التدهور الشامل لأوضاعها الاقتصادية، وكانت السلطنة تستخدمها كورقة ضغط على القوى الأوروبية. وأعطى المماليك امتيازات عديدة للجاليات الأوروبية من التجارة، كحقّ إقامة فندق خاص، وحقّ استعمال نقودهم، وحقّ لجوء سفنهم -في حالة الضرر- إلى الموانئ المملوكية.

إعلان

وكانت مصر تعمل كوسيط بين سِلَع الشرق وبضائعه، في مقابل سلع الغرب، وجنت من وراء هذه الوساطة أرباحًا طائلة في شكل الجمارك والرسوم التي فرضها المماليك. ولكن بسبب تدهور الزراعة والحرف، والأزمات الاقتصادية المتعددة التي ضربت الدولة، تراجعت المنتجات المحلية التي كانت تصدرها مصر.

وبسبب أرباح تلك الجمارك للدولة، فرض المماليك رسومًا باهظة للغاية كانت سببًا في العديد من المشاكل. ويمكن القول أنّ السلعة التي وفّرت الرّبح الأكبر في ذلك الوقت، كانت الفلفل والتوابل. وحاول سلاطين المماليك احتكار تجارة تلك السلعة، والتلاعب في أسعارها، بل وإجبار بعض التجّار الأوروبيين على شرائها بالأسعار التي يطلبونها، وكان ذلك سببًا في تذمر كثير من التجار الأوروبيين، كما أضرّ ذلك الاحتكار بالتجّار المحليين. وكان يصاحب ذلك الكثير من عمليات الغش والتلاعب بين الدولة المملوكية -نتيجة انتشار الفساد في مؤسساتها- وبين أصحاب الأموال من التجار من الغرب، مما تسبب في حدوث كثير من المشاكل. ويشرح الأستاذ محمد فتحي الزامل وبالاعتماد على الوثائق والمصادر التاريخية، تلك المظاهر وتبعاتها بالتفصيل.

سبب آخر من أسباب انحدار التجارة، هو القراصنة الفرنج، والذين كانوا يشنّون الكثير من الغارات على قوافل السفن التجارية المصرية، فيحتجزون أفرادها وبضائعها، وكانت الدولة المملوكية تقوم بالرّد بأن تقبض على جميع التجار الأجانب في الإسكندرية، لحين توسط القوى الأوروبية للإفراج عن السفن المحتجزة من قبل القراصنة.

  • اكتشاف رأس الرجاء الصالح

الضربة القاصمة للتجارة الخارجية المصرية، كانت بسبب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح؛ فالدولة البرتغالية كانت تحاول احتكار سلعة التوابل بالكامل، وهي السلعة الاستراتيجية في ذلك الوقت كما قلنا. وبالفعل بوصول البرتغاليين إلى الهند، قاموا بمهاجمة كافة الأساطيل والسفن التجارية هناك، وامتدّ نفوذهم حتى البحر الاحمر، وكانت الخسائر فادحة على الدولة المملوكية، كما على البندقية، والتي تضررت بشدة من تلك الأفعال.

عانت الأسواق المصرية أزمة حقيقة، فقلّت التوابل المعروضة في الأسواق بسبب الاحتكار البرتغالي، وقلّت البضائع بشكل عام، وبسبب ذلك قلّت المكوس والجمارك، والتي كانت تشكّل المورد الرئيسي للدولة المملوكية، فانتكست التجارة. وقلت موارد الدولة المالية، مما تسبب في مزيد من الصعوبات.

ويجب أن نقول أنّ التجارة الداخلية، لم تكن أفضل حالًا من الخارجية في العصر المملوكي الجركسي، بل تعرضت لعديد من الانتكاسات نتيجةً للاحتكار، والفساد، وفرض المكوس والضرائب الباهظة، والتلاعب بالنّقد، فتسبّب ذلك بركود تلك التجارة بشكل كبير والتي فسّرها الباحث بشكل مفصل في كتابه.

ونختم الحديث عن التجارة الخارجية باقتباس من الكتاب: “أما تجارة مصر الخارجية، فقد وجدت فيها السلطات المملوكية ضالّتها المنشودة، من حيث الوصول إلى العائدات المالية التي تكفل بقاء الحياة في أوصال الدولة، خاصة مع تردّي البنية الاقتصادية في مصر. ومن ثمّ لم تسلم التجارة الخارجية، هي الأخرى، من نشوب أزمات متكررة بين السلطات المملوكية وشركائها في تجارة العبور، نشأت أغلبها من محاولات السلطات المملوكية المستمرة لزيادة عائداتها المالية، من خلال محاولاتها المتكرّرة لاحتكار تجارة التوابل، وما واكبها من محاولات أخرى لزيادة الرسوم الجمركية، سواء بحقّ أم بغير حقّ. غير أنّ محاولات البرتغاليين لانتزاع تجارة التوابل المربحة من أيدي المماليك، قد مثّل ضربة قاصمة للاقتصاد المملوكي المترنّح أصلاً، فحرم الدولة من عائدات تجارة العبور، التي طالما أمدتها بأسباب الحياة”.

من مظاهر النهضة التجارية في مصر العثمانية:

سنتحدث الآن عن بعض مظاهر النهضة التجارية في مصر العثمانية، حيث كان نشاط تلك التجارة سببًا مباشرًا في نشوء طبقة حضارية تجارية ثريّة، قامت بجمع الكثير من الأموال عن طريق تلك التجارة ثمّ ضخها بأشكال مختلفة وإعادة استثمارها، وسنتحدث:
أولاً: عن تجارة مصر عن طريق البحر الأحمر والمتوسط وبعض الطرق الأخرى.
ثانيًا: كيف نشأت بسبب حركة التجارة الكثيفة طبقة تجارية حضرية ثرية.
ثالثًا: مظاهر ثقافة تلك الطبقة الحضارية.
رابعًا: نشأة طبقة في ريف الدلتا من أغنياء الأعيان وعلاقتها بالطبقة الحضارية التجارية، وعن طريق ذلك سنوضّح كيف لعب التجار دورًا مهمًا في نهوض وسائل الإنتاج بشكل عام، وأنهم حاولوا استثمار أموالهم لا اكتنازها.

البحر الأحمر والتواجد العثماني

قامت الدولة العثمانية بغزو مصر عام 1517، تعرضت تجارة البحر الأحمر حينها لضربات شديدة نتيجة التواجد البرتغالي الذي أصبح خطرًا لا يستهان به. ويخبرنا عبد الرحمن عبد الرحيم في كتابه “فصول من تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في العصر العثماني“، عن كيف أنّ الدولة العثمانية كانت قد تفهمت الخطر البرتغالي الذي استمرت محاولاته للسيطرة على التجارة بالكامل في البحر الأحمر، حتى وصلت القوات البرتغالية إلى عدن والتي كانت ميناءً في غاية الأهمية، وفرضت جزية، وتحكمت في الملاحة.

ويخبرنا الدكتور عبد الرحمن، عن أن الدولة العثمانية بدأت منذ العام 1538، في النظر إلى أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية للتجارة، وكانت أول خطوة هي إرسال حملة إلى عدن للسيطرة عليها. وعام 1557، أرسل العثمانيون حملات أخرى، كما أعلنوا عن منع دخول المراكب المسيحية للبحر الأحمر، لأنه يطل على الأماكن المقدسة للمسلمين؛ والأكيد أنه تحت تلك الصيغة الإيديولوجية للمنع، كان العثمانيون يريدون حماية مصالحهم التجارية في تلك المنطقة.

لكن في حقيقة الأمر، بدأت قوى دولية أخرى تتطلع للحصول على منفذ في تلك المنطقة تجاريًا، فحاول الإنجليز إرسال بعثات لإقامة علاقات تجارية عام 1609 و1610، ولكن فشلت تلك المحاولات. إلى أن أرسلوا بعثة مرة أخرى عام 1612 إلى المخا، وحينها صدرت تعليمات من الباشا العثماني في صنعاء، بالسماح للإنجليز بالتجارة بكافة الأشكال.

كما وصلت بعثة هولندية أيضًا إلى عدن عام 1614، وأقاموا وكالة هولندية للتجارة عام 1616 في الشحر. وأقام الإنجليز عام 1618 وكالة تجارية بالمخا، وتحولوا بعد ذلك إلى أحد أهم القوى التجارية في البحر الأحمر. وعام 1709، وصل الفرنسيون إلى المخا، وأقاموا بها وكالة تجارية، ثم أرسلوا بعثة تجارية أخرى بعدها بقليل.

وأثّرت هذه القوى الأوروبية وتواجدها في البحر الأحمر على الدول التي تطل على تلك المنطقة الاستراتيجية كثيرًا، ومنها مصر؛ وذلك من خلال الاتفاقيات والتبادلات التجارية بين تلك القوى الأوروبية ومصر، وتبادل السلع والذي كان يحمل معه تبادلًا ثقافي، وكل ذلك في إطار منافسات تلك القوى الأوروبية وبعضها البعض.

التجارة المصرية في البحر الأحمر.. البنّ كسلعة استراتيجية

سنستعين هنا بدراسةِ أندريه ريمون الهامةِ كمصدر، وهي: الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر، حيث سنستخدم الجزء الأول من الدراسة. كما سنستعين بكتاب الدكتور عبد الرحمن عبد الرحيم. ويذكر أندريه ريمون كيف تحوّل البنّ لسلعة استراتيجية في غاية الأهمية، جلبت أرباحًا طائلة لتجّار القاهرة، حيث صعد البنّ محلّ التوابل والفلفل، والذي كان يحتلّ المكانة العليا كسلعة في نهاية العصر المملوكي الجركسي كما وضحنا. ويذكر ريمون بالتفصيل -في الفصل عن تجارة مصر الشرقية، وخاصة تجارة البحر الأحمر- الطرق المستخدمة في التجارة، والسفن المستخدمة ووصفها بالتفصيل، وطواقم تلك السفن والتراتبية القائمة لتنظيمهم، والملاحة في البحر الأحمر والعوامل الطقسية المؤثرة فيها.

ويقول أندريه ريمون أنّ تجارة مصر -وخصوصًا القاهرة- مع الشرق قامت على النحو التالي:

– تصدير المنتجات الأوروبية للحجاز وبصفة خاصة المنسوجات، والمنتجات المحلية السلع الغذائية.
– كما استوردت من الحجاز بن اليمن والتوابل، والعقاقير المختلفة للجزيرة العربية، والمنسوجات الهندية.
فنسكتشف من ذلك كيف كانت القاهرة سوقًا لإعادة تصدير المنتجات الأوروبية إلى الحجاز واليمن والقادمة إلى مصر عن طريق البحر المتوسط، كما كانت تستورد البنّ من اليمن، وتصدّر للحجاز المواد الغذائية، كانت القاهرة سوقًا في منتهى الأهمية، مليئًا بالحركة والنشاط، به حركة دائبة من الاستيراد والتصدير.

أرباح البنّ:

يقول أندرية يمون، كانت التوابل والعقاقير تمثل التجارة الرائجة والسائدة في مصر، إلا أنه في القرن السابع عشر والثامن عشر تراجعت ليحلّ محلّها تجارة البنّ. ومع أنّ أكتشاف البنّ تمّ حديثًا، إلا أنّ انتشاره الناجح -كما يقول ريمون- كان مذهلاً. ويُقال أن بداية استخدام البنّ، كانت بين الطرق الصوفية.

يتحدث ريمون في كتابه عن أنّ التجار المصريين اعتادوا ألا يبيعوا البنّ إلا بنسبة ربح هي 100%. ويذكر ريمون أمثلة عديدة على كيف أنّ تجارة البنّ شكّلت أرباحًا طائلة، عن طريق ذكر أسعار شراء التجار له، ونسبة الربح منه. فبسبب تلك التجارة الناجحة، تمكن تجار القاهرة من تشييد إمبراطورية جديدة، وذلك بعد انتهاء عهد الكارمية (أي تجارة التوابل).. حيث كان هؤلاء في عصر المماليك، لهم السيطرة الكاملة بسبب تجارة التوابل.

ويذكر ريمون أنّ البنّ يُعدّ السلعة الوحيدة التي تتوفر عنها معلومات إحصائية متواصلة، مما يعكس أهمية تلك التجارة، حيث يستشهد ريمون بأقوال بعض القناصل الأجانب عن كيف حققت مصر ثراءً عظيمًا من وراء هذه التجارة. كما يتحدّث ريمون عن تركات تجارة البنّ في المحاكم الشرعية، والتي كانت تبلغ أمولا عظيمة قياسًا إلى ذلك العصر.

ورغم ذلك تعرضت تلك التجارة للتدهور في نهاية العصر العثماني، ويذكر ريمون بضعة أسباب لذلك منها:

1- اتّجاه الأوروبيين لشراء البنّ مباشرة من اليمن، دون استيراده من وسيط.
2- زيادة التواجدات الأوروبية بشكل عامّ في البحر الأحمر، وذكرنا أمثلة على ذلك في ما سبق.
3- محاولات فرنسا إغراق الأسواق بِبُنّ من مستعمراتها، أرخص ثمنًا.
4- دخول فئات مختلفة في تجارة البنّ، منها المسيحيين الشوام.

ويخبرنا الدكتور عبد الرحمن أنّ تجارة البحر الأحمر كانت سببًا في ازدهارٍ شديد للتجارة، ونهوضٍ لفئة التجار، والتي حازت مكانة ثقافية وسياسية أيضًا مرموقتين، ولعبت دورًا مهمًا في المجتمع. وسنتحدث فيما بعد عن كيفية تعامل التجار مع بعضهم البعض، والوسائل المختلفة التي استخدموها والتي تدلّ على نهضة تجارية قوية في العصر العثماني.

تحدّث كلّ من ريمون والدكتور عبد الرحمن عن تجارة مصر مع أفريقيا، والتي كانت عبارة عن قوافل تأتي بأشكال دورية محمّلةً بالسلع الأفريقية الممثلة في تراب الذهب والعبيد والأصماغ الممتازة والتي شكّلت عاملاً مهمًا في صناعة النسيج والعاج، والأحجار الكريمة وغيرها من الأشياء، ولكن في نهاية الأمر لم تحقّق تلك التجارة العائد الأكبر من الأرباح. ويرجع ذلك إلى عدم أمان طرق السفر وهجوم القبائل العربية في الصعيد على هؤلاء التجار، مما كان يسبب لهم خسائر فادحة يذكر منها ريمون أمثلة كثيرة، حيث من الممكن أن يموت معظم من بالقافلة قبل أن يصل إلى وجهته، وبالتالي يظلّ المنفذ الأكبر للتجارة هو تجارة البنّ والتوابل.

 تجارة مصر في البحر المتوسط

كانت الدولة العثمانية إمبراطورية مترامية الأطراف، والحقيقة أنه نشأت علاقات تجارية قوية بين الولايات العثمانية وبعضها البعض. وبالتالي فتحت مظلة الإمبراطورية حدث تبادل ثقافي وتجاري كبير. نتيجة للسماح بحرية الحركة بين الولايات المختلفة، ولعبت مصر دورًا مركزيًا في ذلك، حيث شاركت في حركة التجارة الكبيرة بين تلك الولايات وبعضها البعض، كما قامت بالتصدير والاستيراد من المركز ذاته وهو تركيا، وتلك التجارة مع الولايات الأخرى هي التي حققت التوازن، في ظل تفوّق أوروبي في ذلك الجانب من التجارة.

ويقول أندريه ريمون، أنّ الإسكندرية ورشيد والدمياط مثلت الموانئ الرئيسية للتجارة، فالإسكندرية حظيت بالنصيب الأكبر من التجارة البحرية مع أوروبا وشمال أفريقيا وتركيا. ولكنها في النهاية كانت منطقة عبور، بل يذكر ريمون كيف تدهورت الإسكندرية في ذلك العصر.. إذ صارت فقيرة في أبنيتها وسكّانها، حيث لم يتجاوز عددهم عشرة اآلاف نسمة.

ويقول ريمون أنّ المصريين ساهموا بنصيب محدود للغاية في حركة الملاحة في البحر المتوسط، فكان التفوق الأوروبي في الملاحة كبيرًا، كما في العلاقات أيضًا. فالسفن الأوروبية كانت أكثر أمانًا وسرعة، وتمتلك تقنيات أعلى. فاستخدمها التجار في معاملاتهم، ولم يعتمدوا على التجّار المحليين بشكل كبير. فالتأخر التقني للسفن العثمانية بكافة الأشكال، حال دون ازدهار التجارة في تلك المنطقة.

كانت مصر تصدر إلى أوروبا المواد الخام الغذائية، والمواد الأفريقية التي استوردتها، كما بالطبع البنّ والتوابل. وأيضًا المنسوجات المحلية، والتي تعد المنتج الحرفي الوحيد الذي شقّ طريقه إلى أوروبا، وسنتحدث عن صناعة المنسوجات بالتفصيل في موضع آخر. وكانت مصر تستورد من أوروبا الورق وسبائك المعادن والزجاج.

الولايات:

يقول ريمون، كان من البديهي أن يؤدي التحاق مصر بالدولة العثمانية إلى تسهيل إقامة العلاقات بينها وبين الأقاليم التابعة للدولة في أوروبا وآسيا، وفي فتح آفاق تعدد المبادلات التجارية بينها. وعلى ذلك، نشطت التيارات التجارية في هذه المنطقة الجغرافية طيلة القرن الثامن عشر.

فقامت مصر بتصدير كميات كبيرة من الأرز والبنّ والمنسوجات والكتان وكافة المواد الخام والسلع نصف المصنعة، للمركز العثماني، ولكافة الولايات. وكانت مصر في المقابل تستورد الأقشمة التركية والمنسوجات والتبغ.

ولبيان حجم تلك التجارة، يكفي القول أنّ تجارة مصر مع إسطنبول بمفردها، بحجم تجارتها مع أوروبا بأكملها، مما يدل على ازدهار تلك التجارة، والتي كانت سببًا في تدفق العملات المختلفة، من التجّار الأتراك إلى الولايات، وبين الولايات وبعضها البعض. كما دخلت مصر في تجارة مزدهرة مع المغرب العربي والشام، حيث قام تبادل قوي بين مختلف السلع والمنتجات.

مثّلت تجارة مصر المزدهرة منفذًا لتكوين ثروات هائلة وسيولة نقدية كبيرة. وسنتحدث في مرة قادمة عن القاهرة والتجارة بها، قبل الحديث عن تلك الطبقة التجارية بالتفصيل، ومظاهر ثقافتها.

كانت القاهرة تمثل أكبر مركز استهلاكي يوجد في مصر، فاجتذبت لها عددًا كبيرًا من منتجات الأقاليم، وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل في موضع آخر، كما وزع التجار سلع القاهرة، إلى القرى وأسواق مصر السفلى، مقابل شراء المنتجات المصنعة في تلك الأقاليم مثل المنسوجات والمواد الخام، وسنتحدث عن ذلك أيضًا بالتفصيل. ويقول ريمون، أنّ الدور الذي لعبته القاهرة كسوق محلي وقومي ودولي كان وراء استقرار جماعات مهمة من التجار من كافة الجنسيات.

يشرح ريمون بالتفصيل في كتابه تطوّر مراكز النشاط التجاري في القاهرة، من القيساريات والأسواق والحوانيت، فيقدم لها الوصوف المختلفة، من حيث أشكالها وأعدادها وأماكنها. والحقيقة أن ما يهمنا في هذا الأمر، هو التنوع الشديد في كل تلك المباني والأنشطة، والذي يكشف عن مجتمع متحرك ليس بذلك الثبوت الذي يظنه البعض. فالمرء سيُذهل عند قراءة كل تلك السلع والأسواق والأنشطة التي يمارسها سكان المدينة. ويذكر ريمون بالأرقام، كيف تطورت تلك الأسواق بشدة وزادت في الأعداد.

وبسبب تلك الحركة التجارية، نشأ أنواع متعددة من الوسطاء الذين ساهموا في تلك العمليات. ويذكر ريمون الدلّالين الذين كان كبار التجّار يعهدون إليهم بمهمة بيع المنتجات وتصريفها، من تجّار الجملة لتجّار التجزئة، والسماسرة أيضًا. ويُذكر أنّ أعداد هؤلاء الوسطاء كانت كبيرة جدًّا. ويذكر ريمون أيضًا القبانة والكيالة، وهم من يجعلون الصفقات أكثر سهولة، بحيث يضيفون عليها ضمانات الثقة والدفة.

ويذكر ريمون بعض أسباب عرقلة النشاط التجاري من وجهة نظرة، وهي إيديولوجية.. منها الشريعة الإسلامية، والتي كانت تنهى عن الاحتكار وعن إقراض الفوائد، والاحتيال وإلخ. فسادت روح من القناعة والتعاون، بدلًا من المنافسة والتي تمثل نوعًا من الحافز للتطوير. وأيضًا يرى في كثرة الوسطاء سببًا في تحجيم المنافسة وتفتّت الأنشطة التجارية ذاتها، لأنها كانت بشكل ما عائلية، فنتيجة للتوريث كانت تتفتت في نهاية الأمر إلى مجموعات صغيرة، مثلما حدث في تركة الشرايبي.

وكانت تلك الشركات التجارية في إطار عائلي هي سبب عدم الاستقرار، وعدم طول مدة الاستثمارات. ويُرجع ريمون ذلك -كما قلنا- إلى تطبيق التشريع والميراث، وهنا يظهر بشكل ما تأثير العامل الإيديولوجي في الواقع، فبسبب التوريث كان يحدث تبديد سريع لرأس المال. كان السائد بين التجار هو الشراكة، وتكون بين اثنين على الغالب، وأحيانًا ثلاثة أو أربعة. وكانت تنقضي بمجرد إتمام الصفقة، وذلك أيضًا يمثّل أحد جوانب الضعف. حيث لم يصبح هناك شركات حقيقية بكيانات مادية مستقرة، تستطيع الاستمرار لأمد طويل.

 

خاتمة

تحدثنا في هذه المرة، عن انحدار التجارة الخارجية في نهاية عصر المماليك، وازدهار التجارة المصرية في العصر العثماني ممثلة في تجارة البحر الأحمر بالذات، وعن كيف أنّ هذه التجارة كانت سببًا في تدفق الأموال إلى الاقتصاد، وتكون طبقة تجارية ثرية، ثمّ تحدّثنا عن القاهرة وبعض مظاهر الازدهار التجاري بها، ووسائل هؤلاء التجار في تعاملهم سويًا.

وفي المرة القادمة، سأحاول الكتابة عن المنسوجات المصرية تحديدًا وتصديرها إلى أوروبا، كما سنناقش بعض المظاهر الثقافية التي نشأت عن نشوء الطبقة البورجوازية التجارية، كما سنحاول الحديث عن كيفية مساهمة هؤلاء التجار في نشأة طبقة ريفية من الأعيان عن طريق التمويل، والعلاقات التجارية بين الطبقتين، وكيفية مساهمة طبقة الأعيان، في تطوير وسائل الإنتاج في الريف والتقدم الصناعي والحرفيّ بشكل ما.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد رمضان

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا